خطاب إسماعيل هنية: القفز فوق التعارضات على الطريقة الحمساوية...حسين حجازي

السبت 08 يوليو 2017 02:08 م / بتوقيت القدس +2GMT
خطاب إسماعيل هنية: القفز فوق التعارضات على الطريقة الحمساوية...حسين حجازي



 

استمعت إلى خطاب رئيس حركة حماس إسماعيل هنية مساء يوم الأربعاء، وقبل ذلك استمعت العام 2006 إلى خطابه في قاعة رشاد الشوا بعد أن كلفه الرئيس أبو مازن بتشكيل الحكومة الفلسطينية، وإلى عشر سنوات أخرى إلى الوراء في خريف العام 1994 استمعت إلى خطاب ملتهب  وناري، وكان لا يزال شاباً ربما في عقده الثلاثين مشمراً طرف جلبابه يصدح بصوت كالرصاص في مسجد فلسطين الشهير، محج الصحافيين في ذلك الوقت لمعرفة مواقف «حماس» رأس المعارضة لعرفات في تلك الشهور الأولى الحاسمة، من محاولته إرساء دعائم السلطة الفلسطينية او ما كنت أصفه بالنظام الجديد للأمور.  
وقد رأيت إليه في ذلك الوقت المبكر على انه خطيب حركة حماس بلا منازع، تماماً مثلما كان الشيخ حسن نصر الله في لبنان هو خطيب الحركة الإسلامية الموازية لـ «حماس» في فلسطين، ابان ذروة صعود ما يسمى بتيار الإسلام السياسي. الذي سيبدأ في هذا الوقت الحلول مكان تراجع وانزياح موجة اليسار الثوري في عموم الشرق وبلاد الشام. 
وكنت شاباً لا أزال في سني عقد العشرين حينما كنت استمع في ذروة ذلك الزمن من سنوات السبعين، إلى خطابات ذلك الجيل الأخير من ممثلي التيار اليساري والقومي أمثال الراحل جورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني، ومحسن ابراهيم رئيس منظمة العمل الشيوعي، وإنعام رعد من الحزب السوري القومي الاجتماعي وجورج حبش وصلاح خلف أبو اياد وياسر عرفات نفسه. وقد كانوا جميعا خطباء ارتجاليين وامتلكوا هذه القدرة السحرية على التأثير والإلهام في جمهور مستمعيهم.  
وكان الزمن هو زمن الثورة والحلم، وبدوا في «بيروت الغربية» التي سيطروا عليها بقوة السلاح، وكأنهم يحققون وعد كومونة باريس في الشرق، في عاصمة الثورة الجديدة على هذا الساحل الصغير من بلاد الأرز. وان عرفات هو الذي كان يستوقفني في خطاباته التي كان يغلب عليها ميل عرفات الدائم في إضفاء هذه الاستعارات أو المفردات المشفرة في توجيه الرسائل إلى خصومه، وكان خطاب عرفات القصير والموجز وان تميز إلى ذلك بالطابع التعبوي والشعبوي، الا انه هو الذي كان يوضح لنا حقيقة الموقف الفلسطيني وفي أي وضع نحن نقف فيه، والهدف المباشر الذي يؤطر المرحلة. 
ولعل هذه هي النقطة أو الزاوية التي أرى فيها المدخل لمحاولتنا التعليق على فحوى أو دلالة وأهمية هذا الخطاب الهام الذي ألقاه الأخ إسماعيل هنية. ولقد تميزوا بأن عصرهم او زمانهم منذ الشيخ عبد العزيز الثعالبي في ثلاثين القرن الماضي، انها حركات غلبت عليها الخطابة والكلمات، كما كانت هي أزمان او عصر الشعر.  
ولكن اذ تحدثنا في وقت سابق عن ملامح صفحة وجه عرفات، التي هي المرآة الحقيقية لصورة ووضع او المزاج العام الذي يكون عليه الشعب. ومن بين ثنايا الجمل والعبارات المشفرة كنا نعرف ما هو الموقف او الحال الذي نقف عليه، وإلى أين الطريق. من هنا فإننا مع الخطاب الأول لرئيس حركة حماس ربما نعرف الآن الشيء الكثير عن الوضع والحال الذي تقف عليه «حماس» الحركة، مما نعرف عن الحال الذي نقف عليه نحن الفلسطينيين ككل.  
وان هذه المفارقة الأخرى لتوضح ما أقصده وأريد الوصول إليه، اذ بينما كان هنية يلقي خطابه فان الرئيس أبو مازن خليفة عرفات، الذي نرى على صفحة وجهه الثمانيني أيضا مرآة بصورتنا، يذهب إلى باريس ويلقي خطابا في قصر الإليزيه، يدعو الرئيس الفرنسي الجديد إلى معاودة التقاط الرمح الذي ألقت به فرنسا وأوروبا لتفعيل المؤتمر الدولي للسلام. في دلالة واضحة ربما لخيبة أمل يشعر بها من رهان توقعناه في الشهور الماضية على دونالد ترامب، او ما يسمى بالصفقة التاريخية او صفقة القرن، التي بدأنا نشتم رائحة حولها توسوس في صدر الرجل. وان الإخلال في العلاقة بينه وبين «حماس» هي بعض مصدر هذا الوسواس. 
لكن هنية الذي منح قطر وقناة الجزيرة الموقف أنه وحركته سوف يكونان سداً منيعاً في مواجهة هذه الصفقة، التي لا نرفضها نحن اذا كانت عادلة ومتوازنة حقا، وليست انحرافاً او قلباً للمبادرة العربية للسلام. فان الرجل لم يشأ الخروج من عموميات الموقف إلى وضع النقاط على الحروف. 
وقد تكون أحداث التاريخ تعاود تكرار نفسها، ففي سبعينات القرن الماضي في ذروة شباب «فتح» وعنفوانها، ترددت على لسان كوادر «فتح» الفخورين والمعتدين بقوتهم وذكاء قيادة عرفات وإخوانه على رأس الحركة، أقوال من نوع ان عبقرية «فتح» هي التي تجعلها قادرة على إدارة او الطفو او القفز من فوق هذه التعارضات، بين مكة في السعودية عاصمة الإسلام وبين موسكو الشيوعية، وكل من السعودية والاتحاد السوفيتي بفضل هذه العبقرية هما الحليفان الكبيران لـ «فتح» دون ان يفسد خلافهما للود قضية. 
ولم أستمع في هذا الوقت المبكر من الدخول في التجربة إلى شيء من هذا القبيل على لسان المعلقين من «حماس» ولكنه كان واضحاً في خطاب الرجل كيف أنه لأول مرة بدأ يمارس هذه الحداقة الجديدة وغير المعتادة، في خطاب حركة ظلت حتى وقت قريب تتميز بقدر من المثالية او الخشبية أو الصلابة عبر هذا القفز او الطفو فوق التعارضات، بين التأكيد لأكثر من مرة على الانفتاح الجديد في العلاقة مع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، بحكم ضرورات او حتى قهر الجغرافية، وإظهار عدم النكران للجميل الذي قدمته قطر، وشكر الأمير الوالد والأمير الابن.  
ولكن للضرورات أحكام حتى جاء الشكر لقطر لمرة واحدة، فيما ذكرت العلاقة الجديدة مع مصر والفلسطينيين أي مع الأخ محمد دحلان دون أن يذكر دحلان بالاسم، عدة مرات متتالية. وان هذه العلاقة مع مصر «والفلسطينية الفلسطينية» أي بين حماس ودحلان، سوف تعود إيجابياً وبالنفع والخير الكبير على أهل غزة. الذين أتعبهم الحصار و»ضغوط الرئيس أبو مازن الأخيرة»، وحيث هنا في الخطاب الموجه للرئيس لا يغلق الباب أمام المصالحة والرجوع عن إقامة اللجنة الإدارية، ولكنه لا يوضح لنا حقيقة الرؤية وإلى أين نذهب من هنا فيما يتعلق بالمصير الغزي في كيفية التوفيق بين هذه الخصومة الفلسطينية الأخرى، مكتفياً مرة أُخرى بالقفز فوق هذه التعارضات. 
وأرى بالإجمال إلى هذا الخطاب بعد إعلان وثيقة «حماس» الأخيرة حول المبادئ والسياسات، انه يمثل نقلة جديدة ونوعية في سياق تحول تاريخي تشهده «حماس» في محاولة واضحة للتخلص من قيود واثقال، قيدت قدرة «حماس» لسنوات طويلة أسيرة مرض الجمود العقائدي، للخروج من انغلاقها السابق وعزلتها إلى فضاء السياسة في الإطار العريض للتفاعل مع الواقع. وبهذا المعنى ربما تتعلم «حماس» البراغماتية والمناورة السياسية، في اقتفاء تجربة «فتح» وكان حسناً ان أعلن هنية في خطابه رفض حركته ونبذها للتطرف والإرهاب، ورد هذه البضاعة التي صدعت أميركا وإسرائيل والغرب رؤوسنا فيها إليهم.