لحظات حرجة...حسين حجازي

السبت 15 ديسمبر 2018 01:49 م / بتوقيت القدس +2GMT



ما حدث في رام الله والبيرة، الأسبوع الماضي، أغضب الفلسطينيين على اختلاف مواقفهم أو انقساماتهم؛ لما مثله هذا التجاوز باقتحام ومحاصرة المدينتين من استفزاز لمشاعرهم؛ لما لهما من المكانة والأهمية التي تمثلهما؛ إذ ينظر الفلسطينيون والعالم إلى رام الله باعتبارها العاصمة السياسية المؤقتة لدولتهم، وحيث إنها مقر القيادة الفلسطينية التي هي قيادة الشعب الفلسطيني أكثر مما هي قيادة السلطة الفلسطينية بحدودها الجغرافية، كما المؤسسات الإدارية للدولة الفلسطينية العتيدة وثقلها الإعلامي والثقافي، ولكل هذا شعر الفلسطينيون سواء هنا في غزة أو الضفة بنفس القدر من الشعور بالغضب.
وقد يكون صحيحاً أو واقعاً وبديهياً ويومياً جارياً أن الاحتلال يواصل كل ليلة وكل نهار هذه الاقتحامات والاعتقالات دون توقف أو هوادة أو ملل، وكأن هذا هو عمله اليومي. وإننا نعلم أن رام الله على مكانتها السياسية إنما هي كذلك لا زالت واقعة تحت قبضة الاحتلال، حتى ولو كان هذا الاحتلال غير مرئي بهيئته القبيحة والمستفزة داخل حدود المدينة، ولكن ربما في كسر أو قطع هذا الخط الرقيق أو الشعرة الواهية التي تفصل ما بين الاحتلال غير المرئي وخلعه هذه القفازات، هو ما يجعل الفلسطينيين ينظرون إلى ما حدث على أنه مس خطير بمشاعرهم وعواطفهم، أي بالجانب المعنوي أكثر من النظر إليه في إطار التحليل السياسي الواقعي.
وزاد في تعقيد حدة هذا الشعور أن هذه الأحداث ترافقت مع وصول المدرعات والجنود الإسرائيليين قرب المقاطعة، والاعتداء على بعض المقرات والمؤسسات، ونشر المستوطنين ملصقات تحمل تهديداً بقتل الرئيس أبو مازن. ما أعاد تذكير الفلسطينيين بأحداث أليمة لا تزال إلى الآن ينظر إليها الفلسطينيون كثقب أسود في ذاكرتهم، يودون تناسيه أو حذفه من ذاكرتهم، أي الأحداث الأليمة بحصار شارون للمقاطعة والتي انتهت باغتيال عرفات بالسم.
ونعرف الآن أنه في غضون هذه الدراما التي شهدتها الضفة الغربية وبلغت ذروتها في نهاية الأسبوع، عندما استطاعت قوات الاحتلال الوصول إلى أشرف نعالوة وصالح البرغوثي وقتلهما، أنه في خلفية التجاوزات التي حدثت في رام الله والتهديدات بقتل الرئيس وهي التجاوزات التي قدرت وزارة الخارجية الروسية أن على إسرائيل تقدير عواقبها، كان الاحتلال على وشك أن يفقد صوابه بعد سلسلة من العمليات المسلحة التي قام بها فلسطينيون، بدت وكأنها تنذر بتفجر كرة اللهب في الضفة حيث يدور الصراع الحقيقي في كل ما يتعلق بمصير التوسع الإسرائيلي، ومصير المشروع الوطني الفلسطيني على حد سواء، الذي يمثله الرئيس أبو مازن.
واليوم وبعد كل مرة نشهد فيها هذه الذروة التي لا تنتهي من نزف الدم والقتل المتبادل بين الطرفين، كما لو أنه سجال بالدم لا ينتهي، فإن هذا الجنون ليس سوى دم على أيدي الاحتلال، وهو احتلال لا يتعلم أو يتعظ من تجربة الاستعمار في التاريخ رغم ادعائه الذي لا يخلو من ثقة زائدة في النفس تبلغ حد الغرور، أنه أذكى من الآخرين ويقوم في كل مرة بتقييم ما يسميه استخلاص العبر والنتائج بعد أي إخفاق أو فشل يواجهه.
ولكن ما يتم تجاهله هنا هو أن هذه الدروس تقتصر في كل مرة على الجوانب التقنية أو المهنية، أي في الجواب المضلل والخاطئ الذي ينحصر في تحسين الأداء أو العمل بشكل صحيح. بينما جوهر الموضوع والمشكلة ليس في كيفية إتقان الاحتلال استمرار وإدامة احتلاله بصورة تقنية، وإنما عمل الشيء الصحيح والجوهري وهو إنهاء الاحتلال أي سبب المرض والفشل الأساسي.
وهكذا فإن ما يحدث هو أنه كلما تطاول احتلال ما أي استعباد شعب لشعب آخر كما يلاحظ فردريك إنجلز رفيق ماركس، فإن هذا الاستعمار أو الشعب الذي يمارس استعباد الشعب الآخر لا يغدوا هو الآخر حراً، وأنه لا يعلم أنه مستعبد تماماً كما الشعب الذي يحتله ويضطهده.
ولقد مروا جميعاً بهذه العقدة أو التجربة المهلكة أو المرض القاتل من التمسك بإدامة الاحتلال، قبل أن تتفتت قوة هذا الاحتلال التي يراهن عليها، ويصحو الاستعمار من خطيئته أو قراراته المهلكة كما حدث مع بريطانيا وفرنسا اللتين مارستا في التاريخ الحديث أطول أمثلة على هذا الاحتلال المتطاول في الزمن.
والذي حدث في هذه الدراما التي شهدناها الأسبوع الماضي صورة أخرى من الأمثلة السابقة التي كانت تحدث زمن الاستعمار الأوروبي القديم. إن التفاخر بالقوة العسكرية بل وحتى الأداء لأفضل جهاز مخابرات في العالم كما يصرح قادة الاحتلال، وبالتالي فإنها مسألة وقت ليس إلا ثم نلقي القبض عليهم ونعتقل عائلاتهم وآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم وجيرانهم، ونهدم بيوتهم ونقتحم قراهم ومدنهم، ثم نذهب أبعد من ذلك إلى محاصرة رام الله وإغلاق الطرق أمام شعب بأكمله، إذا كانوا سوف يجرؤون على فعلتها ثانية كما حدث بالفعل بعد ساعات من شعورنا بالنصر عليهم ليلة الخميس. 
وهكذا يستمر الوضع وإذا لم يكفِ كل ذلك فإن التهديد أيضاً سوف يصل إلى غزة، إذا كانوا في حمأة هذه الهستيريا أو الجنون بانقلاب السحر على الساحر في الضفة، ولا يستطيعون استخدام السلاح الأقسى هناك، أي القصف بالطائرات. وحيث كل أنواع الردود في هذه اللحظة من تقلب المزاج وتكدر النفس، هي ردود غريزية وليست عقلانية، فإن القصف هو الذي يشفي هذه النزعة أو الغريزة المرضية من الانتقام والثأر من أجل سلامة بقاء الاحتلال، وتفوق هذا الاحتلال وعودة الشعب المحتل للخضوع إلى أبد الآبدين.
ورأينا هنا قبل عشرين عاماً ربما، أي قبل اندلاع الانتفاضة الثانية، أن المضي في زرع المستوطنات والاستيطان في قلب الضفة الغربية لمنع قيام الدولة الفلسطينية، نتيجته الوحيدة هي توسيع مساحة الاشتباك أو الاحتكاك بين الطرفين. واليوم ماذا يطلبون في هذه الصيحات؟ يطالبون بمنع مرور المركبات الفلسطينية في الشوارع والطرقات الالتفافية أي المرور قرب المستوطنات، بعد أن أصبح المستوطنون أهدافاً سهلة أمام الفلسطينيين.
إلى أين يذهب الفلسطينيون إذاً؟ لا حل سياسياً يلوح في الأفق ولا ضوء قريباً يبدو في نهاية هذا النفق، والاحتلال يضغط على الفلسطينيين بأكثر مما يُطاق أو يحتمل. وبعد ذلك كيف يمكن للإسرائيليين أن يفاجَؤوا أو يصدموا وقد عملوا كل شيء لكي يصعد الدم حد الغليان في رؤوس الفلسطينيين، ولم يتركوا لهم أي مخرج أو منفذ، وهذا هو قوام الأزمة اليوم. وقال ذات مرة ريجيس دوبريه المفكر الثوري الفرنسي الشهير رفيق جيفارا: "قل لي عن أي أزمة نشأت، أقل لك من أنت؟".
والواقع أن هذه الصورة التي نحاول إعادة تركيبها أو مقاربتها للمشهد، لا تكتمل دون الإشارة إلى أنه في خلفية هذا الحصار لرام الله ليس فقط الرد الغريزي على جرأة الفلسطينيين لما حدث من العمليات ضد الجنود والمستوطنين في نقاط الاشتباك أو الاحتكاك، ولكن بنفس القدر الرد على العمل الدبلوماسي والسياسي المنهجي والمتراكم، ولكن الذي ينطوي على دلالة إستراتيجية على المسرح العالمي، والذي يربك حسابات الاحتلال واليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل. وهي الإستراتيجية الناعمة التي يصفها هؤلاء المنفصلون عن الواقع "بالإرهاب الدبلوماسي"، وبدؤوا علناً التحريض على قتل الرئيس. 
وما جرى في المحصلة الأخيرة هي محاولة المسّ أو التشويش الصبياني على هذه المكانة السياسية والمعنوية لما تمثله هذه المدينة بنظر الفلسطينيين والعالم ككل، وربما ليس بنفس الأسلوب الفظ الذي مارسه شارون بصورة الدبابة التي تحاصر المقاطعة زمن عرفات. وهو ما يعني أننا قد نكون الآن إزاء عودة هذه اللحظات الحرجة.