ورقة تحليل سياسات
إعداد: يوسف خالد سالم
منتدى الشباب الفلسطيني للسياسات والتفكير الإستراتيجي*
مقدمة
تعيش القضية الفلسطينية مرحلة سياسية صعبة وشديدة الحساسية، على الصعيدين الداخلي والدولي، فالساحة الفلسطينية الداخلية هشة ومهلهلة، وتحتاج إلى إعادة بناء وصياغة شكل النظام الفلسطيني السياسي، بما يضمن مشاركة الكل الفلسطيني على قاعدة الاحتكام إلى حكم الشعب، وإلى اتخاذ خطوات سريعة وفعالة لإنهاء كارثة الانقسام الفلسطيني التي أضعفت القضية الفلسطينية شكلًا ومضمونًا، وحرفت البوصلة عن هدف التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية إلى أهداف فصائلية مصالحية شخصية تتمثل في الحكم وتجذير وجود وتمكين كل من حركتي فتح وحماس في البقعة الجغرافية الواقعة تحت سيطرة كل منهما.
أما على الصعيد الدولي، فقد أثّر التوتر الشديد الحاصل بين القيادة الفلسطينية والولايات المتحدة الأميركية، بعد اعتلاء دونالد ترامب سدة الحكم، بشكل كبير على الدعم الدولي السياسي والاقتصادي للمؤسسة الفلسطينية الرسمية، بالإضافة إلى ظهور مصطلح صفقة القرن التي تهدف في شكلها العام – في ظل المعطيات التي رشحت عن مضمونها – إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتأييد إقامة كيان ممتد جغرافيًا داخل مصر مع ضم لأراضي الضفة وتوسيع رقعة السيطرة الإسرائيلية. كل هذه التعقيدات تأتي في ظل متغيرات دولية متلاحقة تزيد من مسؤولية صناع القرار الفلسطينيين تجاه تشكيل شبكة تحالفات مع دول العالم، ومجموعات ضغط باتجاه دعم وتأييد مطالبة الشعب الفلسطيني بحقوقه الأساسية.
ازداد هذا الواقع الصعب سوءًا بعد تنفيذ قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وما أعقبه من حالة غضب شعبي وتوتر على صعيد العلاقات الديبلوماسية الفلسطينية مع بعض الدول المؤيدة للقرار، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
أرخت هذه الأحداث بظلالها على الوضع الميداني في الضفة الغربية، وامتدت لتشمل فعاليات تماس مباشر على الحدود الفاصلة مع قطاع غزة، وذلك للمرة الأولى منذ انسحاب إسرائيل الأحادي منه في العام 2005، وأُطلق على هذه الفعاليات اسم "مسيرات العودة الكبرى"، التي جاءت لتعبر عن تبني أطياف مختلفة من القوى والتيارات السياسية والنقابية لخيار المقاومة الشعبية السلمية.
انطلقت فعاليات العودة الكبرى بتاريخ 30/3/2018، وما زالت مستمرة حتى تاريخ إصدار هذه الورقة، في إشارة إلى تبني خيار المقاومة الشعبية في قطاع غزة كإستراتيجية وليست كتكتيك مؤقت. وعلى الرغم من انخفاض وتيرة الفعاليات بعد المجزرة التي قام بها الجيش الإسرائيلي بتاريخ 14/5/2018 والتي خلفت أكثر من 60 شهيدًا و2800 جريح، إلا أن ذلك لا تراجع (المتبنين الجدد) عن هذا الخيار، خاصة بعدما أثبت فاعليته وقدرته على التحشيد الدولي، الأمر الذي بدا واضحًا بعد الإدانات الدولية الواسعة للمجازر المرتكبة بحق المدنيين المشاركين في المسيرات.
أدانت المنظمات الدولية والدول العربية والأوروبية المجازر البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين العزل خلال المسيرة، وحمّلت إسرائيل المسؤولية عن العنف الممارس على المدنيين العزل.
في هذا السياق، دعت بريطانيا إلى "الهدوء وضبط النفس" في غزة، بحسب تصريح للمتحدث باسم رئيسة الوزراء تيريزا ماي.
أما فرنسا، فدعا وزير خارجيتها، جان إيف لودريان، "في ظل تصاعد التوتر على الأرض"، "جميع الفرقاء إلى التحلي بالمسؤولية بهدف تجنب تصعيد جديد".
بدورها، قالت منظمة العفو الدولية إن سفك الدماء على الحدود بين غزة وإسرائيل "انتهاك مشين للقانون الدولي وحقوق الإنسان يجب وقفه فورًا"، في إشارة إلى ما حدث من استهداف للمشاركين في فعاليات المقاومة الشعبية شرق غزة.
أما الجمعية العامة للأمم المتحدة، فتبنت في دورتها المنعقدة بتاريخ 14/6/2018 بغالبية كبيرة قرارًا يدين إسرائيل بسبب استخدامها القوة المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين في القطاع، ورفضت طلبًا للولايات المتحدة بتحميل "حماس" مسؤولية أعمال العنف. ولقي مشروع القرار الذي طرحته الدول العربية والإسلامية وعارضته بشدة الولايات المتحدة تأييد 120 دولة، ومعارضة 8 دول فقط، بينما امتنعت 45 دولة عن التصويت.
ويدين القرار الاستخدام "المفرط وغير المتكافئ والعشوائي للقوة" من قبل القوات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين.
تحظى هذه الإدانات بأهمية كبرى، إذ تسبغ المقاومة الشعبية التي يمارسها الشعب الفلسطيني بالشرعية بالاستناد إلى القرارات الرسمية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، كما تتميز بأنها نابعة من الضمير الجمعي العالمي بالنظر إلى عدد الدول الكبيرة التي أدانت الممارسات الإسرائيلية الموصوفة بالعنف المفرط الواقع على مدنيين عزل.
تعمل هذه الإدانات على عزل إسرائيل دوليًا، وتجعلها تفكر مليًا قبل تكرار مثل تلك التصرفات التي تؤجج غضب العالم أجمع، لأن إسرائيل تهتم بأن تظهر أمام دول العالم بأنها الدولة الحضارية القائمة على احترام حقوق الإنسان، في حين أن العالم صرخ في وجهها مرارًا وتكرارًا كفى بطشًا وقتلًا للمدنيين التواقين إلى حقهم في نيل حريتهم وتقرير مصيرهم.
إن تبني الوعي الفلسطيني بكافة مكوناته السياسية والشعبية للمقاومة السلمية الشعبية كخيار أساسي وإستراتيجي، يستلزم حراكًا ديبلوماسيًا فلسطينيًا واسع النطاق، يستهدف كسب التعاطف والتأييد الدولي، ويعزل الرواية الإسرائيلية التي تدعي أن الفلسطينيين يمارسون العنف ويجب استعمال القوة لردعهم، وكشف الجرائم الإسرائيلية البشعة.
يجب أن يضع هذا الحراكُ الدولَ كافة في تفاصيل مجريات ما يحدث، من خلال توثيق الجرائم لتكون هذه الدول ذراعًا مساعدًا في محاسبة إسرائيل أمام المحاكم الدولية المختصة متى سنحت الفرصة، وليزيد ذلك من إحراج الدول التي تقف صامتة إزاء ما يحدث من مجازر، لاسيما أميركا والدول الأوروبية التي تستطيع التأثير على صانع القرار في إسرائيل.
المقاومة السلمية سلاح إستراتيجي
حمل الصراع العربي الإسرائيلي الطابع العسكري منذ الأيام الأولى لاحتلال فلسطين، من خلال ما قامت به عصابات الإرهاب الإسرائيلي لتهجير السكان من مدنهم وقراهم، ولتسهل مهمة اتخاذ اليهود من فلسطين وطنًا قوميًا لهم كما جاء في وعد بلفور.
واجهت المقاومة الفلسطينية والعربية هذه الأعمال الإرهابية في مفاصل زمنية وتاريخية عديدة، أثبت من خلالها الاحتلال الإسرائيلي قباحة آلته العسكرية، وتواضع الإمكانيات العسكرية الفلسطينية والعربية.
استفاد الفلسطينيون من تجارب دول عديدة تعرضت للاستعمار ووجدت نفسها مجبرة على مواجهة الآلة العسكرية بالصدر العاري والصوت العالي، ومن هذه الدول الهند وجنوب أفريقيا، ومع أن التجربة الفلسطينية في المقاومة الشعبية ليست بالحديثة إلا أنها لم تكن طوال فترة الصراع الخيار الإستراتيجي الأول، إذ كانت الفصائل والجماعات المسلحة تفضل عسكرة المرحلة مع المحتل الإسرائيلي على قاعدة أن ما أٌخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
أما الآن، فهناك إعادة صياغة لكافة المفاهيم التي كانت تحكم الصراع، وهناك مراجعات ذاتية أخضعت التجارب ومراحل الصراع إلى تقييم أدوات التحرير وبناء الدولة المنشودة منذ الوصول إلى اتفاقية أوسلو في العام 1993 وحتى يومنا هذا.
فرضت هذه المراجعات على الفلسطينيين إعادة ترتيب في أولوية تبني أدوات التحرر الوطني، ولعل أبرز ما قد ينتج عن ذلك تبني الكل الفلسطيني لخيار المقاومة الشعبية السلمية كخيار إستراتيجي وأول في إدارة المواجهة مع الاحتلال، وتفضيله على خيار عسكرة المواجهة.
في غمار كل هذه التفاصيل، يظهر مفهوم المقاومة الشعبية السلمية في الفترة الحالية بشكل كبير وملحوظ على الساحة الفلسطينية وقد لاقى اهتمامًا واسعًا وغير مسبوق من المستوى الرسمي الفلسطيني مؤخرًا، إذ إنه وجد من ينادي به وينظر له بقوة أكثر من أي وقت مضى.
لقد تجدد الإيمان الفلسطيني بوسيلة المقاومة الشعبية للانعتاق من الاحتلال خلال الأعوام القليلة المنصرمة، وانحصر في مناطق الضفة الغربية والداخل المحتل، وقد انتقل العمل بالنضال السلمي إلى قطاع غزة بشكل ملحوظ ومنظم ومركز خلال الأشهر القليلة الماضية، من خلال تنظيم مسيرات العودة الكبرى على حدود التماس الشرقية من القطاع لتفتح الباب من جديد، وتجعل الخيار العسكري أقل استخدامًا في ظل المعادلة السياسية الصعبة التي يعيشها القطاع جراء ظروف متعددة ترتبط بعدم تطبيق المصالحة، واختناق القطاع نتيجة وضوح آثار الحصار بشكل أكبر، ومجموعة الإجراءات العقابية التي اتخذتها السلطة الفلسطينية لاستعادة قطاع غزة إلى حضن الشرعية على حد قولها.
إن تبني المقاومة الشعبية كخيار أساسي في المرحلة الحالية أحرج إسرائيل بشكل كبير، خاصة بعد المجازر التي ارتكبتها بحق المدنيين الفلسطينيين، وتفويت الفصائل المسلحة الفرصة على الاحتلال الإسرائيلي بتوسيع نطاق عدوانه من خلال عدم الرد على تلك المجازر، والإصرار على استكمال المسيرات وإن كانت بوتيرة أقل، ولكن استمرارها يحمل إشارة لإسرائيل والمجتمع الدولي أن هذا نضالنا السلمي يجب على إسرائيل ألا تقمعه، ويجب على المجتمع الدولي حمايته.
إن هذا الخيار الذي وصفه البعض بأنه أقوى من أي سلاح ناري يستخدم ضد إسرائيل في الآونة الحالية يحتاج إلى رعاية واهتمام على المستويين الرسمي والشعبي، من حيث تسويق هذا الخيار داخليًا وتبنيه في الخطط والموازنات الرسمية من جهة، ومن جهة أخرى كسب تأييد المجتمع الدولي للاعتراف بحق ممارسته وحمايته من خلال أجهزة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية.
لذا، كان لزاما على المستوى الرسمي الديبلوماسي في وزارة الخارجية الفلسطينية أن يولي اهتمامًا كبيرًا في توعية الدول بشكل هذه المقاومة التي يمارسها الشعب الفلسطيني باستمرار.
وتستدعي هذه الخطوة وجود خطة عمل واضحة ومنظمة لإعادة بوصلة العالم باتجاه دعم القضية الفلسطينية وتأييد ممارسة الفلسطينيين لحقوقهم في الدفاع عن قضيتهم بكافة الوسائل، وعلى رأسها المقاومة السلمية التي شرعتها كافة المواثيق والمعاهدات الدولية، لا سيما أن فلسطين إقليم دولة تقع تحت الاحتلال الحربي الإسرائيلي، وما زالت هذه الحالة قائمة، وهذا يوجب على إسرائيل وفق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني إفساح المجال أمام فعاليات المقاومة الشعبية وحماية المتظاهرين أو المشاركين في تلك الفعاليات، وليس قمعهم وقتلهم كما حصل طوال الشهور والسنوات الماضية في الضفة والقطاع غزة.
إن استخدام إسرائيل للقوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين ناتج عن عدم شعورها بوجود رقيب يحاسب تصرفاتها، ويجبرها على دفع فاتورة جرائمها، وذلك بسبب ضعف في أداء السلك الديبلوماسي الفلسطيني فيما يتعلق بالمناصرة والتحشيد لدعم مفهوم وممارسات المقاومة الشعبية السلمية.
في المقابل، ينشط السلك الديبلوماسي الإسرائيلي في اختلاق الأكاذيب والروايات المفبركة حول تلك الفعاليات، ليقنع العالم بأنها لا تحمل الطابع السلمي، وبما أن هذا الادعاء لا يواجه بدفاع فلسطيني صلب، فإن الدول ترى نفسها ملزمة بالصمت أو الإدانة باللهجة البسيطة التي لا تجعل إسرائيل في معزل تام كما يهدف الشعب الفلسطيني من خلال تضحياته الجسام في هذه المظاهرات والفعاليات.
مشكلة الورقة
يعود تراجع صدارة القضية الفلسطينية عالميًا إلى عوامل وظروف ذاتية وخارجية، فالانقسام الداخلي أضعف دعم الدول المؤازرة للقضية، وكذلك حالة الهزل التي تمر بها منظمة التحرير كونها الجسم الشرعي الممثل للقضية الفلسطينية خارجيًا، التي ألقت بظلالها على حالة الاستقطاب الذي يجب عليها أن تمارسه في هذه المرحلة الحساسة التي تعيشها القضية.
إن خارطة القوى السياسية الدولية المتحكمة بالمشهد العالمي حاليًا تختلف وبشكل كبير عن تلك التي كانت موجودة في بدايات إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، إذ إن القوى العظمى العالمية ليست على قدر كبير من الثبات مع ظهور دول عظمى بدت تؤثر في القرار الدولي في قضايا عديدة، مثل التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني مع ما يعرف بدول 5 + 1.
كما يجب على السلطة فهم أن أوسلو لم يعد يناسب الطموح الفلسطيني، وعلى صانع القرار الفلسطيني أن يتعامل مع تفاهماته على أنها تفاهمات مرحلية جاءت لتجذر الوجود الفلسطيني في مرحلة زمنية محددة فرضت فيها إسرائيل والقوى الحليفة لها ما يصب في مصلحتها آنذاك وحتى اليوم، فالتفاهمات يجب أن تسقط ضمنيًا في الوقت التي تقف فيه حائلًا دون تحقيق الرؤية الفلسطينية الحالية.
ويجب على صانع القرار الفلسطيني أن يطور الأرضية القانونية التي يقف عليها، والتي تضمن له حقه في تقرير مصيره وإنهاء احتلاله بوقوف العالم بجانبه وكسب تأييده، وهذا لن يتأتى من التزام القيادة الفلسطينية بسقف أوسلو الذي اخترقته إسرائيل مرارًا وتكرارًا.
يمكن لنا توضيح القصور الذي يعتري عمل السلك الديبلوماسي الفلسطيني في هذا الجانب فيما يأتي:
غياب الخطة المنظمة والواضحة الرسمية في عمل الديبلوماسية الفلسطينية، إذ أضعف من دورها المهم في تشكيل مجموعات ضغط عالمية مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني وخياراته.
يسبب تردد القيادة الفلسطينية في التوجه إلى المحاكم الدولية في التقليل من فاعلية عمل الديبلوماسية الفلسطينية، حيث تبقى تعمل في إطار تقليدي لا يناسب خصوصية الظرف الفلسطيني.
غياب الأدوات الفاعلة لدى أجهزة الديبلوماسية الفلسطينية فيما يتعلق بتسويق الرواية والمظلومية الفلسطينية التي تقع عليه جراء ممارسة المقاومة الشعبية السلمية.
عدم دمج المؤسسات الحقوقية والإعلامية كمكون جديد يسهّل وصول الرسائل السياسية والإنسانية المناط بالديبلوماسية الفلسطينية نشرها والتنظير لها، ومنها حق الشعب الفلسطيني في ممارسة المقاومة السلمية الشعبية.
عدم استفادة الديبلوماسية الفلسطينية بالشكل الكافي من مجموعة الأجسام الدولية والعربية المنضمة إليها فلسطين كجامعة الدول العربية في تشكيل مجموعات ضغط مناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني.
هدف الورقة
تشكل الديبلوماسية الفلسطينية ركيزة أساسية في إبقاء القضية الفلسطينية في صدارة اهتمام العالم، وتعتبر ركنًا مهمًا في منظومة العمل السياسي الفلسطيني الحديث بعد حصول فلسطين على عضوية الأمم المتحدة كدولة مراقب.
تهدف هذه الورقة وبشكل أساسي إلى طرح بدائل سياساتية واضحة لتفعيل دور الديبلوماسية الفلسطينية سياسيًا لتعزيز مكانة المقاومة الشعبية الفلسطينية دوليًا، والكشف عن ممارسات الاحتلال العنيفة بحق المدنيين السلميين خلال فعاليات المقاومة الشعبية؛ لزيادة رقعة الإدانة وعزل إسرائيل سياسيًا، وتسهيل تقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين للمحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم الوطنية لدى الدول التي ترفع أمامها قضايا ضد قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين.
المعايير المعتمدة
لإيجاد بدائل ناجعة لمعالجة حالة القصور والخمول على المستوى الديبلوماسي الفلسطيني في التحشيد لنصرة القضية الفلسطينية وخيار المقاومة الشعبية السلمية، بنيت هذه الورقة على المعايير الآتية:
مدى تبني المستوى الرسمي الفلسطيني لخيار المقاومة الشعبية السلمية.
مدى توافر الإجماع الوطني الفلسطيني من الفصائل الفلسطينية والمستوى الشعبي على خيار المقاومة الشعبية السلمية كخيار نضالي أساسي.
توافق هذا الخيار مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والقانون الدولي العام من حيث حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ومقاومة الاستعمار بكافة الوسائل المشروعة المتاحة.
المردود الإيجابي الحقيقي في حال العمل على تنفيذ تلك البدائل، وتحسين مستوى عمل الديبلوماسية الفلسطينية في المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني وفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه.
البدائل
البديل الأول: إعادة بناء منظومة العمل الديبلوماسي الفلسطيني بالاستناد إلى شبكة علاقات وبناء تحالفات جديدة
تنشط الديبلوماسية الإسرائيلية في نشر وتثبيت رواية إسرائيل في كافة الأحداث والمناسبات المتعلقة بالصراع، لا سيما فيما يخص الاعتداءات التي يمارسها الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين بمختلف الأشكال والأزمان.
في هذا الإطار، يجب على القيادة السياسية الفلسطينية اتخاذ قرار بإعادة بناء منظومة العمل الديبلوماسي الفلسطيني، بالاستناد إلى اختيار الكفاءات القادرة على خلق شبكة علاقات وتحالفات قوية وداعمة للموقف الفلسطيني السياسي في المؤسسات الدولية. ويقع على عاتق هذه المنظومة عبء الحد من التمدد الديبلوماسي السياسي الإسرائيلي، من خلال فعاليات واتصالات مستمرة تعزز الرواية الفلسطينية وتدافع عنها بالحجج والبراهين.
إن احتمالية وجود خطة عمل ناظمة للعمل الديبلوماسي تعتمد في جوهرها على بناء تحالف فلسطيني داخلي من الوزارات ذات العلاقة مع بعض المؤسسات الحقوقية والمؤسسات الإعلامية لينصب عمله على التوعية بأهمية مفهوم الثقافة الشعبية السلمية والتنسيق للفعاليات بين مختلف القطاعات الحكومية والمؤسسية والشعبية وضمان تغطيتها إعلاميًا وحقوقيًا؛ يعزز الإيمان الداخلي بثقافة المقاومة الشعبية السلمية، مما ينعكس تباعًا بشكل إيجابي على الأداء الجمعي الفلسطيني.
هنا، يناط بمكونات هذه الخطة دور أساسي في تزويد الديبلوماسية الفلسطينية بكافة التفاصيل المتعلقة بفعاليات المقاومة الشعبية السلمية، ومعلومات حول ضحايا هذه الفعاليات؛ لتعميم هذه الانتهاكات على دول العالم، لخلق إدانة دولية للجرائم الإسرائيلية، ولولا ذلك فإن الماكنة الإعلامية والديبلوماسية الإسرائيلية ستخلق رواية لدى تلك الدول يصعب على المتأخر أو المقصر تغييرها.
إن إعداد مثل هذه الخطة يجب أن يستند إلى وجود كادر بشري مدرب ومؤهل لقيادة هذه المعركة الديبلوماسية الشرسة، التي ستهيئ الرأي العام العالمي لخوض مراحل أكثر صعوبة على إسرائيل، ستدفع من خلالها تكلفة الاحتلال، كعزلها دوليًا، وربما حظر دخول قادتها إلى الدول، وصولًا إلى محاكمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية.
يجب أن يرتكز إصلاح النظام الديبلوماسي الفلسطيني على اعتبار مجلس الأمن والجمعية العامة والمؤسسات الدولية الناشطة لاعبين أساسيين وفاعلين في التحشيد، واستجلاب الحماية بكافة أشكالها لطرح المقاومة الشعبية السلمية التي يمارسها الشعب الفلسطيني منذ سنوات طويلة، وتبيان الفاتورة التي دفعها الفلسطينيون وما زالوا خلال الشهرين المنصرمين على الحدود الشرقية لقطاع غزة وحتى تاريخ نشر هذه الورقة، إذ استشهد أكثر من 150 فلسطينيًا وأصيب الآلاف بجروح مختلفة، عدد كبير منهم أصيب بإعاقات دائمة، بحسب ما صرحت به وزارة الصحة الفلسطينية منتصف تموز 2018.
كان يجب على العالم أن يقف مليًا عند هذه الأحداث، ويحاسب إسرائيل على بطشها بالمدنيين العزل، وهذا الدور مناط بشكل أساسي بالديبلوماسية الفلسطينية!
إضافة إلى ما سبق، يجب على صانع القرار الفلسطيني أن يراعي في إعادة صياغة منظومة العمل الديبلوماسي وجود قوى دولية جديدة وتراجع فكرة القطب الواحد، إذ إن روسيا تستعيد قوتها ومكانتها الدولية، فضلًا عن وجود الصين كقوة سياسية واقتصادية كبرى تصعد سلم صدارة المشهد الدولي إلى جانب القوى العظمى.
إن كسب تلك القوى إلى جانب دول أميركا اللاتينية التي تعتبر داعمة وحليفة للقضية الفلسطينية، يرفع من أسهم فكرة نيل الشعب الفلسطيني حقوقه بالوسائل المشروعة التي قررها القانون الدولي، والتي مارستها معظم تلك الدول للتخلص من الاستعمار الناتج عن الحربين العالميتين الأولى والثانية.
محاكمة البديل الأول:
المقبولية: يحظى هذا البديل بمقبولية، لأنه يقوم على التجهيز الجيد على المستوى الداخلي، وويعد من العمل الديبلوماسي النظيف الذي لا يخالف أيًا من القوانين أو الاتفاقيات الدولية، إضافة إلى عدم مخالفته لأي من الأعراف الديبلوماسية المستقرة.
الإمكانية: ليست ضعيفة، ولكنه يحتاج إلى خطة عمل منظمة مرتبطة بنتائج مرجوة ضمن إطار زمني معين، وإلى وجود عناصر مشجعة لتطبيقه، مثل اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين كعضو مراقب، وهذا يضع القيادة الفلسطينية تحت ضغط تحسين الرواية الفلسطينية وتمتينها عبر ممثلي فلسطين الديبلوماسيين.
المرونة: مرن في التطبيق لإمكانية استخدامه مجزّأً، إذ يعتمد في جوهره على تطوير قدرات الكادر البشري بالدرجة الأولى حول رصد وتوثيق الانتهاكات، بالإضافة إلى مرونة الاتصال والتشبيك بين الوزرات والهيئات الحكومية والأهلية ذات العلاقة.
البديل الثاني: دمج الجاليات الفلسطينية المتواجدة في الشتات من خلال خطة مناصرة لتعزيز خيار المقاومة الشعبية سياسيًا
نتج عن قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي في العام 1948 ما يعرف بالنكبة الفلسطينية، التي تسببت في تشريد ملايين الفلسطينيين حول العالم، لتتحول من تشريد مؤقت إلى ظاهرة لجوء ممتدة عبر الزمان والمكان.
إن تواجد العنصر البشري الفلسطيني في أوروبا وأميركا، بالإضافة إلى الدول العربية المحيطة بفلسطين كلبنان وسوريا والأردن، يعطي القضية الفلسطينية بمختلف تفاصيلها زخمًا في تلك الدول، لا سيما أن القضية الفلسطينية هي القضية الأولى عالميًا منذ عقود، وتعدذها الدول العظمى نقطة الصراع الأساسية لمعظم الخلافات بين القوى العظمى.
تملك الجاليات الفلسطينية إمكانيات جيدة، ويبدع الفلسطينيون، وخاصة في أوروبا، في الطب والهندسة والعلوم الطبيعية، ما حذا بالدول المستضيفة لهم تقدير هذه الإمكانيات التي تظهر على الدوام من خلال المناسبات والمسابقات العلمية الدولية.
يجب أن يستثمر هذا الحضور القوي للعنصر البشري الفلسطيني في الشتات في التأثير على الرأي العام العالمي/ من خلال التواصل الفلسطيني الداخلي مع تلك الكفاءات، ووضع الجميع عند مسؤوليته الوطنية التي تحتم عليه استقطاب الشعوب المستضيفة لفكرة تأييد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بكافة الوسائل المشرعة دوليًا، وعلى رأسها المقاومة الشعبية.
أضف إلى ذلك أن الوجود الفلسطيني في دول الوطن العربي ما زال يتمتع بزخم كبير، وهذا يسهل وصول الصوت الفلسطيني إلى الشعوب العربية التي تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها المركزية مهما غرقت تلك الشعوب في همومها وصراعاتها الداخلية.
إن هذا التواجد بأهميته يجب أن يُستثمر بشكل سريع وفعال في دعم المقاومة الشعبية، التي يمارسها الفلسطينيون دفاعًا عن حقوق انتهكها الاحتلال الإسرائيلي وعجز القانون الدولي بأدواته عن حمايتها والدفاع عنها. ويجب أن تتوسع تحركات الجاليات الفلسطينية في كافة الدول، ضمن خطة منظمة، لحشد التأييد والدعم لخيار المقاومة الشعبية سياسيًا، وكسب التعاطف والتأييد على مستوى الشعوب أيضًا، فهي بدورها تضغط على قياداتها السياسية للوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، ما ينعكس على مواقف تلك الدول داخل أروقة المنظمات الدولية، وهذا يساعد على عزل الرواية الإسرائيلية، وتشجيع المؤسسة الفلسطينية الرسمية للذهاب بعيدًا باتجاه إدانة الاحتلال على جرائمه، لاسيما الاعتداءات المستمرة على المشاركين في فعاليات المقاومة الشعبية.
يجب أن يتم ربط تحرك الجاليات الفلسطينية بتنسيق كامل مع القنصليات ومكاتب التمثيل الفلسطينية في كل دولة، بحيث يتم تفعيل الديبلوماسية الفلسطينية والجاليات الشعبية ضمن خطط تحرك واضحة، استجابة لأحداث تاريخية تحمل رمزية القضية الفلسطينية، أو استجابة لأحداث طارئة تستوجب تكاتف الكل الفلسطيني لتحشيد الدعم الدولي الشعبي والرسمي لخلق جبهة معارضة لإسرائيل وحلفائها كأميركا وبعض الدول الأخرى.
محاكمة البديل الثاني:
المقبولية: يتمتع بقبول شعبي كبير لخصوصية القضية الفلسطينية وروح الانتماء التي يشعر بها الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.
الإمكانية: البديل قابل للتطبيق، لكن فعاليته الميدانية والتأثير الفعلي في الحالة السياسية الفلسطينية الداخلية التي تؤثر بشكل مباشر على الروح المعنوية لحملة لواء الفكرة، ستصبح أكبر بعد إنهاء حالة الانقسام الداخلي.
المنفعة: يعود هذا البديل على القضية الفلسطينية بالنفع الكبير، إذ يعمل على استنهاض الضمير العالمي، ويبقي القضية تحت المجهر الدولي ليزيد من إحراج إسرائيل، من خلال نشر فكرة قيامها بقتل العزل السلميين لمجرد خروجهم للمطالبة بالمستوى الأدنى من حقوقهم الأساسية.
الخسائر: قد تقوم بعض الدول من حلفاء إسرائيل بمنع تحشيد الرأي العام الداخلي لديها من خلال منع فعاليات الجاليات، وقد تتطور الإجراءات إلى حرمان المنظمين من الإقامات الشخصية لديهم، أو توجيه تهم لهم حسب القوانين الداخلية لتلك الدول، أملًا في أن تتوقف كافة أشكال التضامن لكسب موقف نقطة لصالح نفسها أمام اسرائيل.
البديل الثالث: تفعيل الملاحقة القضائية في المحاكم الدولية
إن ما يرتكبه الاحتلال من جرائم قتل متعمد وإيقاع أذى بليغ بالمشاركين في فعاليات المقاومة الشعبية هي جرائم حرب، تستوجب الملاحقة القضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأمام المحاكم الأوروبية. ويجب أيضًا أن يقوم الجانب الفلسطيني الرسمي والمؤسسات العاملة بحقوق الإنسان بتفعيل المطالبة بالتعويضات عن الخسائر البشرية والمادية الناتجة عن قيام الاحتلال بقمع ومنع والاعتداء على المشاركين في المقاومة الشعبية، أمام المحاكم الدولية والمحاكم الإسرائيلية الداخلية.
إن الملاحقة القضائية خيار يؤرق مضجع قادة دولة الاحتلال لما في ذلك من احتمال عزل قيادة إسرائيل السياسية والعسكرية على المستوى الرسمي الدولي، وفرض حركة محدودة عليها. وقد تم تسجيل سوابق بهذا الصدد في تموز 2016، حين تلقت تسيبي ليفني، وهي في العاصمة البريطانية لندن، استدعاء للتحقيق بشأن دورها في ارتكاب جرائم حرب خلال العدوان الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة عامي 2008-2009، من قبل "سكوتلاند يارد" (وحدة الجرائم العظمى في الشرطة البريطانية)، إذ أبلغت ليفني بالمثول أمام محققيها عبر رسالة مباشرة إلى بريدها الإلكتروني الخاص.
يستوجب هذا الخيار وجود لجنة قانونية فلسطينية متخصصة بإقامة القضايا القضائية أمام المحاكم الدولية والداخلية المختصة، ومتابعة تلك القضايا ميدانيًا، وتزويد الرأي العام بنتائجها باستمرارية عبر الإعلام.
محاكمة البديل الثالث:
المقبولية: لا يحظى بقبول كبير من الدول، خاصة الدول الكبرى، لتمسكها بإمكانية حل الصراع بالتفاوض المباشر بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. كما أن هذا الخيار لا يتمتع بالمقبولية الكاملة لدى الطرف الفلسطيني الرسمي.
الإمكانية: البديل قابل للتطبيق، ويعتمد بشكل أساسي في فعاليته على قوة التحرك الفلسطيني القانوني والقضائي، وعدم تدخل قوى عظمى تؤثر على مسار التحقيقات والإجراءات المتبعة.
المنفعة: يحقق هذا البديل منفعة كبيرة، إذ يبقي إسرائيل تحت حالة التأهب، وقد يستخدم كورقة ضغط رابحة في أي ملف يتم التفاوض بشأنه مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث يبقى المستوى الفلسطيني يلوح بإمكانية الذهاب بعيدًا باتجاه الملاحقة القضائية ما لم تتنازل إسرائيل في هذه القضية أو تلك.
الشرعية: يحظى هذا البديل بشرعية دولية ضمن ما نص عليه القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات والمعاهدات ذات العلاقة، خاصة "ميثاق روما" الذي أعطى المحكمة الجنائية الدولي صلاحية محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والاعتداء.
الخسائر: قد تقوم إسرائيل بخطوات شديدة الخطورة في حال شعرت بأن تلك الإجراءات القضائية بدأت تؤتي أكلها، وتؤثر على حركة قادة الاحتلال وسفرهم خوفًا من الملاحقة والاعتقال. ومن هذه الخطوات احتلال الضفة وإسقاط السلطة الوطنية، خاصة إذا ما كان مصدر الملاحقة هي المحكمة الجنائية الدولية، وقد تأتي بخطوات استباقية برفع شكاوى لدى ذات المحاكم حول قيام الفلسطينيين بـ"أعمال عدائية" حسب ما تعتبره إسرائيل.
المفاضلة بين البدائل
حملت البدائل المطروحة تصورات تزيد من تفعيل الديبلوماسية الفلسطينية لخيار المقاومة الشعبية دوليًا، وقد تحقق مكاسب فلسطينية على الصعيد الداخلي من خلال البديلين الثاني والثالث تحديدًا، وتبقي إسرائيل تحت مجهر المحاكم ولجان التحقيق الدولية متى شاء المستوى الفلسطيني الرسمي والشعب ذلك.
على الرغم من تكامل البدائل الثلاثة المطروحة وأهمية تنفيذها بشكل متوازٍ، إلا أن المعطيات تفيد بأن استخدام البديل الأول في الوقت الحالي أساسيًا والبديل الثاني بشكل متدرج هي أفضل الخيارات، وصولًا إلى البديل الثالث الذي يحمل فعالية عالية وسريعة، ولكن محاذيره كبيرة.
إن تنفيذ البدائل المطروحة يحتاج إلى حالة وحدة وطنية في الموقف والفكرة على الأقل في هذا الإطار. كما تحتاج البدائل إلى طواقم متخصصة ومؤهلة لضمان حسن التنفيذ، وصولًا إلى النتائج المنشودة من تلك الورقة، وإلى الاحتياج الماس للاستفادة من تجارب الدول التي مرت بنفس الظرف الذي نمر به حاليًا.
*منتدى الشباب الفلسطيني للسياسات والتفكير الإستراتيجي: منبر شبابي فلسطيني مستدام، حر ومستقل، يجمع عددًا من الباحثين/ات الشباب خريجي برنامج السياسات العامة والتفكير الإستراتيجي الذي ينفذه مركز مسارات، المهتمين بواقع ومستقبل القضية الفلسطينية. ويهدف إلى تعزيز مشاركة الشباب الفلسطيني في السياق الوطني ضمن الشرط الاستعماري. كما يمثل المنتدى حاضنة سياساتية متخصصة تعمل تحت إشراف ومتابعة مركز مسارات.