في الذكرى الثالثة للحرب الثالثة على غزة..سما حسن

الخميس 13 يوليو 2017 09:54 ص / بتوقيت القدس +2GMT



مرت قبل أيام قليلة الذكرى الثالثة للحرب الثالثة على غزة، ولا يمكن أن نطلق على ذلك اليوم أنه ذكرى نحتفل بها مثل كل الذكريات والمناسبات؛ لأن ما حدث في تلك الحرب مازال حاضراً في عقل وروح كل إنسان في غزة، فلا بيت في غزة لم يدخله الحزن والفقد، ما بين شهيد وجريح ومعاق ومشرد، ولم تلتئم الجراح لهذه الأسباب، وأضحت ذكريات ما يزيد على الخمسين يوما حاضرة في كل يوم، وكيف ننسى ما حدث حتى لو كبر الصغار وتفرق الكبار، فأي فرح سوف يفرحه أحد الشباب "أحمد سلامة" الذين فقدوا الأم والإخوة في قصف بيت العائلة وهو يزف إلى عروسه دون أن تقف أمه إلى جواره وترقص بالشمع وتنثر الملح وتشعل البخور، وتغني الأهازيج التراثية الفلسطينية، وأي مصير ينتظر الطفلة سندس التي استشهد جميع أفراد عائلتها وتعهدت عمتها بتربيتها، كيف ستحيا بلا "بابا وماما"، وكيف ستبقى وحيدة بلا أشقاء وشقيقات مهما منحتها العمة من عاطفة، وأي عذاب سوف يعيشه الطفل محمود بعد أن خرج وحيدا من بين الأنقاض مثخنا بالجراح وقد قتل والده وعشرة من أفراد أسرته، وأية لوعة سوف يتجرعها الطفل معتصم والذي بقي على قيد الحياة وظل يرضع من صدر أمه التي فارقت الحياة حتى أخرجوه من تحت الأنقاض، كيف سيمضي بقيه عمره حين يرى صوره التي وثقها الإعلام، وحين يروي من تبقى من أقاربه له هذه القصة المروعة؟
أما الطفلة "غزة أبو عاصي" فهي قد خرجت من هذه الحرب بإصابات كثيرة في جسدها أورثتها ضعفاً في بصرها سوف يلازمها مدى حياتها، فأي نسيان نطالب به هذه الطفلة، وأي إحياء لذكرى تركت بصمتها كل لحظة على هذه الروح البريئة، وأي ألم سيعتصر قلب الطفل إبراهيم الغول حين يتذكر أنه خرج وحيدا من تحت الأنقاض وهو مازال رضيعا فيما قضى أكثر من أحد عشر فردا من عائلته تحت الأنقاض؟
تلك الحياة الممنوحة لهؤلاء بديلا عن الموت، وغيرهم الكثير ممن فقدوا أحبتهم وغيرهم أكثر ممن أصبحوا بلا بيوت ففقدوا ذكرياتهم وملاذهم في حرهم وصيفهم، وغيرهم ممن أصبحوا معاقين ومشوهين، وكانوا يحلمون بأن يبنوا حياتهم مثل الآخرين، فطفلة حلمت بأن تصبح عروسا وقد خلقت شقراء بعينين زرقاوين ولكن الأسلحة المحرمة التي استخدمتها إسرائيل شوهت جمالها الرباني وأصبحت تبحث عمن يجري لها عمليات تجميل معقدة لكي تستطيع أن تخرج من عزلتها وتمارس حياتها دون أن يخاف منها إخوتها وأولاد حارتها.
ذكريات ولا يصح أن يطلق عليها ذكريات فهي آثار وبصمات لن تزول، والحرب لا تبقي إلا الكوابيس المفزعة لمن بقوا على قيد الحياة، وأذكر فيما يخصني على الصعيد الشخصي أن جدتي وأمي لم تتوقفا عن رواية الكثير من القصص والمواقف عن أيام النكبة والنزوح إلى غزة في العام 1948 وعن الخيام والجوع والهرش الجلدي بسبب قلة النظافة وانتشار الحشرات، واصطفاف الطابور لاستلام الطعام، ولم تترك جدتي مناسبة للحديث عن "بقجة المؤن"، أما أمي فقد تحدثت لنا كثيراً عن الخروج من المخيم باتجاه البحر إبان احتلال غزة وما قام به الجنود الإسرائيليون من مجازر قتل فيها عم أمي أمام ناظري طفله الوحيد، وكيف ظلت الكوابيس تلاحق ذلك الطفل حتى تزوج فلم يعد يذكرها لأنهم فقط أخبروه بأنه قد أصبح رجلاً ولا يصح أن يتحدث عن الكوابيس أمام الآخرين، فاحتفظت روحه بمنظر والده وهو يتضرج بالدماء فوق أكوام القش في كوخهم الصغير.
توقفت عن ترديد هذه الذكريات أمام أولادي والتي كنت أرددها على أنها جزء من تاريخ هذا الشعب المنكوب، ولكن التوقف لم يكن إلا لأنهم أصبحت لديهم ذكرياتهم الخاصة عن ثلاث حروب عايشوها بأنفسهم ابتداء من العام 2008 وحتى العام 2014، وأصبحوا يتحدثون عن الموت والقصف القذائف والصواريخ والهروب والخوف والذعر في كل مجلس وفي كل مناسبة، وكلما حاولت أن أغير مجرى الحديث أفشل في ذلك حيث يعرج هذا المجرى نحو تاريخ وذكرى، فابنتي الصغيرة أصيبت بندب ظاهر في ركبتها أصبحت لا ترتدي بسببه الملابس القصيرة في البيت، وكلما نظرت له تتذكر كيف وقعت على الدرج وهي تهرب من البيت حين قصف بيت الجيران المجاور، وتنظر لملابسها البيتية القصيرة الجميلة وتتنهد.....