من بيع الأرض إلى بيع العقار (2)..عادل الأسطة

الأحد 25 نوفمبر 2018 12:21 م / بتوقيت القدس +2GMT



كنت أتيت من قبل على لازمة بيع الأرض في الأدبيات الفلسطينية قبل العام 1948 وبعده، وأنهيت الكتابة بالإشارة إلى ثلاثة أعمال أدبية هي رواية أحمد رفيق عوض "مقامات العشاق والتجار" 1997، ورواية ليلى الأطرش "ترانيم الغواية "2014، ورواية سهيل كيوان "بلد المنحوس" 2018.
أذكر، ابتداء، بأبيات راشد حسين المعروفة التي قالها يسخر فيها من قانون أملاك الغائبين:
"الله أصبح غائبا يا سيدي/ صادر إذن حتى بساط المسجد وبع الكنيسة فهي من أملاكه/ وبع المؤذن في المزاد الأسود
حتى يتامانا أبوهم غائب/ صادر يتامانا إذن يا سيدي"
واللافت في الأبيات هو الفعل "بع"، والمخاطب هنا فيه ليس الفلسطيني، وإنما هو الصهيوني الذي يصادر أموال الفلسطينيين الذين هجروا قسرا.
لم أقرأ في النصوص الأدبية الفلسطينية التي كتبت قبل 1987 عن فلسطيني باع بيته. ما كتب كان يخاطب بائع الأرض، لأن ما بيع كانت الأراضي لا البيوت. (طوقان مثلا: يا بائع الأرض/ باعوا البلاد/ فكر بأرض).
في 70 القرن 20 زرت عكا غير مرة، وتجولت في البلدة القديمة بصحبة الناشر يعقوب حجازي والناقد أنطوان شلحت، وقد اصطحبني يعقوب إلى معارف له يقطنون في بيوت المدينة القديمة، وأصغيت إلى حوار جرى بينه وبين عكيين تمحور حول محاولات السلطات الإسرائيلية التضييق على سكان عكا ليبيعوا بيوتهم.
لقد سعت الحكومات الإسرائيلية إلى امتلاك المدن القديمة لتهويدها ولكي تقنع العالم بأن لها جذورا في فلسطين. وهذا ما لم يبرز في حينه بوضوح في النصوص الأدبية التي ظلت تركز على مصادرة الأراضي (قصص محمد نفاع ومحمد علي طه وقصائد سميح القاسم ومحمود درويش وآخرين كثر).
ربما تعد رواية أحمد رفيق عوض من أوائل الأعمال الأدبية التي التفتت إلى سعي الإسرائيليين إلى شراء البيوت في المدن.
يفرد أحمد فصلا من روايته للكتابة عن يساري فلسطيني ناضل ثم انتهى سمسارا: "عطا الله السمسار داخل المدينة البهية" والمدينة البهية هي القدس.
يتحول عطا الله من مناضل يساري إلى سمسار، ويمارس كل ما لا يخطر على بال، من أجل الحصول على المال، ولا يتوانى عن فعل أي شيء مقابل ذلك. يتزوج زواج منفعة ويتعامل مع تجار إسرائيليين ويمارس الجنس مع نسوة يهوديات متزوجات لا يترددن في النوم معه من أجل أن يقدم للإسرائيليين خدمات أهمها شراء بيوت في البلدة القديمة من القدس.
يطمح الإسرائيليون إلى شراء بيوت وعقارات في المدينة البهية وهم على استعداد لأن يدفعوا أموالا طائلة في سبيل ذلك، بل ولا يكترث (العاد) صاحب (غراتسيا) وزوجها، من غض الطرف عن علاقتها بعطا الله ونومها معه مقابل سمسرته على بيوت تباع لليهود. إن (العاد) مستعد للدفع وهو صبور ولا يمانع في تسلم البيت بعد عشرين ثلاثين عاما، وتقدم (غراتسيا) على النوم معه ومع غيره في سبيل الحصول على البيوت العربية.
تكتب ليلى الأطرش روايتها في الألفية الثالثة وتعود إلى فترات سابقة لتأسيس دولة إسرائيل، وتحديدا إلى نهاية الحكم العثماني وفترة الانتداب البريطاني، وتواصل الكتابة عن القدس تحت الاحتلال.
تكتب ليلى فصلا عنوانه "باب الهوى" وتأتي فيه على تسرب العقار في القدس أيضا إلى أيدي الإسرائيليين.
تقص الراوية عن بعض وجهاء المدينة ممن تصابوا، قبل العام 1948، وغرقوا في حب نساء يهوديات فاتنات، وفي لحظة عشق ولهو ولذة يستغل الإسرائيليون الوجيه المقدسي ويهددونه بفضحه وملاحقته إن لم يرضخ لطلباتهم. وخوفا من الفضيحة بين أهله ومعارفه يقدم على بيع بيته لأهل الفتاة اليهودية، على أن يسلم في فترة لاحقة. وحين يسيطر الإسرائيليون على القدس يظهرون وثيقة البيع ويشهرونها في وجه الأحفاد الذين يصرون على ملكية البيت دون أن يعرفوا شيئا عن جريرة الأجداد. وتعتمد ليلى في كتابة روايتها على كتب وصحف وتردد راويتها بحزن أن الحقيقة مؤلمة وتصفع الوجوه، وتورد في نهاية الرواية ثبتا بالمصادر والمراجع التي اعتمدت عليها في إنجاز عملها.
يكتب سهيل كيوان عن عكا لا عن القدس.
وكنت أشرت إلى أنه يكتب عن عكا قبل العام 1948 حتى 1952 تقريبا، وانه مهد لهذه الفترة بالكتابة عن عكا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وإن قفز عن عقود لينهي روايته في تسعينيات القرن العشرين.
في فصل عنوانه "الصفقة" يأتي سهيل على متعاون عربي مع الإسرائيليين يسمسر على شراء بيوت في عكا القديمة للدولة الناشئة في حينه، وتقدم جملات على بيع بيتها في عكا القديمة، بالاتفاق مع السمسار، غير مكترثة برأي زوجها، فالعلاقة بين الطرفين متأزمة، والطريف أن عطا الله في رواية عوض كان أيضا في بيته يعاني من أبيه. كما لو أن بائعي البيوت أشخاص غير أسوياء، ويشبههم الوجيه المقدسي في رواية ليلى.
ولست متأكدا شخصيا من حقيقة بيع بيوت في عكا، في تلك الفترة المبكرة، لليهود، ولكني متأكد من سعي الإسرائيليين الحثيث لتفريغ عكا القديمة من سكانها العرب وتحويلها إلى مدينة يهودية سياحية لإظهارها للعالم على أنها مدينة يهودية، وهذا ما عرفته في سبعينيات القرن العشرين.
هل ثمة أعمال روائية أخرى أتى أصحابها فيها على هذا الموضوع؟
أعتقد أن الأمر يحتاج إلى المزيد من الحفر، وربما احتاج الأمر إلى إعادة قراءة روايتي عارف الحسيني "كافر سبت" و"حرام نسبي" ففيهما كتابة عن العلاقات المتوترة بين المستوطنين وسكان القدس، ومن المؤكد أن هناك العديد من أشرطة الفيديو التي تأتي على موقف أهل القدس من بائعي العقار، وهو موقف متشدد.
في العام 2015 في شهر آب زرت القدس وبحثت عن مقهى الباشورة وجلست مع صاحبه، وأخبرني عن ضريبة الأرنونة المقدرة عليه والإغراءات التي يتعرض لها من أجل التنازل عن المقهى، ولكنه يأبى، ومؤخرا أرسل إلي أكثر من صديق شريطا عن رفض أصحاب بيوت مجاورة للأقصى إغراءات لبيع عقارهم، واعتبارها وقفا إسلاميا، حتى لا يسربها بعض الورثة.
ولعل من يتابع ما يجري في السنوات الأخيرة من صفقات بيع العقار في يافا يعرف حجم المأساة. لقد ظلت بيوت يافا عقودا طويلة مهملة لم يلتفت إليها وعلى هذه الصورة ظهرت المدينة في تقرير سميح القاسم (انظر سيرته "إنها مجرد منفضة"، وفي قصائد راشد حسين "يافا والغيتو").
لا بد من حفر، فالموضوع يستحق.