إستراتيجية معاكسة ثلاثية الأبعاد...حسين حجازي

السبت 26 مايو 2018 02:17 م / بتوقيت القدس +2GMT



هل بدأنا فعلياً ولأول مرة على هذا القدر من الجدية الاقتراب من محاصرة إسرائيل وتشديد الطوق حول رقبتها أولاً قانونياً على مستوى منظومة القانون الدولي، وثانياً إعلامياً وأخلاقياً على مستوى الرأي العام العالمي، وثالثاً أي تالياً على المستوى السياسي؟ إذا كان ما يحدث اليوم على المسرح السياسي العالمي هو أن قلب العالم التاريخي أي الاتحاد الأوروبي وعاصمته بروكسل، قد بدأ في الإعلان عن شق عصا الطاعة في وجه أميركا، وبدأ يتجه نحو التحالف مع الأطراف وهذه الأطراف هي روسيا والصين، لتغير خريطة التوازنات في العالم ربما لحقبة جديدة قادمة هدفها عزل أميركا بجعل أميركا أولاً تأكل نفسها. 
وليس ثمة هنا من داع لطرح السؤال أين تقف إسرائيل في هذه المعادلة؟ وأين نقف نحن؟ وقد قال أحدهم قبل أيام في حكومة نتنياهو: ليذهب الاتحاد الأوروبي المنافق المنحاز للفلسطينيين إلى ألف ألف جحيم.
ولكن هل حدثت هذه التغيرات الحاسمة كنتيجة وثمرة للثورة الشعبية السلمية، التي بلغت في غزة على مدى الأسابيع الثمانية ثمانية أيام جمعة فقط ذروة وتأصيلاً غير مسبوق، بدمغة وتوقيع فلسطيني مَثَّل طبعة فلسطينية خاصة أم لأن كل هذا لم يكن ليحدث لولا الأخطاء بل الحماقات والقرارات المتهورة والمهلكة التي قام بها هذان الخصمان غير العاقلين بالتأكيد، التبرع بها عن تلقاء نفسيهما ليس لنا لوحدنا ولكن لأوروبا وروسيا والصين وحتى لإيران وتركيا؟ وحيث يوجد كل طرف من هؤلاء في خصومة مع رئيس الولايات المتحدة تستدعي الثأر والانتقام. 
ومن تحصيل الحاصل أن تجاوز اليمين كل حدود التطرف في استخدام القوة ضد الفلسطينيين يوم الرابع عشر من أيار، أحدث صدمة أخلاقية في العالم لم يسبق أن عبرت المؤسسات الدولية الحقوقية بهذا القدر من التصميم على محاسبة إسرائيل.
إن إعادة تصحيح الاختلالات أو اغلاق هذه الفجوات وصولاً إلى تحقيق التوازن، إنما كان ولا يزال يمثل قانون التاريخ أو عقل هذا التاريخ. وهكذا إذ بدا كما لو أن اختراقاً أو ارتخاء قد طال اللحمة الإقليمية العربية الأخيرة ولكن المتماسكة أو الموحدة، التي كانت تمثلها مجموعة دول الخليج. فإن التوازن المعاكس يحدث اليوم في التحالف التركي الإيراني بحيث يمكن القول: إنه من فوق التنافس التقليدي بين هاتين الدولتين الكبيرتين، والخلافات العديدة بينهما في سورية على سبيل المثال، إلا أنهما يتفقان بل يتوحدان على فلسطين والوقوف ضد العدوانية الإسرائيلية كما ضد التوسعية والاحتلال الإسرائيلي.
وبموازاة هذا التحول في الإقليم فإنه اذ تجاوز دونالد ترامب كل الخطوط أو الحدود في تقديم الدعم أو الغطاء للحكومة الإسرائيلية المتطرفة، فإن ما نشهده انطلاقا من مؤتمر فيينا الذي يضم الدول الأربعة الكبرى، إن أوروبا هي التي تأخذ اليوم المبادرة على الجهة المقابلة للأطلسي في تبني التوازن أو الإستراتيجية المعاكسة في مواجهة إدارة الرئيس  ترامب. وليس انعقاد مؤتمر فيينا الرباعي، يوم أمس، إلا تعبيراً ربما عن بداية تشكيل هذا التحالف الدولي العالمي لمحاصرة وتطويق ما يبدو اليوم في نظر الأوروبيون تجاوز إدارة ترامب، وتهديدها مكانة بل وهيبة وسيادة واستقلال الأوروبيين. وبالتالي ضرب النظام أو النواة الصلبة والتقليدية للنظام العالمي.
هل يصح أو يجوز إذاً الافتراض أن هذا المتغير الحاسم وغير المسبوق منذ الحرب الباردة في البيئة الإستراتيجية الدولية، يمكن البناء عليه فلسطينياً لتوفير الفرصة المواتية لملاءمة المقاربة الفلسطينية مؤخراً، استبدال الوساطة الأميركية الأحادية في رعاية أي مفاوضات مقبلة مع إسرائيل بهذه الوساطة أو المظلة الدولية متعددة الأطراف، التي تضم الاتحاد الأوروبي إلى جانب روسيا والصين. أي الائتلاف الدولي الذي اجتمع، أمس، في فيينا لصياغة الرد الجماعي أو الإستراتيجية الجماعية ضد الإدارة الأميركية.
وإذا كان هذا الافتراض ممكناً بل واقعياً، فإنه يمكن القول: إن الإستراتيجية أو الهجوم الفلسطيني المعاكس الذي قام به الرئيس أبو مازن مبكراً، في الرد على التماهي الأميركي وليس مجرد الانحياز مع السياسات المتطرفة لإسرائيل، كان يعكس بعد نظر وربما بصيرة سياسية ذكية وصائبة، وإن هذه الإستراتيجية باتت تمتلك فرصاً ممكنة لنجاحها.
ثلاثة متغيرات إذاً حدثت: محلياً على المستوى الفلسطيني وثان في الإقليم وثالث وأخير دولي، تلقي اليوم بظلالها على مجموع المشهد الشرق أوسطي، وتطال في القلب من هذا المشهد القضية الفلسطينية. والمفارقة الأخرى التي يمكن الإشارة إليها في هذا السياق، أنه رغم عدم نجاح الفلسطينيين حتى الآن في التغلب على الانقسام بين غزة ورام الله، إلا أن قدراً مدهشاً ولا يقل تأثيراً من تكامل الأدوار أو الشراكة غير المخطط لها، هي ما يوجه مجرى الأحداث كنوع من النتائج الجانبية وغير المخطط أو المتفق عليها مسبقاً بين الجانبية. هذا التكامل الذي يتمثل في التداعم أو التناغم المتبادل بين ما هو سياسي ودبلوماسي وقانوني وبين ما هو ميداني وإعلامي.
وما هو سياسي يتمثل اليوم بالقطيعة أوعدم الاكتراث بالقيود والضغوط الأميركية السابقة على القيادة الفلسطينية، والذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية وتقديم الإحالة القانونية لها لإجبارها هذه المرة البدء في التحقيق بجرائم الحرب الإسرائيلية والاستيطان. كما الذهاب إلى منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لتشكيل لجنة تحقيق دولية بما جرى على الحدود مع غزة ضد المتظاهرين السلميين. وهذا الذي جرى هو ما أثار غضب وحنق المفوض العام لوكالة الغوث، وما رأيناه في الاحتجاجات الغاضبة في أحد الجامعات الأميركية ضد المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي، التي صرخ في وجهها الطلاب باتهامها المشاركة في قتل الفلسطينيين، وقالوا لها: إن يديها ملطختان بالدماء. وكذلك مواصلة الضغط في الأمم المتحدة لتأمين الحماية الدولية للشعب الفلسطيني.
أما ما هو ميداني فهو ربما قرب تحقيق هذه الثورة الغزية السلمية من هدف تفكيك الحصار حول غزة، وهو ما يبدو القاسم المشترك بين كل الدعوات والتدخلات التي نسمعها من أنه حان الوقت لإنهاء المعاناة الإنسانية لأهل غزة. لكن السؤال اليوم عند هذا المقترب إن كان الفلسطينيون سيجرؤون على تحقيق الانتصار، بالقدرة على إعادة تنسيق الأبعاد بين ما هو ميداني وسياسي وإنساني، وبالتالي تفكيك الحصار عن غزة كهدف مباشر، ولكن دون التراجع عن الرؤية المشتركة الواحدة في إطار الإستراتيجية السياسية المعاكسة.