بنى أفلاطون تصوُّرَه عن جمهوريته الفاضلة ونظام الحكم فيها على أساس من محاكاة نظام الدولة وتكامل أعضاء جسم الإنسان، أي انه تخيل شكل «الدولة المدينة» في ذلك الوقت، وصورة التكوين الإنساني نفسه. وغير بعيد عن هذه المحاكاة، فقد اطلق أطباء الصين العباقرة القدماء على الأعضاء الرئيسية في جسم الإنسان أوصافاً تشابه المناصب او المراكز التي يمثلها رجال الدولة، وهكذا رأوا ان القلب يمثل الملك والكبد هو الجنرال، واذا كان الجنرال او قائد الجيش أي الكبد بخير فانه يمكن تجاوز المصاعب الأخرى، أما الحاكم فهو المرارة.
ولكن عبد الرحمن بن خلدون هو من سيكون له فضل الريادة او السبق حتى على علماء الاجتماع السياسي الأوروبي في تأصيل هذه المقارنة، وبالتالي تأسيس او صياغة هذا الفرع من الفلسفة السياسية او الاجتماعية الذي يسمى اليوم «فلسفة التاريخ»، عندما قارن او لاحظ هذا القياس التاريخي في نشأة وتطور الدول ومراحل التحولات في حياة الإنسان الفرد، أي من الطفولة مروراً بالشباب ثم أخيراً الشيخوخة. وهو القياس الذي ينطبق أيضاً على التحولات التي تشهدها الحركات أو الأحزاب السياسية.
في عامها الواحد والثلاثين أي بدخولها في سنوات الثلاثين من عمرها قد لا تبدو «حماس» اليوم تشبه صورتها في سنوات نشأتها او طفولتها الأولى، وحتى ذروة مرحلة عنفوانها وشبابها. وان كانت لا تزال تحمل شيئا او أصداء من هذا الماضي، اذا كانت مراحل التطور في حياة ومسيرة الحركات السياسية او الدول كما الافراد في الحياة الانسانية لا تنطوي على هذا القطع التام مع الارث القديم، الذي يتمثل بمجموع الافكار والخصائص او الطباع التي تنشأ من رحم الولادة، وتصبح كما لوحة الجينات البيولوجية يبقى تأثيرها بعد ذلك كما الرواسب التي تجعل للماضي او الارث القديم سطوة على الحاضر.
وربما ان هذا الماضي حتى لا يختفي تماما في المواقف التي يتخذها الأعداء من الحركة نفسها والمقصود هنا إسرائيل بالدرجة الأولى كما الخصوم، ونلاحظ هنا كيف أعاد الإسرائيليون صياغة جوهر هذا الموقف الأول والقديم من الحركة عند بداية تبلور نشأتها، وتكييف هذا الموقف في المراحل القادمة. وكان هذا الموقف الأصلي في عقد السبعينات الماضي قد تمثل بغض النظر الإسرائيلي عن تبلور هذه الحركة كنوع من الرهان على خلق قوة او كيان سياسي وايديولوجي يستطيع منافسة منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي خلق الارضية لاحقا للعب والمناورة على هذا الاختلاف الايدولوجي كبديل عن التناقضات الطائفية او العرقية التي لا يوجد نموذجها في المجتمع الفلسطيني.
وقد نعزو الآن الى هذا الموقف المبكر قرار شارون العام 2005 الذي لم يخل من دهاء خبيث وماكر بالانسحاب من غزة، بما في ذلك هدم المستوطنات فيها كسابقة تاريخية لم تحدث قبل ذلك الا في سيناء بعد توقيع اتفاقية السلام مع مصر، لخلق الشقاق او زرع أرضية الانقسام فيما بعد، بعد أن أصبحت «حماس» في غزة قوة حقيقية ووازنة على الأرض. حتى وان كانت هذه الفرضية او التفسير لا يقللان من أهمية جرأة وجدارة تأثير عمليات المقاومة، التي قامت بها «حماس» في التأثير الحاسم على اتخاذ شارون هذا القرار. الذي نظرت اليه «حماس» ومازالت ربما بصورة غير معلنة على انه كان بمثابة الانتصار السياسي والعسكري والمعنوي الاول، الذي يمنحها الشرعية في اهلية مشاركتها في الحكم باعتبار ان من يحررون البلاد هم الأولى بحكمها. وهو الأساس الذي سوف يخلق فيما بعد ازمة العام 2006 بعد نجاح «حماس» الساحق في الانتخابات التشريعية والذي انتهى الى احداث الانقسام الأهلي المسلح عام 2007.
واستطراداً في هذا السياق، فإننا قد ننظر الى عدم تدخل إسرائيل العام 2007 في النزاع المسلح في غزة، على انه امتداد لنفس الاستراتيجية السابقة بغض النظر اذا كان حزب العمل هو الذي يحكم في إسرائيل او الليكود. ولا تخرج المناورة الصامتة التي يديرها نتنياهو اليوم عن هذا السياق، عبر تشجيع الفصل النهائي بين غزة والضفة وصولاً الى دعم إقامة الدولة الفلسطينية نفسها، على ان يقتصر طموح الفلسطينيين على إقامتها في غزة فقط.
في سنواتها الثلاثين مازالت تحمل شيئاً من اسمها.. حماستها وعنفوان طاقتها، وربما شيئاً من غموض إبهامها القديم، ولكنها اذ يمكن مقارنتها او قياسها، فإنها تبدو كما لو انها تطلق صهيل صوتها الأخير، وقد بلغت ذروة تمددها وقوتها وانحسرت براءة طفولتها الاولى وحتى سذاجتها. اكثر قرباً من الواقعية وربما نقول العملانية البراغماتية، واقل من طغيان وسطوة الأيدولوجية التي ميزت نشأتها او سنواتها الأولى.
ورغم ان هذه الأحلام الكبيرة التي ترافقت مع عنفوان شبابها أي في العشرينات من العمر، في طور التطلعات الكبرى وربما التصورات الطوباوية لم تختف تماماً، فان المفترقات الحاسمة التي تقف الحركة اليوم أمامها لم تعد تطرح متسعاً من المناورة، او التردد والتأجيل في حسم خياراتها اذا كانت هذه هي سنوات الحسم لتحقيق الإنجازات الكبرى وتأكيد الذات، في عمر أفراد البشر العاديين كما الحركات السياسية وحتى الدول.
ولعل هذا هو الموقف الذي يمكن مقارنته مع الوضع الذي بلغته حركة فتح قرينتها في هذا القياس، حين بلغت هذه المرحلة الحاسمة عام 1995 في التحول من حركة الى سلطة أشبه بنواة سلطة دولة على أجزاء من الأرض الفلسطينية، بعد بلوغ «فتح» الثلاثين من عمرها وكان إنجازها الأكبر. وهو المنعطف الحاسم في الوقت نفسه الذي يرافق مستقبلهم بعد ذلك الى عدم اليقين، قبل بلوغهم ازمة منتصف العمر او ما يسمى «كوارث الأربعين» حين ذهبت «فتح» الى الانتفاضة الثانية الأكثر هولاً وعنفاً بعد إنجازها الثلاثيني العظيم. وهو ذات القياس الذي مرت بتجربته إسرائيل نفسها مع ذروة قفزاتها العسكرية والسياسية تحت حكم حزب العمل الذي امتد الى ثلاثين عاماً.
في سنوات الثلاثين لا تبدو هذه الحركة وقد خاضت حروبها الثلاث الكبرى مع إسرائيل، وواصلت حكمها لغزة كسلطة الأمر الواقع. وباختصار اجتازت تجاربها القاسية والمكثفة في سبيلها الى التراجع او التخلي عن المشاركة في الحكم، او الحكم بصورة منفردة. اي حكم «الدولة المدينة» دولة أفلاطون القديمة والتي هي غزة، كشرط للقبول بالمصالحة الفلسطينية وكتصور لما تراه الجمهورية الفاضلة ونموذج مغاير للسلطة في رام الله اذا كانت هذه المصالحة تقف في الواقع أمام عقبة توازن الحكم والنموذج. بين نموذج السلطة في رام الله والسلطة والنموذج المطلوب اقامته في غزة.
وبخلاف افلاطون الذي نظر الى الحكماء باعتبارهم الاقدر على الحكم وتولي الرئاسة، فان حكم الشراكة بين رأسين وائتلاف الفصائل هو المعادل الذي تطرحه «حماس». أما البديل عن هذا الخيار أي فشل المصالحة فهو ربما يقود الحركة للاستقلال الفعلي بحكم الدولة المدينة، مع تبرير الإقدام على هذا الخيار بقدر من «الذرائعية السياسية»، وقدر لا يقل عن هذه الذرائعية في إظهار مزايا وحسنات هذا التحول في تحسين ظروف حياة الناس وتحقيق مصالحهم الحيوية المباشرة، دون الاكتراث لما يمكن ان ينظر اليه كفعل آثم، اذا كان يقف خلف كل ذلك ثقة زائدة بالنفس، وان المهم هو ما يفعلونه وليس ما يقال.
فهل تستطيع روسيا التي تدخل الى المنطقة اليوم من بوابتها السورية لتعيد إليها التوازنات المفقودة وانحسار وتراجع التمدد الأميركي، ان تنجح في ظل هذه المتغيرات الكبرى التي تعصف بالمنطقة، وليس الفلسطينيون بمنأى عن تداعياتها، في إنجاح وتحقيق الوحدة او المصالحة التي تعني الشراكة بين هذين الرأسين «حماس وفتح»، وبالتالي تجنب الخيارات الصعبة والمحفوفة بالمخاطر اذا كان الوقت والزمن هو وقت تعديل التوازنات، والاعتراف بهذه التوازنات على حد سواء، وبالتالي الحفاظ على سيرورة ومستقبل تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني.