x
عنوان صعب ، متفلسف ، قد يتبادر إلى ذهنك للوهلة الأولى أن كاتب المقال ، أحد إثنين ، إما واحد ممن يناورون و يتدافعون ليجد لنفسة مكاناً في طابور المتفلسفين و المحللين و المفكرين ، أو من يطلقون على أنفسهم تلك المسميات ، أو أنه بالفعل كاتب يريد أن يتناول قضية فلسفية معقدة ، و أنك تغامر بقراءة السطر الأول على سبيل جس النبض أو قياس درجة حرارة المياه ، فتقرر فيما بعد أن تستمر أو تضجر و تمل فتتركني وحدي مع أسطري أكلم نفسي .. !! و الحقيقة أنك على أي من الحالين ، تكون و بدون إدراك قد أدركت ، و وصلت إلى ما أهدف إليه من هذا المقال البسيط وهو تفكيك إدراك الإدراك و معنى ما فوق الإدراك ..
و الحقيقة أيضاً أن هذه الحالة ، موجودة و معمول بها على نطاق واسع يكاد يكان شمولي ، فلم نعد نحن البشر ، نحن ( الناس ) بحاجة كبيرة إلى مصوغات ، أو وسائل شرح و تقريب و تفسير توصلنا إلى الإدراك .. عقلنا ، و تعقلنا ، تطور بصورة لافتة في الأحقاب الأخيرة ، و بالتحديد ، مع إنتهاء عصر الوحي و الرسالات ، و إعتماد الإنسان على ( عقله ) ليصبح بالفعل هو الإمام و القائد .
أصبحنا ( نفهمها و هي طايرة ) .. نحلل ، و نفكك ، و نحكم عقلنا في أمور كثيرة و مجالات مختلفة ، حتى في الدين ، و التاريخ و السياسة و العلوم .. أصبحت المهمة شاقة لرجال الدين التقليديين ، و أصبح السياسيون في أزمة ، و في حالة قلق دائم لصعوبة إقناعنا بتوجهاتهم و جدوى أعمالهم .. وهذا نتاج طبيعي لتطور بنية الذكاء والرقابة الذكية لعمليات تخزين المعلومات واسترجاعها بحيث أصبحنا نفكر في أفكارنا ذاتها ، نراجعها و نغيرها و نبدلها بقدر ما ندرك من معرفة ، وعليه فان الفرد الذي لديه وعي أعلى يصبح لديه قدرة اكبر على تنظيم أفكاره وتوجيهها لتحقيق أهداف محددة وإنجاز مهمات معرفية أكثر أي يصبح لديه القدرة على التفكير حول تفكيره، وما زال مفهوم الإدراك فوق المعرفي يلقى الكثير من الاهتمام نظرا لارتباطه بنظريات الذكاء والتعلم واستراتيجيات حل المشكلة واتخاذ القرار.
هذا كله ، جعلنا نضع كل ما يسرده على مسامعنا السياسيون موضع الشك ، و أجج فكر المؤامرة ، وجعلنا نضع رجال الدين ، بل و الدين ذاته في موضع البحث و التشريح ، و أخضعناه بقوة التفكير ، و بحجم المعرفة الذاتية ، و الإحاطة ، لعملية تفسير و تفكيك ، و نتج عنها عزوف شديد كما نلاحظ هذه الأيام عن التدين ، و عل هذا هو السبب الذي أدى في عصور سابقة إلى ثورة الغرب على الدين ، إما بالطوائف أو الملل و ما لبثت أت تحولت إلى لا إيمانية و كفر و إلحاد و من ثم إبتكار ما يسمى بالعلمانية ، التي لاقت ما لاقت من تعسف و ظلم في تفسيرها ، بل و تطبيقها ، و هذا كله بسبب إعتماد التحليل على مساحات تحصيل و إدراك محدودة شكلت مرجعية للحكم فيما بعد ، و بالمثل ، فإن ما يحدث في وطننا العربي حالياً ، هو حالة حكم وفق معايير معرفية ضيقة سمحت بتغلل الشك و أنصاف العلماء و مدعي الخبرة و إنتشارالفتنة و الإستخدام السئ للشعوب و التيارات و الأحزاب و الطوائف .. فرأينا ، تحت عنوان إطلاق العقل ، و التعقل ، و إحترام التفكير ، عزفاً نشازاً غريباً مثل إنكار الوحي ، أو التشبث بالرواية ، و تأليه الأئمة ، أو إنكار النبوة ، أو الإلحاد ، أو التعصب و التطرف و الإرهاب ، حالات من التطرف على الطرفين لا وسطية بينها ، و السبب مرة ثانية ، أنها جميعاً أستخدمت المعرفة ، و أدركت إداركها على قاعدة علوم محدودة شكلت بذاتها ناموساً مقدساً و قالباً تقاس عليه كل المعارف الأخرى .. !!
فسياسياً ، هل صحيح أن نرتكز بداية على فكرة المؤامرة ؟ و أنها أساس التفكير ، و إن إتفقنا أن الشك طريق اليقين .. و لكن هل الشك يعني الإتهام أم أن الشك حالة من حالات التأمل تهدف إلى الوصول لى الحقيقة ؟ فالشك ليس حالة عقلية مطلقة ، و لا هو هدف في حد ذاته و إلا أصبح ذهول و قصور و تشابك غير منطقي ولكنه و رغم ما فيه من عوار ، إلا أنه حالة إدارك ، ينقصها أن تصل إلى حالة إدارك الإدارك .. أن يلقي الإنسان السؤال المهم على ذاته ، ليصل إلى الحقيقة و ليفرق بين المؤامرة و الخطة و التسلسل المنطقي للأحداث و التداعيات .. فمثلاً ، لم يكن للإستعمار الغربي و لسايكس و بيكو أن يرسم بتبجح حدوداً للوطن العربي لولا أنهم إستشعروا حالة الخلاف و التناحر العربية العربية ، بالتالي الوقوف على المسببات تفرض شكل ما يبنى عليها في مراحل لاحقة .. !!
دينياً .. قد يسأل سائل : كيف يأتي الخبر من السماء إلى الأرض بواسطة ملاك ( جبريل ) للنبي في لا زمن ؟ علماً بأن العلوم أثبتت أن قطر الكون المعلوم ( حتى الآن ) يبلغ أكثر من 26 مليار سنة ضوئية .. بالتالي لابد للرسالة الواحدة أن تستغرق في الذهاب مع الإياب من و إلى السماء ضعف هذا الرقم ، يعني 52 مليار سنة ضوئية ، و هذا غير منطقي ، لأن هذا أكبر حتى من عمر الأرض و البشرية و ليس فقط من عمر النبي و الرسالة و العصر الذي بعث فيه !!
هذا الطرح بحد ذاته ، جميل ، و فيه تفكير ، و هو يندرج تحت عنوان الإدراك .. و لكنة لم يبلغ مرحلة إدارك الإدراك .. و هي تحديد الفكرة ، الإختلاف ، الشك ، ضعها تحت أي عنوان تريد ، و من ثم عرضه على مساحة المعرفة ، و البحث عن معارف ذات علاقة ، للوصول إلى الحكم ، و إدراك الحقيقة .. فمثلاً ، صاحبنا ، كان يفترض أن القانون المادي المعمول به على الأرض ، يمكن أن ينطبق و يطبق على غير المادي ، علماً بأنه حتى في فرضيته ( المادية الجدلية البحتة ) إفترض نقطتين ، أحداهما تبدأ من عند ( الغيب ، الإله ، العرش ) و إفترض ، غير مرتكز على أي دليل مادي أن هذا ( الغيبي ) مكانه على بعد 26 سنة ضوئية من الأرض ..!! ولكنه هنا إفترض وجود اللاموجود ، بل و حدد مكانه و هذا تناقض إدراكي ناتج عن قصور معرفي و الفوق طبيعي ، و في ظل فهمنا و تقديرنا لرفضة أي فكر ميتافيزيقي ، أو منتم لعلم الساي ، فهو سيقول نعم ، هذا هو الموجود و المعمول به ، و عليه لنسلم ( جدلاً ) بأن هذا هو و هو فقط الموجود ، فسرعة الضوء يمكن قياسها بالنسبة لغيرها ، و ليس لذاتها ، فإذا كان الإدعاء بأن الملاك من نور ( ضوء ) فهو إذن سيقطع المسافات مهما بلغت ، بمعدل ( صفر زمن) لأنه هو ذاته من ذات الطبيعة . وهنا هو ( الملاك ) لا يحتاج إلى 26 أو 52 مليار سنة ضوئية ، بل إلى صفر وحدة زمنية .
الخلاصة ، أننا ، كبشر ، و كعرب ، وهو ما يعنيني هنا ، علينا أن ندرب أنفسنا ، و عقولنا على عملية ( إدارك الإدراك ) ، فمعرفة الشخص بنفسه، وبالمهمة التي يقوم بها، وبالإستراتيجية التي تلزم لمعالجة هذه المهمة، وهو يعني معرفة الفرد الخاصة بعملياته المعرفية ونتائجها. والإدراك فوق المعرفي هو المقدرة على مراقبة تفكير الفرد وضبطه وتنظيمه. وهو تقييم الحالات والأوضاع المعرفية، مثل التقدير الذاتي، والإدارة الذاتية ..قبل أن نحكم و نقرر ، و علينا أن نجبر ما إنكسر بفعل سنوات التجريف المعرفي التي تعرضنا لها عبر سبعينات و ثمانينات القرن الماضي و إلى يومنا هذا ، علينا أن نبدأ بالنهضة ، ليس بالصناعة و لا بالإقتصاد ، و لا حتى بالثورة السياسية أو العسكرية ، فكلها توابع ، لعملية ثورة نهضوية عقلية إبتداء .. هي الكفيلة بأن تعيد لنا عقلنا ، ليكون بالفعل هو الإمام المهدي المنتظر.. عجل الله فرجه.