بعض الأفكار لا تموت أبدا. وفي الآونة الأخيرة، اقترحت إدارة «ترامب»، عبر مكالمة هاتفية من مستشار الأمن القومي «جون بولتون» إلى رئيس المخابرات المصري المؤقت «عباس كامل»، إنشاء قوة استكشافية عربية يتم نشرها في سوريا. وفي هذه العملية، كان البيت الأبيض يقوم بإعادة إحياء مفهوم ظهر على مدى عقود من الزمن في الخطاب الشرق أوسطي، فقط ليتبخر بسرعة ثم يعود إلى الظهور فجأة. وتعود فكرة التحالف العسكري الإقليمي الذي قد يمثل المصالح السياسية والأمنية العربية الجماعية في النزاعات إلى الخمسينات على الأقل. لكن الإرادة السياسية لتسهيل إنشائه لم تكن كافية لتجاوز مرحلة الاقتراح، ومن غير المحتمل أن يظهر فجأة الآن، على الرغم من الضغط الأمريكي والعقبات الصعبة التي يقع فيها مفهوم «المصلحة القومية العربية» نفسه.
مهام أخرى
وقد بدأ الرئيس «دونالد ترامب» المحادثة بالطلب من وزارة الدفاع للبدء في التحضير للانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من سوريا، على أساس أن القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» كان المصلحة الأمريكية الرئيسية الوحيدة في الصراع. ومع ذلك، في حين كان «ترامب» يدعو إلى هذا الانسحاب السريع، كان مسؤولون أمريكيون آخرون يؤكدون العكس. وقال قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال «جوزيف فوتيل»، إن «الجزء الصعب، كما أعتقد، لم يأت بعد». وكان «فوتيل» يشير إلى المهمة الهائلة المتمثلة في إعادة البناء في مرحلة ما بعد الصراع في بلد مدمر، لا سيما الربع السوري الواقع تحت السيطرة الأمريكية الفعلية. وتعتبر عملية إعادة الإعمار هذه ضرورية لتجنب فراغ السلطة الخطير وضمان عدم قيام تنظيم «الدولة الإسلامية» بإعادة تشكيل نفسه أو أن تظهر جماعة جهادية مماثلة تحل محله.
وكان «فوتيل» يشير أيضا إلى مهمة حاسمة أخرى تواجه المصالح الأمريكية في سوريا، والتي يركز عليها الشركاء العرب والأوروبيون، فضلا عن (إسرائيل)، بقوة، وهي الحاجة لمنع إيران ووكلائها من السيطرة على هذه المنطقة الحيوية استراتيجيا في أعقاب انهيار تنظيم «الدولة الإسلامية» ورحيل القوات الأمريكية. وتعد السيطرة على الحدود السورية العراقية أمرا ضروريا لطموحات طهران لإنشاء ممر آمن عسكريا تحت سيطرتها يعمل بمثابة «جسر بري» من إيران إلى لبنان وساحل البحر الأبيض المتوسط. وتسيطر القوات المدعومة من إيران بالفعل على جزء كبير من المنطقة الحدودية على الجانب العراقي.
وقد يكون هذا الجسر البري تطورا استراتيجيا ثوريا ومغيرا للعبة، وسيكفل فعليا لخروج إيران من الصراع السوري كقوة إقليمية عظمى تسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي تمتد عبر شمال الشرق الأوسط. ويعتبر منع هذا الأمر مهم على الأقل بالنسبة للدول العربية و(إسرائيل) وغيرهم كضمان عدم عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى الظهور. وإذا كان«ترامب» جادا في مواجهة إيران، فلا يمكنه أن يرحب بما قد يكون أحد أكبر الإنجازات الاستراتيجية في كل التاريخ الفارسي.
ومع ذلك، في وقت بدأت فيه الولايات المتحدة رفع يدها عن الصراع في الشرق الأوسط، وهو ما بدأ خلال إدارة الرئيس السابق «باراك أوباما»، ويستمر في ظل أجندة «ترامب» (أمريكا أولا)، فإن الخروج من صراعات الشرق الأوسط، حتى بشكل متسرع، قد يكون جذابا ولكن خطر للغاية. وبحسب ما ورد أخبر «ترامب» العاهل السعودي الملك «سلمان بن عبدالعزيز»، في مكالمة هاتفية حديثة، بأنه «إذا كانت السعودية والحلفاء الأمريكيين الآخرين يريدوننا أن نبقى في سوريا؟ فربما يتعين عليك دفع مقابل ذلك».
أبعد من المال
والآن، مع المكالمة الهاتفية من «بولتون»، تطورت المحادثة إلى ما هو أبعد من المساهمات المالية إلى التدخلات العسكرية المحتملة. وفي 17 أبريل/نيسان، أكد وزير الخارجية السعودي «عادل الجبير» تفكير المملكة في المساهمة بقوات هناك، قائلا: «إن المناقشات مع واشنطن حول نوع القوة التي يجب أن تبقى (في سوريا) ... وأين ستبقى تلك القوات»، وكانت المناقشات مستمرة، بشكل عام، كانت منذ أعوام.
وخلال المراحل الأولى من الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، حلق الطيران الحربي من السعودية والإمارات في مهمات عديدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، لكن المشاركة السعودية تضاءلت بعد أن بدأت الولايات المتحدة في التركيز بشكل كامل على محاربة التنظيم وتخليها عن أي جهد لتغيير النظام في دمشق. وخلال الأشهر الأخيرة من عام 2015، لا سيما في سياق الحملة الرئاسية الأمريكية، كانت هناك مطالب عديدة بأن تبدأ دول الخليج العربي مرة أخرى في لعب دور رئيسي في الحملة ضد التنظيم. وفي أوائل عام 2016، عرضت السعودية إرسال قوات برية إلى سوريا لهذا الغرض، لكن واشنطن أكدت أنها كانت تطلب المزيد من القوة الجوية، وليس قوات برية، من الدول العربية، وفضلت مواصلة العمل مع القوات الكردية والعربية المحلية على الأرض.
ولكن الآن، أصبحت المخاطر في سوريا أعلى لدى الرياض وأبوظبي وغيرها في العالم العربي، مع استعداد إيران لإعلان انتصار مذهل وتاريخي. وتصبح العقبات أمام نشر قوة استكشافية عربية هائلة. وكما كان الحال في الماضي، يعتمد استعداد المملكة للمشاركة العسكرية على استمرار وجود الولايات المتحدة في قيادة أي حملة من هذا القبيل في سوريا. لذلك، من المحتمل أن تكون الرياض راغبة في المساهمة في مهمة تقودها الولايات المتحدة، ولكن ليس في محاولة للعب دور بديل عن القوات الأمريكية بالكلية. وتشارك القوات السعودية والإماراتية بعمق في حملة صعبة في اليمن ضد «الحوثيين» في الشمال والقاعدة في الجنوب. وبالنظر إلى هذا النزاع المستمر، خاصة مع إطلاق الصواريخ الحوثية بشكل مستمر على المدن السعودية الرئيسية، فمن غير المرجح أن يكونوا راغبين أو قادرين على تحويل اهتمامهم العسكري إلى سوريا، أو أن يكونوا أكثر نجاحا في هذا السياق مما كانوا عليه في اليمن.
علاوة على ذلك، فإن الصعوبات السياسية مرعبة. ولا تشارك مصر الدول الخليجية قلقها العميق بشأن دور إيران في سوريا، وقد أيدت استمرار نظام الرئيس «بشار الأسد». لذلك من غير المحتمل أن تشارك القاهرة في سوريا، خاصة بعد تجنب أي تدخل رئيسي في نزاع اليمن، على الرغم من الطلبات المتكررة من حلفائها العرب الخليجيين. وعلاوة على ذلك، هناك مشاكل سياسية ودبلوماسية كبيرة إذا تم نشر هذه القوات العربية في سوريا ضد رغبات حكومتها ودون أي تفويض من مجلس الأمن. واقترحت المملكة أن تكون أي مساهمة بالقوة تحت عنوان «التحالف العسكري الإسلامي لمكافحة الإرهاب»، لكن هذا الكيان تم تشكيله حتى الآن لتبادل المعلومات الاستخبارية والتدريب، وليس للمهمات القتالية. وليس من الواضح كم من شركاء التحالف سيكونون على استعداد للمشاركة في مهمة عسكرية في سوريا أو تأييدها.
نتائج قليلة
وعلى الرغم من هذه العقبات، قد تؤدي هذه المحادثة إلى بعض النتائج العملية. وبالنظر إلى المخاطر التي تحول دون منع إيران من تعزيز موقعها في سوريا، وخاصة على طول الحدود مع العراق، قد تكون دول مثل السعودية والإمارات مستعدة للمساهمة بعدد قليل من القوات في جهود التحالف. وقد يكونون مستعدين لزيادة دعمهم المالي لمثل هذه المهمة وإعادة الإعمار في المناطق الحساسة في سوريا. وبالتأكيد، لا يمكنهم تحمل السماح لإيران بأن تصبح قوة إقليمية عظمى. ولا يمكن ذلك لواشنطن أيضا، إذا أخذ «ترامب» ومستشاروه خطابهم الخاص على محمل الجد. لذا، فإن إنشاء تحالف عسكري متعدد الجنسيات، بقيادة الولايات المتحدة، ولكن مع آخرين مشاركين بدرجة متواضعة ولكن موسعة عسكريا وماليا، قد يكون طريقة للقيام بالمهمة دون الإخلال بأجندة «أمريكا أولا»، بالتوسع في تقاسم الأعباء.
ويقال إن المقاول العسكري «إيريك برينس»، الذي تربطه علاقات قوية بإدارة «ترامب» والإمارات، يروج لإنشاء جيش خاص ليحل محل العديد من القوات الأمريكية إذا انسحبت واشنطن. لكن هذه الفكرة بعيدة المنال، لكن في ظل هذه الظروف، قد يساعد كلا الطرفين على التوفيق بين مقتضياتهما السياسية وأهدافهما الاستراتيجية. وقد لا تظهر قوة كبيرة من المرتزقة في سوريا، لكن «ترامب» أوضح أن الترتيب الحالي غير قابل للاستمرار، كما أن المقترحات الخاصة بقوات استكشافية عربية لاستبدال القوات الأمريكية بالكامل في سوريا ليست واقعية أيضا. ومع ذلك فإن السماح لإيران ووكلائها، أو لجماعة متطرفة أخرى، بالظهور في شرق سوريا أمر لا يمكن تصوره. وعلى الرغم من العقبات، لا بد من إيجاد حل مبتكر، ربما يضم قوات عربية في سوريا تحت قيادة الولايات المتحدة.