سألني: هل في الجنة سينما وأفلام؟ أجبت صديقي السينمائيَّ القادم من باريس: إن كُنتَ تقصد أفلاماً كما يعرفها أهل الدنيا فكيف لها أن تضاهي واقع الجنة؛ وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فالسينما مرتهنة لشروط واقعها، وما نعرفه من شاشات الحاضر سنتجاوزه بأقدار ما في أزمان لاحقة، كما تخطّيْنا أطوارها السابقة.
وتبقى الأسئلة: فإن أكل السينمائيون خبزهم من تسلية الناس وصرفهم عن ضغوط معاشهم وهمومهم اليومية، فمن يرجو في الجنة الانصراف عن نعيم مقيم؟ وإن تشبّعت الأفلام بالعنف والدم والجريمة والمخدرات والآفات، المُستلّة من واقع آسِن، فأين هي ممّا يحظى به أهل الجنة الذين لا يمسّهم فيها نصب ولا يمسّهم فيها لُغوب؟ وإن كان من وظائف السينما، كما الفنون عموماً، الإصلاح؛ فما يكون هذا تحديداً في جنة لا يبغي أهلها عنها حِوَلا؟
لا ينفك مفهومنا للسينما كما هو للفنون جميعاً عن أدوار رسالية نطلبها من صنعتها الأرضية، بما يلامس الواقع البشري في هذه "الدار المؤقتة"، مثل نشر الوعي وتنبيه الغافلين وإحياء الضمائر وإنعاش القيم النبيلة، ومناهضة الظلم والتفاوتات المجتمعية، ولفْت الانتباه إلى أوضاع التشغيل المجحفة، والحضّ على مناصرة القضايا العادلة، مع التذاكي على السلطة والرقابة إن تطلّب الموقف.
يتحرّر أهل الجنة من نزعات بدائية أرضية، فكيف ستقوى أفلام تنهض ببطولتها أدوار الشر والحقد والضغينة، على الاشتغال مع هذا السموّ الإنساني الجديد الذي آلوا إليه بنعمة من الله وفضل، وقد نزع خالقهم عز وجل ما في صدورهم من غِلّ؟
تشتغل بعض الأفلام على القلق الوجودي؛ فما الحال والجنة متحررة منه؟ تتذاكى "سينما الدنيا" بحملنا إلى خيال نخشى ما يكافئ حقيقته؛ فنخالجه بصفة افتراضية على نحو يداعب مخاوفنا الوجودية المتأصلة. نشتري التذاكر لنرتشف من كأس الهلع الرمزي عبر مشاهد الرعب والقتل والموت والعذاب والفقدان والخسران والفضيحة والهوان، ثم نحتفي بخروجنا آمنين من قاعات العرض وقد أدركنا نجاتنا من تجارب يقاسيها آخرون. لكنّ "مشاهدي" الجنة تحرّروا ابتداءً من دواعي الفزع جميعاً واجتازوا القنطرة، ولم تعد مفاتيح المخاوف الوجودية التي تتلاعب بها الشاشات تعمل معهم أو تستأهل حبس أنفاسهم أو إطلاق صرخاتهم. ما الذي يسع السينما بمقاييسها الأرضية أن تحرِّكه إذاً من هذا الوجه، لدى مَن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟
وإن صوّرت لنا أفلامُ الدنيا بعضاً من رغباتنا إلى درجة قد تستحوذ على الحبكة الدرامية؛ فإنّ ظمأ الرغبة يرتوي في الجنة من كأس الهناءة دون سأم أو فتور، وللتشويق الفردوسي أبعاده ومنطقه الذي لا يسعنا إدراكه بمنطقنا الأرضي القائم على الحاجة والسعي الجَموح إلى تلبيتها بطرق مشروعة وغير مشروعة؛ وصولاً إلى احتمال الإشباع الذي يورث الزهد بما وقع تحصيله؛ ويقع التبرّم به إلى حد القنوط من الحياة واندفاع بعض الذين بلغوا ذروة الرفاه والسعة؛ إلى شفير الانتحار بعد انقشاع هالة المجد الزائف عن أبصارهم.
إن اشتغلت السينما على ملامسة تطلّعاتنا ودغدغة آمالنا؛ فإنّ التطلعات الكبرى والآمال الثمينة حاضرة في الجنة برسم التحقق دون اصطبار أو عناء، ثواباً من عند الله، دون أن يقع السأم والنفور من بعد. وإن اشتغلت بعض الحبكات الدرامية في مقاييسنا الأرضية على مداعبة التوقعات؛ فكيف ستصمد هذه اللعبة، على حالها هذه، إن لم تستوعب التحوّل في مفهوم التوقع ذاته ولم تتكيّف مع الواقع الذي هو جنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين؟
وكيف ستبدو المشاهد البهيجة التي نحتفي بها في الشاشات الأرضية ونفغر لها أفواهنا اليوم بفضل زوايا التصوير الأخاذة؟ ما قيمة هذا كله عند الهانئين في جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وهي أنهار وهناءة لا تتصلان بمفاهيمنا الدنيوية القاصرة إلاّ بالاسم؟ أي معنى وقتها لناطحات سحاب مانهاتن أو أضواء لاس فيغاس أو بساتين بافرلي هيلز؟ وهل تقوى الشاشات على إبهار أهل الجنة بأفلام الحركة وأسماك القرش التي تقضم البشر وأشباح هالوين التي ترعبهم وسلسلة حرب النجوم وحطام السيارات المتصادمة، التي يفتر الاهتمام بها جميعاً بعد انطفاء جذوتها في الدنيا ذاتها؟
ولنا أن نتساءل أيضاً، عن أي سينما تحديداً نتحدث؟ أتكون هوليوود، التي استلبت أذهاننا وأفرغت جيوبنا، أم بوليوود التي ذرفنا الدموع السخية بعد أن حشدت لنا خلاصة "الماسالا" الهندية من الحب والبكاء والغناء والشجار الأسطوري والبطولة الخارقة، أم نوليوود الفقيرة التي قصّت علينا حكاية متكررة على طريقتها النيجيرية عن مجتمع استهلاك أفريقي يأسره الشغف بقشور حياة غربية لا يقوى على احتمال تبعاتها، فلا يفارق بيوتاً فارهة وسيارات حديثة وطبقية صارخة وفقراً مدقعاً وشعوذة متأصلة، أم أفلامنا العربية التي تخضع لمنطق شباك التذاكر ورواية الأمن ومنتفعي السلطة؟ ما بوسع هذه الألوان السينمائية جميعاً وغيرها أن تعرض بعد معايشة الحقائق الكاملة، عندما ندرك أنّ حياتنا الأرضية كانت شاشة كبرى جرت على مذبحها دراما الواقع، التي سيسترجعها أهل الجنة مستذكرين مواقف الدنيا التي لا تقوى أي دراما مُفتعلة على مضاهاتها؟
ثم أي مأساة إنسانية بوسعها أن تنحت فنّاني الشاشات في سينما غير التي نعرفها، مثل تشارلي تشابلن، الذي قدحت طفولته الدنيوية المؤلمة وشبابه البائس إشراقته الإبداعية. وأي إبداع على النحو الذي ندركه اليوم، بوسعه أن ينبثق من الواقع دون قلق أرضيّ بطبعه؟ ومن أين سيُؤتَى بكل أولئك "الكومبارس" البؤساء للظهور في أفلام الجنة مقابل فتات يُلقي به إليهم منتجون جشعون، أم سيكون هؤلاء كائنات من صنف آخر، أم هم أحلام افتراضية تُستحضر لهذه الأدوار من خارج نطاق خبراتنا الراهنة؟
وهل يصح السؤال عن السينما، يا رفيقي، دون التقصي عن الرواية، وعن الآداب، وعن المسرح والفنون؟ ألم تباشر جميعها تسليتنا وإمتاعنا وأثارت انفعالاتنا وفتحت جروحنا في الدنيا وأسكرت وعيَنا أحياناً، فكيف ستقوى بأشكالها النمطية التي خبرناها على "المنافسة" في الجنة دون أن تغدو لها مفاهيم وأبعاد مختلفة عن خبراتنا المحدودة؟ وإن سعت السينما إلى إمتاع الجالسين في مقاعد الدنيا وهم يتناولون حبوب الذرة المفرقعة؛ فهل ينتظر أهل الجنة استحضار هذه الأفلام الرتيبة ليتكئوا أخيراً على أرائك الفرجة، وهم فيها أساساً على الأرائك متكئون؟
هل ما نريده نحن من منظورنا الدنيوي الخفيض أن تتولى السينما التي نعرف، إسعافَ أهل الجنة في إدراك آلامهم أم اكتشاف سعادتهم؟ كم تبدو الفكرة متعالية على واقع لم نجرِّبه أساساً! قلت لرفيقي: قبل أن نسأل نحن عن أفلام الجنة، ينبغي أن نتحرر من منطقنا الأرضي الذي يستولي على تفكيرنا ويُهيْمن على أفلامنا، وهو منطق عالق في صندوق دنيوي لا يسعنا أن نتجاوزه إلا بيقين لا تحثنا عليه أضواء الحواضر الحديثة وألَق الأوسكار والسعفة الذهبية، بل يتجلّى لنا في آفاق التفكّر التي تعبر إلى مستقبل أبعد مما يشغل الجمهرة.
بمنظور كوني أوسع؛ فإنّ هذه الدنيا الفانية بكل ما فيها لا تتجاوز لحظة عابرة ليس بوسعها أن تهيمن بمنطقها ومقاييسها على ما بعدها. لكنّ العالقين ضمن شروط الدنيا وسطوتها اللحظية على الأذهان، قاصرون في مدى تصوّرهم ومخزون إبداعهم عن تجاوز سقوفها الواطئة ما لم يتحرّروا منها بقبس إيماني يسمو بهم في آفاق اليقين؛ أو يتحلّوا بشيء من التواضع إزاء آفاق الوجود وأبعاد التوقّع غير المحدود؛ وهي آفاق وأبعاد لا تشغل الأرض ومن عليها شيئاً مذكوراً منها بمعايير المكان والزمان.
علينا الاعتراف يا رفيقي، بأنّ سينما الدنيا التي تبهجنا وتأخذ بألبابنا كلّ مأخذ، لم تأتِ منذ منشئها بما يخرج عن حدود مدركاتنا الأرضية وخيالنا المنبثق عن هذه المدركات، رغم كل صيغ الافتعال والتحوير والتبديل والاجتزاء والمحاولات الإبداعية المتعاقبة والاستعمال التقني المُبهِر. ثمة تلاعب تلفيقي بالعناصر والتفاصيل الواقعة في مدى التصوّر لا تتعداه الشاشات في ما تعرضه قيد أنملة، فنحن وأفلامنا أسرى تصوّر محدود النطاق، وإن بدا لنا واسعاً وعريضاً ومذهلاً. دعنا نحثّ القوم على أن يرسموا على الشاشة كائناً جديداً من عناصر ومركّبات لا يتصوّرونها ابتداء أو انتهاء، من يجرؤ على التحدي؟
يتجلّى البرهان الأوضح على قصور التصوّر الدنيوي ومحدوديته، أنّ المحاولات السينمائية التي قدّمتها أفلام أوروبية وأمريكية لتصوير الجنة جاءت جميعاً بائسة ومبتذلة بحقّ، وما صوّرته في النهاية لا يكاد يتجاوز المقاييس والمواصفات الأرضية مع إضافات رتيبة وغرائبية لا تنسجم مع مفهوم الجنة، وهو المنحى ذاته الذي سبقت إليه رسوم وتماثيل عبر القرون.
في مسرحية "كأسك يا وطن"؛ وجّه دريد لحام سؤالاً عن الجنة لأبيه الراحل في لحظة هذيان أمسك خلالها بقارورة الخمر: "أبي، هل عندكم لافاش كيري"! كان صنف "البقرة الضاحكة" قد تفشّى وقتها في بلدان عربية مدفوعاً بقدرات تنافسية لا تقوى الأصناف المحلية على مجاراتها. ولكن أي غطرسة ساذجة تلك التي بوسعها استلاب مُنعّمي الجنة لهذا الصنف الأرضي من الجبن المطبوخ، المدفوع بدعاية واسعة من شركة متعددة الجنسية أزاحت ما في طريقها؟ على الإجابة أن تتحرّر أولاً من سطوة الدعاية الأرضية وهيمنتها على الأذهان، والتي تجعل تناول قطع الجبن المثلثة من مواصفات العيش الفردوسي للأسرة السعيدة. وقد اجترأ أحدهم يوماً على القول: إنّ الجنة تتحقق عنده باجتماع طاهٍ فرنسي وساعة سويسرية وحسناء إيطالية. قلت: إنه ليس مفهوماً أرضياً قاصراً للجنة وحسب؛ بل هو تصوّر صاغته نزعة مركزية أوروبية طاغية، تسعى إلى استعمار الجنة رمزياً بعد أن استعمرت الأرض فعلياً.
لو يسع أي سينما مخصوصة أن تفيض على ساكني الجنة بإضافة إدراكية أو التماعة وجدانية، على سبيل الافتراض، فإنّ تلك "السينما" المفترضة لن تشبه ما نعرفه في شاشات الأرض بأي حال. وهي إن حصلت، افتراضاً، فلن تحاكي ما نعرفه وإن حملت الاسم ذاته، مثل أنّ أنهار الجنة وثمارها لا تشترك مع ما نعرفه سوى بالاسم.
تتسع مدارك البشر في الجنة وتتعمّق خبراتهم وتنفتح أبصارهم على آفاق لم يكونوا بالغيها من قبل، عندها ستبدو سينما الأرض لعبة سخيفة للغاية، وهو مفهوم ندركه بمقياس متناهٍ في الصغر؛ مع موقف أجيالنا اليوم من سينما البواكير وإن بزغ فيها روّاد الصنعة. فأهل الدنيا يزهدون اليوم بأعمال سينمائية أشغلت أبصارهم وأسماعهم قبل عقود معدودة؛ فهل ستقوى أفلام الدنيا ذاتها التي افترشت الشاشات والشبكات على التأهّل لمراتب أوسع من الإدراك تقصر عنها مقاييس الأرض؟ تتجاوز حقائقُ الواقع الدنيوي المستجدة الأعمالَ السينمائية المتعاقبة وتًطفئ وهجها أحياناً. فقد خبت بعض أفلام خطف الطائرات بعد صدمة 11 سبتمبر/ أيلول التي فاقت منسوب أفلام سبقتها. وانتقلت دراما الحارة الشامية من المسلسلات التي تكالب المشاهدون العرب عليها إلى فقرات الأخبار، فقد تجاوزها الحدث الشامي وفاقتها وقائع الميدان. تتلبّس السينما حقبتها الزمنية وواقع بيئتها وعهدها الراهن، وقد تتقدّم على ذلك أو تتخلّف عنه، وهي بهذا المفهوم عالقة ضمن أبعاد أرضية مهما تألّقت في جموحها الإبداعي.
كان هذا بداية حديثنا عن السينما وصناعة الأفلام، ثم قلت لرفيقي، إنها مقدمة في المسألة لا أكثر، ويبقى سؤالك معلّقاً: هل في الجنة سينما وأفلام؟ وجوابي بإيجاز أنّ: في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، ودعنا يا صديقي نسعى جاهدين لتسديد استحقاقات الدخول، آملين من أعماقنا في تجرببها أولاً.. ثم نواصل الحديث على سرر متقابلين، ونعيش بهجة الاكتشاف.