فقر ودجل.. سما حسن

الخميس 07 يونيو 2018 10:42 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 

على ناصية الحي قابلتني وهي تسحب طفلها الصغير، وبعد السلام والتحية رجتني أن أقرضها مبلغاً صغيراً من المال، وكنت أعرف كالعادة أنه من القروض التي تتحول إلى منح، ولذلك فقد دفعت لها المبلغ لأنني على علم  بفقرها، وعائلتها المكونة من خمسة أطفال، ولكني فوجئت بها أنها ستدفعه لمشعوذة عجوز تسكن إلى الجوار من بيت أهلها، وأنها في طريقها إليها حيث أخبرتها في زيارة سابقة عن سحر قد أعد لها من سيدة تكرهها وتضمر لها الحقد والبغضاء، وتريد تدمير حياتها.
ركزت أكثر في كلامها وهي الفقيرة التي لا تملك شيئاً سوى غرفة صغيرة في بيت قديم وتعيش معها زوجات أشقاء زوجها، فكل واحدة تحتل غرفة في ذلك البيت، وتعسكر فيه مع حزمة من الأطفال المتشابهين في وجوههم الكالحة وشعورهم المتقصفة لسوء تغذيتهم.
أكدت بكل ثقة وهي تهمس وتلتفت حولها عدة مرات وتستعيذ بالله من شر الشياطين والجن بأن السحر قد أعدته واحدة من زوجات أشقاء زوجها لأنها تغار منها، وهنا أفلتت مني ابتسامة كادت تتحول إلى ضحكة حين قالت: تحسدني لأنني أنجب كل سنة طفلاً، وهي تنجب كل خمس سنوات طفلا وبعد أن تتعالج لدى الأطباء، ولذلك فمن المؤكد أنها قد أعدت لي هذا السحر الذي أخبرتني "ستنا الشيخة" أنه قد أعد لي بغرض المرض، ولكي لا أنجب بعد ذلك.
فركت عيني لأتأكد أنني أتحدث مع سيدة في العشرينيات من عمرها بالفعل وليس مع عجوز، وبأن هذا الحديث يدور في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وحين تأكدت من ذلك طرأ على بالي سؤال ملح فبادرتها به: هل تملك زوجة شقيق زوجك يعني سلفتك بالبلدي المال لكي تذهب لساحر أو ساحرة وتعد لك سحراً يعني " تعمل لك عمل"؟
فهزت رأسها نفياً، لأن المرأة المتهمة هي أشد منها فقراً، ولا يمكن أن تملك المال، ولكنها ربما اقترضت في سبيل النيل منها، وقد حدثت نفسي: ربما اقترضت مثلما تقترضين مني لكي تدفعي لساحرة أخرى لتفك سحرك......
هذا الحوار الغريب كان يدور على ناصية الحي الذي أقطن فيه، وبالفعل كانت هذه السيدة على ثقة تامة أن المرض الذي تعاني منه بسبب السحر، ولم أكذب خبراً كما يقولون، فقد قررت أن أسأل طبيباً عن مرض يسبب ارتعاش الأعصاب أو ارتخاءها، أو حالة من الهزال والضعف العام، وكان رده أن نقص الفيتامينات والحديد بسبب سوء التغذية وفي مراحل متطورة يؤدي لهذه الأعراض، وهناك أسباب أخرى.
هذه السيدة التي تعيش في فقر مدقع لم تفكر في أي شيء حين بدأت تعاني من هذه الأعراض سوى أنها قد تعرضت لخطر سحر فتاك، ووجهت اصبع الاتهام لبائسة مثلها تعيش مثل بؤسها وفقرها ومعاناتها، كما أنها ورغم أن لديها خمسة أطفال لا تجد ما يسد رمقهم، فهي حريصة كل الحرص على سر وجودها وبقائها كزوجة وهو قدرتها على الانجاب التي تتباهى بها بين النسوة الجاهلات، وتجعل رأس زوجها يرتفع شموخا في مجالس الرجال بأنه رجل "مخصب" على حد تعبيرهم.
لم تفكر هذه البائسة بأن تغير من وضعها، ولم تطلب مني مبلغا صغيرا لتشتري طعاما أو لتزور طبيبا، فهي ترى أن ما تعاني منه لا يفهم فيه الأطباء، ولن تجد له حلاً إلا عند "ستنا الشيخة".
ستنا الشيخة كلما كان بيتها بعيدا وفي منطقة نائية كلما كان تأثيرها أقوى، ومطالبها أكثر، أي " سرها باتع"، وسوف تحرص زبوناتها على تلبية كل ما تطلب وكل ما تشترط بدءاً من النملة اليتيمة إلى العصفور الأعزب وغيرها من الشروط التي كلما كانت صعبة وتعجيزية، كلما تخيل البسطاء والفقراء أنها سوف تأتي بنتيجة.
وربما أخطئ حين أقول أن البسطاء والفقراء هم زبائن مثل هؤلاء المشعوذات، لأن هناك سيدات ثريات يطرقن أبوابهن، ويعملن بنصائحهن، فليس هناك شيء مهم في الحياة مثل الحفاظ على زوج مراهق، ومنعه من الزواج بثانية حتى لو كانت الحياة معه جحيما لا يطاق، فـ "ستنا الشيخة" جاهزة، وأموال هذا الزوج جاهزة أيضاً.