بصفتها الدولة صاحبة الناتج القومي الأكبر، والأكثر عدداً من حيث السكان، والأكثر تطوراً تكنولوجياً، تحتل ألمانيا موقفاً متقدماً في الاتحاد الأوروبي يمكّنها من تشكيل سياساته إلى حد بعيد تجاه القضية الفلسطينية.
لذلك، فإن معرفة أين تقف ألمانيا سياسياً من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وحدود قدرتها على التأثير في هذا الصراع، مسألة مهمة لصاحب القرار السياسي الفلسطيني وللباحثين على حدٍ سواء.
في نظريات العلاقات الدولية التي تفسّر سلوك الدول، لا يمكن للنظريات الأهم فيها، مثل: الواقعية والليبرالية، تفسير سلوك ألمانيا تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي؛ الأولى تفترض أن العلاقات الدولية تحددها الدول العظمى في العالم، أما الدول الأخرى فإنها تابعة لهذا الطرف أو ذلك ولا تمتلك سياسة مستقلة قائمة بذاتها. والثانية تفترض أن المصالح التجارية للدول أو لمجموعات أهلية أو اقتصادية فيها تحدد سياساتها.
ألمانيا، ليست قوة عسكرية عظمى، ورغم كونها عضواً في الناتو إلا أنها لا تتبع سياسات الولايات المتحدة كما نلاحظ على الأقل في مسألة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. لذلك لا يمكن للنظرية الواقعية أن تفسر لنا مواقف ألمانيا تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
بالمثل، لا مصالح اقتصادية لألمانيا مع الفلسطينيين أو الإسرائيليين. بالإضافة لكونها مساهماً مهماً في الخزينة الفلسطينية، قامت ألمانيا بالمساهمة في تغطية نفقات "الأونروا" بعد أن سحبت أميركا ـ ترامب دعمها للاجئين الفلسطينيين. أما مع إسرائيل، فإن حجم التبادل التجاري الذي يصل إلى ستة مليارات دولار يقل عن نصف حجم تبادلها التجاري مع دولة الإمارات العربية المتحدة.
لكن العلاقات الدولية فيها نظريات عديدة يمكنها تفسير السياسة الألمانية، منها النظرية البنائية التي يمكنها أن توضح مثلاً لماذا لا تلعب ألمانيا دور الوسيط الفاعل في الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولماذا تحرص ألمانيا على عدم إغضاب إسرائيل، وعلى عدم دفع الاتحاد الأوروبي لاتخاذ مواقف حازمة من إسرائيل.
النظرية البنائية تقوم على فكرة أن السياسة الخارجية لدولة ما تحددها إلى حد بعيد هويتها الوطنية التي هي بحد ذاتها نتاج عملية تاريخية مشتقة من عوامل عدة، أهمها التجربة التاريخية المشتركة لشعب ما.
أحد المكونات الأساسية للهوية الألمانية هو ذلك الشعور العميق بالذنب والخجل تجاه المحرقة التي تعرض لها اليهود في أوروبا خلال الحكم النازي. خلال محاكمات القادة النازيين في مطلع خمسينيات القرن الماضي، تعرّف الألمان على حجم وفظاعة الجريمة التي تعرّض لها يهود أوروبا على أيدي أبناء شعبها، ورافق ذلك بالطبع شعور عميق بالذنب والخجل، عزّزته النخبة الألمانية السياسية في أدبياتها وممارساتها.
للتكفير عن "الهولوكوست"، لم تجرّم النخبة السياسية والثقافية الألمانية كل من ينكر المحرقة منذ مطلع الخمسينيات، ولكنها أيضاً حاولت تحريم انتقاد سياسات الحكومات الإسرائيلية حتى لو لم تتفق هي معها. ودعت أيضاً النخبة السياسية الآلافَ من الشباب الألمان للذهاب إلى إسرائيل من أجل الاستماع مباشرة من ذوي ضحايا المحرقة عن تجربتهم.
ورغم أن الحلفاء، الذين انتصروا على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، لم يفرضوا عليها القيام بتعويضات لإسرائيل، إلا أن ألمانيا قد اختارت دفع هذه التعويضات بعد أن أثارتها إسرائيل بادعاء وجود نصف مليون ألماني في إسرائيل هربوا من المحرقة وتركوا ممتلكاتهم فيها.
على مدار أربعة عشر عاماً، منذ توقيع اتفاقية لوكسمبورج العام 1952، بشأن التعويضات التي طلبتها إسرائيل باسم اليهود الألمان القاطنين فيها، قامت ألمانيا بدفع ثلاثة بلايين دولار لإسرائيل (بحسابات اليوم وفق بعض التقديرات يصل هذا المبلغ إلى 14 بليون دولار).
من المهم ملاحظة أن العلاقات الدبلوماسية ما بين ألمانيا وإسرائيل بدأت بعد أوشكت ألمانيا على الانتهاء من دفع التعويضات لها. العلاقات بدأت العام 1965، وكانت فيها ألمانيا راغبة إلى حد بعيد بتحسين وتمتين علاقاتها مع إسرائيل كنوع من التعويض عن هذا الشعور بالذنب تجاه اليهود. لذلك سعت ألمانيا لنسج علاقات قوية مع إسرائيل في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية.
هذه العلاقات ليست على مستوى الحكومة فقط، ولكن على المستوى المجتمعي أيضاً. هنالك على سبيل المثال أكثر من مائة توأمة بين بلديات ألمانية وإسرائيلية، وهنالك برنامج شبابي لتبادل الزيارات يشارك فيه أكثر من 6000 ألماني وإسرائيلي سنوياً. يضاف إلى ذلك تعاون عسكري وأمني وثيق.
الساسة الألمان يفضلون وصف العلاقات مع إسرائيل "بالخاصة." الترجمة الحرفية لما يعنيه ذلك جاءت على لسان يوشكا فيشر، وزير الخارجية الألماني، خلال الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية العام ٢٠٠١، حيث صرح، أثناء مقابلة له مع صحيفة ألمانية، ما تعنية كلمة "الخاصة" من خلال حديثة عن أربعة مبادئ: ألمانيا لديها مسؤولية خاصه تجاه إسرائيل.. إسرائيل لا يجب أن تقف لوحدها أبداً.. حق إسرائيل في الوجود لا يقبل النقاش.. وأمن إسرائيل يجب أن يتم ضمانه.
هذه العلاقة الخاصة مع إسرائيل، تفسر الموقف الألماني القائم على دعم فكرة حل الدولتين، ولكن الرافض في نفس الوقت لاتخاذ أي إجراءات عملية في هذا الاتجاه لا تقبلها إسرائيل.
ألمانيا مثلاً لا تنتقد إسرائيل على تجاوزاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأنها لا ترى حقاً أخلاقياً لها في ذلك. المثل الشعبي الذي يقول: "من كان بيته من زجاج لا يلقي الحجارة على بيوت الآخرين" يوضح هذه الفكرة بشكل أفضل. بمعنى آخر إذا انتقدت ألمانيا إسرائيل على قتل الفلسطينيين سيقال لها: أنتم آخر من يحق لهم الحديث عن هذا الموضوع.
وهذا أيضاً يوضح لماذا ترفض ألمانيا أن تمارس سياسة الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين؛ لأن الوسيط قد يضطر للتهديد بفرض عقوبات على الطرف الذي لا يقبل بالحلول الوسط التي يعرضها، وهي لذلك لا تريد لعب هذا الدور الذي قد يدفعها لفرض عقوبات على إسرائيل.
وهو يوضح لماذا عندما تتحدث ألمانيا عن حلّ الدولتين تصفه بأنه أفضل طريقة لضمان أمن إسرائيل، وليس لأنه يرفع جزءاً من الظلم التاريخي الذي أصاب الفلسطينيين.
وهذا يفسر أيضاً حدود الدور الألماني في الاتحاد الأوروبي تجاه هذه القضية. ألمانيا وبسبب التزامها بالعلاقة "الخاصة" مع إسرائيل ترفض أن تشارك فرنسا مساعيها للعب دور فاعل أكبر للاتحاد الأوروبي في هذا الصراع.
مؤخراً، على أي حال، أظهر استطلاع للرأي، أجرته شبكة "سي أن أن" الإخبارية الأميركية، أن ثلث الألمان يدركون أن إسرائيل تستغل الهولوكوست لتبرير سياساتها العدوانية في الشرق الأوسط. وأن ثلثهم يناصرون القضية الفلسطينية.
هذا مؤشر إيجابي على أن هنالك تغيراً في الهوية الوطنية الألمانية سيتحوّل مع الوقت إلى عامل ضاغط علي الساسة الألمان لدفعهم لاتخاذ مواقف أكثر جرأة تجاه القضية الفلسطينية وتحويلها إلى موقف أوروبي ضاغط على إسرائيل لإنهاء الاحتلال.