لعودة لطرح أسئلة الفلسفة في الساحة الفلسطينية والعربية، حتى وإن ضاقت مساحة المعالجة، لاسيما وانها لا تأخذ الطابع البحثي العميق، إنما تسليط الضوء على مفاتيحها االعامة لتحريك المياة الراكدة في المشهد، حيث نامت أو تراخت الكفاءات الفكرية والعلمية، أو جرى التعتيم على ما ينشر ويكتب من إنتاجها من قبل أساطين النظام السياسي الرسمي العربي، وبفعل تغول الإتجاهات الأصولية المتزمتة بمدارسها وعناوينها المختلفة، التي لجأت للترهيب والتكفير مرة، والتدجين والتهافت مرة أخرى.
ورغم كل الظروف المعقدة والسيئة، التي يعيشها العالم العربي نتاج غياب الديمقراطية الحقيقية، وتسيد منطق الملقن، والإستسلام لمشيئة النص الثابت، والإغتراب عن جادة السؤال والبحث والإستشراف، والركون للمدرسة القدرية، والهروب من إشهار سلاح الفكر والمعرفة والتجديد خشية شيوخ المنابر، وائمة الجهل والتجهيل. إلآ أني أعتقد إسوة بعدد لا بأس به من المدافعين عن حرية العقل،والمنادين بتشريع أبواب الفكر على مداياته الواسعة لعودة الروح والإنعاش لإثارة الأسئلة الكبيرة في عالم اليوم، ان الضرورة تملي التسلح بالإرادة الواعية، والشجاعة الفكرية لإثارة كل الإسئلة أو بعضها لتنشيط وتفعيل عملية الجدل والحوار المسؤول بين النخب الفكرية ومن المدارس الوضعية والدينية المتنورة المختلفة للتلاقح المعرفي.
وكما يعلم الجميع أن العالم، الذي نعيش بين ظهرانيه في العصر الحالي، لم يصل إلى ما وصل إليه من تطور إيجابي إلآ نتاج إسهام فلاسفة العصور والحقب التاريخية المتعاقبة منذ نشوء المدارس الفلسفية في بلاد الإغريق، مرورا بالرومان والمدرسة الكونفشيوسية في الصين، والمدارس والفرق الفلسفية الهندية المختلفة (الهراقطة، اليوغا، ميدانيا، بدعي، البوذيين وجاني والمادية .. إلخ)، وفلسفة الفراعنة في مصر القديمة، والفلسفة العربية الإسلامية بمدارسها المتعددة، وفلسفة عصر النهضة الأوروبية، وغيرها من المدارس والفرق الفلسفية في أميركا اللاتينية، جميعها على ما بينها من قواسم مشتركة ونقاط إفتراق في مراحل نشوئها، وما أفرزته من تداعيات لاحقا،وما أحدثته من ثورة في الفكر الإنساني ساهمت كل منها إرتباطا بتطور قوى وعلاقات الإنتاج بتطور البشرية بهذا القدر أو ذاك.
ويمكن الجزم أن شعوب الأرض في قاراتها المختلفة تلاحقت من بعضها البعض المعارف، ونقلت عبر عملية الترجمة ثقافات وأفكار وفلسفات الأخرين لشعبها. وتخلف شعب عن الآخر في إستلهام المعارف الوضعية أو الدينية يعود لمدى قابلية تلك الشعوب في التعلم من الآخر، أو الإرتداد نحو الذات، والإنعزال عن الأخر، وخشية البحث والتعمق في أسئلة الفلسفة الكونية، أو بفعل الأنظمة الإستبدادية، التي حكمت وحالت دون فتح دائرة العقل الإنساني على كامل محيطها، أو بفعل القوى الإستعمارية في العصر الحديث منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، التي طوقت العقل في اوساط الشعوب المستَّعمرة من خلال أدواتها الرجعية والمأجورة.
مع ذلك كلما إستطاع هذا الشعب أو ذاك من الإنفتاح على الحرية والديمقراطية، وشَّرع أبواب السؤال على مصاريعه، واطلق العنان للعقل في إنتاج إبداعاته المعرفية، كلما تمكن من الرقي والتقدم خطوة للإمام للحاق بركب الأمم المتقدمة.
وعلمتنا تجارب التاريخ في العالمين العربي والإسلامي، انه عندما إمتلك العرب والمسلمون ناصية العلم، وإعمال العقل في مناقشة المسائل المختلف عليها للإجابة عن أسئلة التحدي، التي واجهت المدارس والفرق المتنورة ( القرامطة، وواصل بن عطا، وإبن رشد، وإبن خلدون، وإبن سينا وعلماء عصر النهضة في آواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وغيرهم) من تزمت المدارس المحافظة والمنغلقة، ووسعت دائرة النهل من الفلسفة الإغريقية والهندية والصينية والفرعونية، تقدموا في إنجازاتهم، وإرتقوا في مكانتهم ودورهم الريادي في بناء حضارة عظيمة أسهمت في وضع المداميك الصلبة لعصر النهضة الأوروبي. بتعبير أدق رغم أن أوروبا المعاصرة تقدمت بفعل الثورات الإجتماعية والإقتصادية العميقة في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وهدمت جدران عوالم التخلف والإستبداد، وفصلت الدولة عن الكنيسة، إلآ أن تقدمها كان ايضا نتاج ما تعلمته وأخذته عن تلك المنجزات للإمبراطورية العربية الإسلامية، وهذا ما إعترف به العديد من علماء وفلاسفة أوروبا بمدارسها المتشعبة.
وكي تتقدم الشعوب العربية، وتستعيد عافيتها، عليها أن تخرج من دوائر التحجر والإنغلاق، والإنفتاح على الآخر وثقافاته ومدارسه بتلاوينها وإتجاهاتها المتعددة، وإطلاق العقل من سجنه، وفتح أبواب الحرية، ومناقشة كل المحرمات والتابوتات، وتحطيم الفلسفة الصنمية المتزمتة للإجابة على أسئلة التحدي في المرحلة المعاصرة، وهي كثيرة وعميقة وتطال كل جوانب الحياة دون إستثناء.