على الرغم من أن رئيس الإدارة الأمريكية اليوم دونالد ترامب لم يكن ذي صلة أو تأثير بالسياسة الخارجية الأمريكية، وتحديدًا ما يتعلق منها بالسياسات الأمريكية الشرق أوسطية في فترة ما يسمى بـ "الربيع العربي" ولا بالانقسام الفلسطيني؛ إلا ان سياساته الشرق أوسطية، وفي مقدمتها مبادرته غير المعلنة والمتداولة بكثرة والمسماة بـ "صفقة القرن"، تأتي كتتويج طبيعي لمخرجات ذلك المسمى ربيعًا، صفقة يُراد لها حسم قضايا وملفات استراتيجية تترجم حالة الصعود الصهيوأمريكي والهبوط والانحدار العربي إلى قرارات سياسية وتحالفات إقليمية، تمنح القوي - لأول مرة - اعترافًا بسطوته وتلتزم له باستحقاقاتها.
تدمير العراق وسوريا واختلاق "الخطر الإيراني" ومنح بن سلمان صك الشرعية؛ حوّل الامارات والسعودية والبحرين إلى دول قرار، بعد أن تحوّلت إلى أدوات لتنفيذ الصفقة، بما تمتلكه من قدرات مالية ونفوذ إقليمي.
وبرغم مواقفها الاضطرارية في القمة العربية الأخيرة من قضية القدس، وما حمله بيان القمة التي أطلق عليه "قمة القدس" تحت ضغط القيادة الفلسطينية، والتي يحسب لها ذلك؛ إلا ان موقف هذه الدول الخجول من القرار الأمريكي بنقل السفارة، وما رافق ذلك من تسريبات حول عرض استبدال القدس بـأبو ديس كعاصمة، وأقوال وزير خارجية البحرين، وتصريحات بن سلمان، والترويج في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام السعودي لفكرة إسقاط صفة العدو عن دولة الاحتلال؛ كلّ ذلك يؤكد دون أدنى شك طبيعة ووجهة المسار الذي تسلكه هذه الدول.
فضلًا عمّا سبق، فأن الكثير من المراقبين يرجعون أصل التوتر في علاقة الأردن بدول الخليج ومحاصرته ماليًا لموقف الأردن المتمسك بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم وعاصمتها القدس، ورفضه أي مساس بمكانة القدس الدينية والسياسية. وكان الملك عبد الله قد أعلن بصراحة كبيرة، في إحدى لقاءاته الإعلامية، أن الأردن يعيش أزمة اقتصادية بسبب موقفة من القدس، وأن جهات تحاول ابتزاز موقفهم بالدعم المالي عبر وعودات بالكثير من الأموال في حال غيروا موقفهم.
للمملكة أسباب كثيرة تجعلها أو تضطرها للتمسك بموقفها المناصر وللقضية الفلسطينية، والمتمسك على وجه الخصوص بعدم تغيير مكانة القدس، منها ما يرجع للديموغرافيا ومخاطرها، ومنها ما له علاقة بالمكانة والمسؤولية التاريخية، والمسؤولية أمام العالمين العربي والإسلامي، بالإضافة لمحاذير لها علاقة بمستقبل المملكة ومخاطر تحولها إلى وطن بديل؛ وهو حلم صهيوني لا زال مشتعلًا. كما من المهم هنا الإشارة إلى أن موقف الملك ليس بالضرورة ان يمثل موقف كل المكونات السياسية الأردنية، حيث لبعضها مواقف وتوجهات تنسجم مع أجندات أمريكية وخليجية.
منذ سنتين والأردن - في ظل أزمته الاقتصادية المتفاقمة، والتي جزء كبير منها يعود للأعباء الاقتصادية الناتجة عن لجوء أكثر من مائة ألف لاجئ سوري إلى الأراضي الأردنية - يعيش تحت ضغوط اقتصادية كبيرة وضغوط من البنك الدولي وضغوط أخرى ناتجة عن وقف أو تقليص المساعدات الخليجية؛ الأمر الذي كان له انعكاسات على الظروف المعيشية للمواطن الأردني (غلاء أسعار، وتفاقم في أزمة البطالة بما يقارب 35% حسب بعض الإحصاءات)، وزيادة مديونية المملكة بنسبة كبيرة مقارنة بناتجها القومي؛ الأمر الذي اضطرها للانصياع لضغوط البنك الدولي (الذي تهيمن علية أمريكا)، فقبل بمقترح رفع نسبة الضرائب الداخلية وتقليص الدعم عن بعض المواد الأساسية، ممّا خلق ارهاصات لحراك شعبي كبير ضد سياسات الحكومة الاقتصادية، وكان يمكن ان تشكل بداية لحراك تصاعدي يتجاوز المطالب الاقتصادية، أي كنسخة مكررة عن حراكات عربية سابقة؛ إلا ان المملكة استطاعت احتواء غضب الجمهور بخطوات سريعة، ويحسب للمسؤولين عن الحراك إحساسهم بالمسؤولية وتمسكهم بحصر وتركيز أهدافهم بالحالة الاقتصادية واستجابتهم بإعطاء الحكومة الجديدة الفرصة الكافية.
الحراك - الذي توقف - أشعل في قصر الملك الكثير من الأضواء الحمراء التي لا زالت مشتعلة وحملت للملك الكثير من الرسائل، ويبدو ان أهم تلك الرسائل هي الرسالة التي ستصله في الاجتماع الذي دعي إليه في السعودية بحضور دول الخليج، والذي عنوانه دراسة كيفية تقديم المساعدات الاقتصادية للأردن، ويبدو أنه سيعرف ان ابن سلمان لا ينوي أن يقدم وجبات مجانية، وأن الابتزاز سيكون في أكثر مراحله وقاحة ومباشرة.
الملك والمملكة في موقف حرج جدًا؛ فعليه إما الاستجابة للمحور الخليجي الأمريكي أو للمحور الإسرائيلي، فترامب ومعه الخليج يريد ان يتوج صفقته بتطبيع عربي يسبقه أو يتلوه دولة فلسطينية على جزء من الضفة وعلى كامل قطاع غزة، أي كيان سياسي فلسطيني واحد، لكنه بدون القدس، بدون 40% من الضفة، وطبعًا بدون لاجئين، بينما دولة الاحتلال تسعى لفصل القطاع استراتيجيًا عن الضفة، بحيث لا يكون للفلسطينيين هوية واحدة، وتسوية إدارة السكان على ما تبقى مع الضفة بعد وقت طويل مع الأردن.
بشكل أو بآخر، دولة الاحتلال ترحب بإعادة الأردن لارتباطها بالضفة الذي فكته في عهد الراحل الملك حسين سنة 88، ولذلك سيجد الملك عبد الله مطالب في وقت ما بالاختيار بين صفقة ترامب أو إعادة الارتباط إلى الضفة وإعادة الشراكة الوظيفية، وحتى الآن نعتقد بأن الملك عبد الله يرى في كلا الخياريْن خطرًا ويتمسك برفضهما ويعلن تمسكه بخيار حل الدولتين.
يذكر ان قرار فك الارتباط هو القرار الذي اتخذه العاهل الأردني الملك حسين عام 1988، بإنهاء ارتباط الضفة الغربية إداريًا وقانونيًا مع المملكة الأردنية الهاشمية، حيث كان يعرف هذا الارتباط باسم وحدة الضفتين.