"الهزائم ليست قدراً" : تيسير عاروري..مهند عبد الحميد

الثلاثاء 08 أغسطس 2017 11:44 ص / بتوقيت القدس +2GMT
"الهزائم ليست قدراً" : تيسير عاروري..مهند عبد الحميد



مضى عام على رحيل المفكر الفيزيائي طيب الذكر تيسير عاروري، الذي رحل وبقيت افكاره التقدمية وتجربته المتنوعة والغنية ومنظومة قيمه الانسانية والاخلاقية تفعل فعلها في كل الناس الذين عرفوه عن قرب وعن بعد. ذلك  هو الميزان الذي يتجاوز العواطف في الحكم على الراحلين الذين نفتقدهم في اللحظات الصعبة. 
34 شهادة من أصدقاء وصديقات، ورفاق ورفيقات،  وزملاء وزميلات عمل، وأقارب، جُمعت في كتاب بعنوان : تيسير، تاريخ يروي سيرة يصعب ردفها.  الشهادات تحدثت عن شخصية عامة بامتياز وهي تعرض المزايا والصفات التي اقترنت بدور وتجربة وطنية نضالية  وحزبية وأكاديمية، وابتعدت عن الخاص والشخصي والانساني في حياته باستثناءات قليلة، وهذا ترك الخاص والحميمي شاغرا بانتظار من يملأه، سيما وان للفقيد كاريزما  وحضور زاد  من حجم  الانسجام والثقة  بينه وبين الاوساط التي عاش وعمل فيها. 34 شاهدا  أضاءوا  جوانب مهمة على صعيد وطني وجماهيري وأكاديمي لمناضل ظل يعطي حتى اللحظة الاخيرة من حياته.
لكن الراحل  سبق  وأعاد تعريف نفسه بنفسه من خلال 38 مادة موزعة على عشرات العناوين  في كتابه الهام (الهزائم ليست قدرا) الذي صدر في العام 2013- قبل رحيله بثلاث سنوات.  المواد هي مجموعة منتقاه من كتاباته  ومقابلاته الإعلامية وأوراقه السابقة التي تغطي مراحل وانعطافات في النضال الوطني في حوالي 500 صفحة. عنوان الكتاب يلخص فكر الفقيد  ويضيف للتجربة والمعرفة الشخصية به  ابعادا أخرى. كالقناعة والثقة بالتغيير برغم الاختلال الكبير في موازين القوى، والتفكير السياسي والواقعية الثورية .  والانحياز للتنوير والديمقراطية والتعدد. ولعل شغفه بالمعرفة  هو العنصر الحيوي الذي يدعم التغيير والتنوير والديمقراطية ويسمح بتفادي مخاطر الايديولوجيا وبخاصة الوقوع في براثن الانغلاق. في هذا المجال تلقيت على بريدي الالكتروني كصديق في  قائمته البريدية، ما يزيد عن 300 مادة منتقاه  بين وثيقة ومقال وتقرير وفيلم ومقابلة وعريضة لكتاب وفنانين متعددي الجنسيات. وكانت تلك المواد مهمة في دعم المواقف السياسية والفكرية  والاجتماعية، بينما كان يذكرني عندما نلتقي بتلك المواد ونتناقش احيانا حول بعض القضايا المثارة.
 استوقفتني قراءة المفكر تيسير  للموقف السوفييتي من الصراع الفلسطيني الصهيوني في الفترة الحرجة «سنوات  النكبة» وهو يتجاوز في عرضه  الموقف النمطي قبولا او رفضا للموقف السوفييتي وذلك حين قال : لقد بذل الصهاينة جهودا كبيرة من اجل تضليل المجتمع الدولي تجاه الطبيعة الدنيئة الخفية لصراعهم مع المستعمرين الانجليز في سنوات 45-47 وقد صوروا الوضع كما لو كانوا يخوضون نضالا عادلا ضد الامبريالية والاستعمار البريطاني محاولين تسويق الصراع على انه حركة تحرر يهودي وبدا ذلك لكثيرين كما لو كان حقيقة. وقد ساهم هذا الادعاء مساهمة فعالة في تشكيل مزاج عام لصالح الشعب اليهودي المكافح ضد الاستعمار في اوسع دوائر المجتمع الدولي والتقدمي ، ولعب دورا هاما في تحديد موقف العديد من الدول عندما عرضت القضية الفلسطينية للنقاش في الامم المتحدة. وتوقف الكاتب عند عوامل اخرى ساهمت في تأييد الموقف الصهيوني، كالتعاطف مع اليهود ضحايا النازية القتلى ومئات الالاف الناجين من غرف الغاز والمحارق واصبحوا بدون مأوى، وبدت فلسطين كأنها الملاذ الوحيد بفعل الدعاية الصهيونية. ويخلص الكاتب الى نتيجة مفادها : كان قرار التقسيم قرارا مجحفا بحق الشعب الفلسطيني اجحافا كبيرا وبالتالي فهو غير عادل. ويتساءل هل كان على الشعب الفلسطيني قبول القرار ؟ ويجيب ان الذي يقرر هو مصلحة الشعب ومصلحة نضاله وتطوره اللاحق ومستقبله الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في  قبول القرار ام رفضه. ويضيف لا شك بأن الحياة وتجربة عشرات السنين قد اجابت على هذا السؤال بشكل قاطع . في إشارة الى ان القبول هو الموقف الصائب. مقاربة موضوعية هادئة جاءت قبل تداول الوثائق من الارشيف الصهيوني من قبل  المؤرخين الجدد، حيث اضافت الوثائق المفرج عنها  معطيات جديدة عبر عنها المؤرخ إيلان بابيه « في كتابه الشهير  (التطهير العرقي في فلسطين)، لقد نجح الكاتب في نزع فتيل الصدام ما بين المؤيدين والرافضين لقرار التقسيم قبل تداول الوثائق.
رؤية المفكر تيسير عاروري للانتفاضة تعتبر أهم ترجمة لتفكيره السياسي الجديد، فقد رأى في الانتفاضة « عملية تغيير ثورية ذات محتوى عميق شمل كافة جوانب حياة المجتمع الفلسطيني.وهي فرصة تاريخية واقعية لتحقيق الاستقلال الوطني وإقامة الدولة.  فالانتفاضة حفلت بمشاركة شعبية واسعة عبر اشكال تنظيم جماهيرية وسياسية ونقابية اضفت عليها طابعا ديمقراطيا عميقا. واستندت الى برنامج سياسي واقعي لانهاء الاحتلال، واتبعت شكل نضال سلمي حَيَّدَ القوة العسكرية لدولة الاحتلال وفتح كل الابواب امام مشاركة الشعب وأوسع وحدة وطنية. الانتفاضة بهذه الخصائص وفرت المناخ والشروط لهجوم سياسي دبلوماسي بهدف انهاء الاحتلال  وانتزاع حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة. وهنا نبه تيسير عاروري من انفصال الحركة السياسية عن الانتفاضة واستدراجها او ذهابها الى مشاريع أميركية وإسرائيلية تُحدث قطيعة بين الانتفاضة والقيادة السياسية والمشاريع السياسية. وانطلق في رؤيته لمستقبل الانتفاضة من المعادلة التالية : انتفاضة بمشاركة جماهيرية متصاعدة تشكل رافعة لهجوم سياسي واستقطاب عربي ودولي، ومعسكر سلام اسرائيلي داعم،  تشكل ضمانة لانتقال الانتفاضة من طور الى آخر ومن تقدم الى آخر. كما ان تحويل الاحتلال الى قضية خاسرة وعبء على شعب  ودولة الاحتلال عبر الانتفاضة. وتنظيم الضغط على المصالح الامريكية بالاستناد الى الحلفاء الحقيقيين في العالم ووسط قوى التغيير والديمقراطية في العالم العربي من اجل رفع الغطاء  الامريكي عن دولة الاحتلال.  هذه الرؤية التي دافع عنها عاروري بقوة وضعت مهمة تطوير الانتفاضة ودعمها وتجاوز أخطائها وثغراتها في سلم الأولويات الفلسطينية.مقابل استخدام الانتفاضة كجسر لتفاوض معزول وعلى مشاريع سياسية اسرائيلية أمريكية وعربية. هذا الاستخدام البراغماتي  يؤدي الى ضعف الانتفاضة وضعف الاهتمام  بدعمها وبتجاوز اختلالاتها وبتراجعها وهمودها. وفي وقت مبكر قرأ عاروري تراجع الانتفاضة بتراجع المشاركة الشعبية والنزوع  للعسكرة «الفرق الضاربة» والبرقرطة « والانفصال عن الجماهير، وروح التنافس الفئوي الضيق، المترافق مع اختلال العلاقة بين الداخل والخارج، وضعف الدعم الاقتصادي، والفئوية، والانجرار الى مفاوضات منفصلة عن الانتفاضة. 
إن ضعف وتراجع الانتفاضة، جعل المستوى السياسي لا يملك القوة اللازمة لحسم التمثيل الفلسطيني، الذي يمس حق تقرير المصير واقامة الدولة. لم يكن بدء التفاوض مع الامريكان والاسرائيليين مكسبا اذا لم يستند الى قوة الشعب المنتفض ومطالبه وحقوقه المشروعة. ولما جاء التفاوض لحظة تراجع وضعف الانتفاضة فقد مس التمثيل الذي أدى تحصيل حاصل الى المس بالحقوق وتقرير المصير.
الهزائم ليست قدرا، لطالما كان الشعب في موقع المواجهة والبناء كشريك ورقيب ومرجعية،  انها  فلسفة الاستمرار في المقاومة والنقد، نقد الذات ونقد الاخر، واستكشاف عناصر القوة والبناء فوقها وتجاوز عناصر الضعف وعدم تكرارها تلك رسالة المفكر تيسير عاروري الذي رحل وبقيت افكاره قابلة للسجال في غيابه كما في حضوره.

Mohanned_t@yahoo.com