على الرغم من الانفراجة المالية، لا تزال وكالة "الأونروا" في دائرة الاستهداف الإستراتيجي لكل من أميركا وإسرائيل. وقد ترافق استهداف الوكالة غير المسبوق، في نهايات العام 2016، مع مجيء ترامب إلى الرئاسة، وما يسمى "صفقة القرن"، لكن الحقيقة أن عملية الاستهداف ومحاولات التصفية للأونروا هي مشروع سياسي إستراتيجي منظم ومتجدد ومتشعب، يعمل عليه الاحتلال والإدارة الأميركية وحلفاؤهما في الخفاء والعلن منذ زمن بعيد، ويُوَظّف له جملة من الإجراءات بهدف نزع المسؤولية الأممية عن قضية اللاجئين الفلسطينيين التي تجسدها وكالة "الأونروا".
بادرت 4 دول عربية لسداد حوالى نصف العجز المالي لـ"الأونروا" لسنة 2018 (السعودية، الإمارات، قطر والكويت بدفع 50 مليون دولار لكل منها)، ويعتبر هذا مؤشراً إيجابياً على مستوى ضرورة تغطية الحاجات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، لكن دعوة الإدارة الأميركية للدول العربية لتمويل "الأونروا"، لا بل تهكمها على الدول العربية في مجلس الأمن على لسان مندوبة أميركا في الأمم المتحدة نيكي هايلي في نهاية تموز 2018 بسبب أنها، أي الدول العربية، "لا تقدم مساعدات للأونروا أو تكتفي بمساعدات هزيلة". وبالتوازي مع وقفها لمساهمتها المالية، لا يمكن اعتباره إلا مصيدة يراد بها التنصل من المسؤولية الدولية تجاه حقوق اللاجئين وتحويلها تدريجياً إلى الدول العربية، وبالتالي فإن أزمة "الأونروا" ليست أزمة مالية أو إدارية بقدر ما هي نتاج للاستهداف السياسي الإستراتيجي المنظّم.
يشكل تجاوز الأزمة المالية للوكالة دعماً معنوياً وسياسياً ومالياً قوياً من قبل الدول المانحة والمجتمع الدولي، فمنذ تأسيسها في كانون الأول 1949، لم تمر الوكالة بأزمة مالية وسياسية مشابهة في ظل وقف مساهمة أكبر الدول المانحة (أميركا)، إذ لم تدفع الإدارة الأميركية سوى مبلغ 60 مليون دولار خلال سنة 2018 من أصل حوالى 360 مليون تدفعها للوكالة سنوياً بسبب حجج وذرائع واهية أثبتت عدم صحتها.
ساهمت الأزمة التي عصفت بالوكالة بالمزيد من الوعي الإستراتيجي لأهمية المؤسسة الأممية للاجئين الفلسطينيين، وبالتفاف ملحوظ من الشركاء المتضامنين مع الوكالة من المؤسسات غير الحكومية المحلية والدولية، وبدعم مهم عبّر عنه الحراك الشعبي الوطني بين اللاجئين في المخيمات والتجمعات والمناطق، وبإجماع لكافة المشارب السياسية الفلسطينية على التمسك بالوكالة على قاعدة "نختلف مع الوكالة وليس عليها"، ناهيك عن الدعم القوي الذي عبّرت عنه الدول المضيفة للاجئين على المستوى الرسمي لأهمية واستمرار عمل الوكالة، لا سيما في الأردن الذي يستضيف العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين.
نجحت تركيا، التي تسلّمت رئاسة اللجنة الاستشارية لـ "الأونروا" من جمهورية مصر العربية، في الأول من تموز 2018، ولمدة سنة، بتجاوز الاختبار الأول والأقسى وفي فترة زمنية قصيرة، إذ لعبت دوراً مهماً في التحضير ولمُخرجات مؤتمر المانحين الذي عقد في 28 /9 /2018 في نيويورك على هامش أعمال الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى جانب كل من دول السويد والأردن واليابان والمجموعة الأوروبية، حينها تم الإعلان عن انخفاض العجز المالي من 446 مليون دولار إلى 64 مليون دولار.
رجحت كفة الفريق الذي يعتقد أن وكالة "الأونروا" حاجة إنسانية ضرورية وملحة لأكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني مسجل، وأن الوكالة عنصر أمن واستقرار في المنطقة، وهذا الفريق يمثل غالبية الدول الأعضاء بالأمم المتحدة وفي المقدمة منها دول الاتحاد الأوروبي، على كفة "الفريق"، المتمثل بالإدارة الأميركية ودولة الاحتلال الإسرائيلي والحلفاء، الذي يعتقد أن الوكالة تديم قضية اللاجئين وتدعم الإرهاب وأنها فاسدة وغير قابلة للإصلاح، وهو ما ذكره مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون وصهر الرئيس الأميركي كوشنير وغرينبلات ونيكي هايلي وغيرهم من المسؤولين الأميركيين ونتنياهو شخصياً.
وجّه تجاوز الأزمة المالية للوكالة صفعة قوية لدبلوماسية الاحتلال الإسرائيلي وشكّل فشلاً ذريعاً لسياسة ومخطط إسرائيل، فقد أعلنت نائب وزير خارجية الاحتلال أمام سفرائه في الدول الأوروبية وأميركا ودول عربية في بداية العام 2018، أن دبلوماسية الاحتلال لهذه السنة ترتكز على مسألتين: الأولى نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والثانية أن عهد "الأونروا" قد انتهى إلى الأبد، وبقيت "الأونروا".
أسقط تجاوز الأزمة المالية عنجهية الإدارة الأميركية التي حاولت ومن خلال ابتزاز سياسي رخيص مقايضة حاجات اللاجئين الفلسطينيين الإنسانية من خلال إدخال الوكالة في لعبة التجاذبات السياسية بين السلطة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي المحتل، ذلك حين أعلنت نيكي هايلي وبكل وقاحة، في كانون الثاني 2018، أن عودة مساهمة الإدارة الأميركية بالمبالغ المالية في ميزانية "الأونروا" مرهون بعودة المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي، وهو ما لم يتحقق.
اتخذت الإدارة الأميركية قرارها القاطع بوقف مساهمتها المالية السنوية للوكالة في 31 /8 /2018، لذلك ستدخل الوكالة سنة 2019 في عجز مالي قيمته 360 مليون دولار (المساهمة الأميركية)، والأصل أن تتحمل الأمم المتحدة مسؤولية توفير الأموال المطلوبة، فوكالة "الأونروا" ليست منظمة أهلية، وبالتالي ليست مكلفة بتوفير ميزانيتها بنفسها، وأي جهود تقوم بها الوكالة لجمع المبالغ المطلوبة هي جهود إضافية ولا تعفي الأمم المتحدة، التي من المفترض أن تكون قد أعدت خطتها بالتنسيق مع "الأونروا" لتجاوز العجز المالي المرتقب.
حتى لا يتكرر المأزق المالي والسياسي التي واجهته الوكالة وما سبّبه من حالة التخبط والإيذاء للموظفين واللاجئين والطلاب والمتضامنين... آن الأوان لاتخاذ خطوات جادة باتجاه حماية "الأونروا"، وتوسيع سياسة عملها، وتحويل ميزانيتها إلى ميزانية كافية ومستدامة وقابلة للتنبّؤ، وهو ما أكد عليه الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس في تقريره للجمعية العامة في نيسان 2017، أو على الأقل أن تصبح مساهمات الدول في ميزانية "الأونروا" إلزامية بدل طوعية، والمسؤولية هنا تقع بالدرجة الأولى على استثمار حالة الإجماع الفلسطيني الوطني والسياسي، والدبلوماسي والشعبي التي تشكلت تحديداً في العام 2018 والمؤيدة لـ "الأونروا"، بالمبادرة إلى إعداد خطة إستراتيجية تكون قادرة على الحفاظ على استمرارية عمل الوكالة إلى حين عودة اللاجئين، فالفعل الشعبي المطالب بوقف استهداف "الأونروا" لا يكفي وحده.
* كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني.