اتفاقات أوسلو التي تحل اليوم الذكرى الـ 25 سنة على توقيعها، انهارت في المقام الأول بسبب أنها لم تنجح في أن توفر للإسرائيليين مستوى الأمن الشخصي الذي وعدتهم به حكومة "رابين - بيرس" أثناء التوقيع عليها. سلسلة أحداث قاتلة كالمذبحة التي نفذها باروخ غولدشتاين ضد المصلين المسلمين في الحرم الإبراهيمي، وموجة العمليات "الانتحارية" لحماس في الحافلات، واغتيال اسحق رابين؛ أغرقت حلم أوسلو بالدم والنار والدخان، فقد انخفض تأييد الجمهور الإسرائيلي لإخلاء مناطق أخرى، بدونها لم يكن بالإمكان التوصل الى اتفاق نهائي.
في العام 2000، عندما بذل كلينتون وباراك جهودًا أخيرة لإعادة العملية لمسارها في مؤتمر "كامب ديفيد"، وبعد ذلك في مفاوضات طابا؛ حدث انفجار أكبر: الانتفاضة الثانية، والأمل دفن عميقًا اكثر تحت الأنقاض. حوالي 1500 إسرائيلي وأكثر من 7 آلاف فلسطيني قتلوا في السنوات التي مرت منذ مراسيم التوقيع على العشب الأخضر في البيت الأبيض؛ هكذا تلاشت الثقة بين الطرفين، ودمّرت تقريبًا كل احتمالية للعودة والدفع بالمفاوضات.
رابين اختار مسار أوسلو بدرجة غير قليلة من الشك الشخصي، بسبب ترابط عدة أسباب، فقد أدرك - ربما متأخرًا - الضرر الأخلاقي الذي يسببه استمرار الاحتلال للجيش وللمجتمع الإسرائيلي. "الجيش يجب أن يتوقف عن كونه جيش احتلال، والعودة ليكون جيش الدفاع" قال رابين بعد سنة تقريبًا من توقيع الاتفاق الأول. في نفس الوقت، رابين شخّص نافذة فرص استراتيجية (بعد انخفاض التأثير الروسي في الشرق الأوسط، قبل ازدياد قوة ايران) وأمل بقطف الثمار: نهاية الانتقاد الدولي لإسرائيل واحتمال التطبيع مع عدد من الدول العربية.
ولكن ما سوّقه رابين للإسرائيليين، الذين في معظمهم أيدوا الاتفاق في السنوات الأولى، كان بالأساس وعدًا بهدوء طويل المدى، فالمقاتلون لن يحتاجوا إلى الركض ثانية وراء الأطفال الذين يرشقون الحجارة في قصبات المدن ومخيمات اللاجئين، والمواطنون سيتوقفون عن الخوف من حاملي السكاكين؛ تهديد "الارهاب" الرئيسي في بداية التسعينيات.
ثمار العملية بدأت في الظهور تدريجيًا، وبصورة صغيرة، من فتح مكاتب لشركات أجنبية توقفت عن الخوف من المقاطعة العربية، ومرورًا باتفاق السلام مع الأردن، وانتهاءً ببدايات علاقات مع دول عربية أخرى، ولكن في نفس الوقت، وفي ربيع 1994 اندلعت موجة عمليات "انتحارية"، بداية كردٍ على مذبحة الحرم الإبراهيمي. الاتهامات المزدوجة (اليسار يعيد مناطق من الوطن ويتخلى عن أمن المواطنين لعمليات حماس) مهّدت الأرض لقتل رابين بعد سنة ونصف تقريبًا.
منذ ذلك الحين فصاعدًا، لم يوجد زعيم إسرائيلي يثق بحلم أوسلو بدرجة تمكّن من التقدم نحو اتفاق دائم. بنيامين نتنياهو انسحب من مناطق في الضفة تحت ضغط أمريكي، في اتفاق الخليل وفي اتفاق "واي ريفر"، أريئيل شارون انسحب بشكل أحادي الجانب من قطاع غزة ومن شمال الضفة الغربية، ولكن مسيرة أوسلو نفسها تجمّدت.
هذا حدث بالأساس لأنه حسب عدد كبير من الإسرائيليين ترسخت معادلة بسيطة وواضحة: في كل مرة تنسحب فيها إسرائيل من منطقة صغيرة، فإنها تتحول إلى خشبة قفز مستقبلية لعمليات "إرهابية" ضدها، فإخلاء مدن الضفة في اتفاقات أوسلو في 1995 وقرار باراك بالانسحاب من المنطقة الأمنية في جنوب لبنان في أيار 2000 والانفصال عن قطاع غزة في 2005؛ لم تجلب أيّ من هذه العمليات السلام والازدهار (رغم أنه يمكن بالتأكيد الادعاء بأن العبء الأمني المرتبط بالبقاء في هذه المناطق كان من شأنه أن يكون أكبر). العمليات - وعلى رأسها عشرات العمليات "الانتحارية" في الانتفاضة الثانية - كانت هي الصدمة التي شكّلت المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة، وقد حددت مرة تلو الأخرى مصير الحملات الانتخابية، فنتنياهو يفوز المرة تلو الأخرى في الانتخابات لأنه نجح في أن يثبت صورته كقائد أمني مسؤول، قائد لا ينجر إلى تنازلات خطيرة للعرب، ومن جهة أخرى أيضًا لا يركض نحو حروب زائدة.
مساهمة إسرائيلية في الفشل
لقد كان لفشل أوسلو بالطبع مساهمة إسرائيلية بارزة؛ عندما سارت الأمور بشكل جيد، إسرائيل لم تسارع للتقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين ("لا توجد تواريخ مقدسة" قال رابين)، وعندما تجدد "الإرهاب" قالت بأنها لن تخضع يومًا للتهديد، وطوال الوقت واصلت إسرائيل استيطان الضفة والأحياء المقدسية شرقي وشمال الخط الأخضر. أكثر من 800 ألف إسرائيلي يعيشون الآن خلف الخط الأخضر يصعّبون جدًا التوصل إلى اتفاق دائم.
قبل حوالي شهرين، تحدثت مجلة "نيويوركر" عن القلق الذي أظهره زعماء إدارة أوباما عندما نظروا في 2015 للخارطة التي تجسّد إلى أي درجة نجحت المستوطنات والبؤر الاستيطانية في القضاء على خيط تواصل جغرافي للدولة الفلسطينية؛ كان هذا استيقاظًا متأخرًا جدًا. ضباط الإدارة المدنية شخّصوا التوجه الكامن خلف تمدد خارطة المستوطنات في الضفة شرقًا قبل سنوات كثيرة من ذلك، دلائل على الخطة الكبيرة يمكن إيجادها في وثائق لواء الاستيطان حتى في التسعينيات، لقد كان الحلم الحقيقي لنتنياهو هو شن حرب استنزاف دبلوماسية وأمنية هدفها إنهاء آمال الحركة الوطنية الفلسطينية.
الواقع الأمني في الضفة استقر في السنوات الأخيرة، بفضل التنسيق الأمني الوثيق بين إسرائيل وقيادة السلطة، التي ترى في "إرهاب" حماس تهديدًا مُلحًا أكثر على بقائها من استمرار الاحتلال. العلاقة بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة مهلهلة أكثر: مرة كل بضع سنوات، وعندما يصبح الواقع المدني في القطاع غير محتمل أو عندما تخطيء حماس في تحليل مجال صبر إسرائيل؛ تندلع مواجهة عسكرية دموية لعدة اسابيع. ولكن في كل مرة يجري فيها الحديث عن مبادرة سلام جديدة (الأخيرة هي "صفقة القرن" التي تعد بها إدارة ترامب) فقد تعلم الخبراء والمحللون بأن المراهنة المضمونة هي الحفاظ على التشاؤم. زعماء الطرفين (رئيس الحكومة نتنياهو ورئيس السلطة محمود عباس) لا يؤمنان بالاتفاق الدائم، وبالتأكيد ليسا مستعدين لدفع ثمن التنازلات المطلوبة منهما من أجل التوصل إليه.