الاستباحة الإسرائيلية للأرض والموارد والحقوق الفلسطينية، يترافق الآن مع حرب إسرائيلية محمومة ضد الرموز الوطنية. الهدف الإسرائيلي المعلن والمضمر هو إحباط وتدمير حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفي مقدمة ذلك التحرر من الاحتلال وإقامة دولته المستقلة. فالحرب على الرموز الوطنية التي تتضمن تفكيك منظومة القيم الوطنية والإنسانية هي الخطر الداهم الذي يتهدد الشعب الفلسطيني راهنا. ولأنها كذلك، فإننا نعيش هذا الصنف من الحرب بأبعادها السياسية والمعنوية كل يوم وساعة ودقيقة، ونجدها في مركز الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي، ونعيش مراراتها عبر أشكال من القمع والترهيب والاعتقال والابتزاز والتهديد والحصار ومحاولات دائبة للمس بالروح المعنوية. كانت معركة نصب الشهيد خالد نزال في مدينة جنين تجليا آخر لهذا النوع من الصراع الذي تغلبت فيه الإرادة الوطنية على صلف الاحتلال، برغم تخريبه لنصب الشهيد. فقد انتصرت الارادة الوطنية على عجرفة القوة التي كانت تستطيع تخريب النصب وإزالة الجداريات الفنية لكنها لم ولن تستطيع إزالة حب وتقدير الشبان لكل الشهداء وللشهيد خالد نزال الذي بقي اسمه محفورا في أفئدتهم. بل وعلى الضد من ذلك فقد ساهم اعتداء الاحتلال على النصب في تعريف أجيال فلسطينية جديدة على فدائي من الفدائيين الأوائل الذين أعطوا كل شيء من أجل حرية شعبهم. لم تكن معركة نصب الشهيد خالد نزال هي الأولى ولا الأخيرة، فقد سبقها معركة إضراب الأسرى، ومعركة احتجاز جثامين شهداء المقاومة الفردية.
في ظل الإفلاس السياسي الإسرائيلي، تحتل قضية شطب الأسرى والشهداء الفلسطينيين مركز اهتمام المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية راهنا. وتخوض حكومة نتنياهو مدعومة من إدارة ترامب معركتها بكل صلافة لوقف صرف مخصصات أسر الشهداء والأسرى، حيث يمارسان الضغوط والتهديدات على السلطة والمنظمة، لوقف صرف تلك الأموال بمنطق غطرسة القوة، وبمعزل عن الاعتبارات الإنسانية والوطنية لشعب كامل، وبمعزل عن المعايير الدولية ذات الصلة. ثم تأتي المطالبة الإسرائيلية الأميركية بوقف التحريض في المرتبة الثانية، كونها وثيقة الارتباط بالمعركة الأولى. فالمقصود بالتحريض الفلسطيني لديهم، هو عرض انتهاكات وجرائم سلطات الاحتلال وتمجيد الشهداء وكل ضحايا الاحتلال في الخطاب السياسي والإعلامي الفلسطيني. ولذا فإن المطلوب إسرائيليا وأميركيا هو صمت فلسطيني على سرقة ونهب الأرض والموارد، وصمت على قمع المواطنين وحصارهم، وصمت على التوسع الاستيطاني وتعميق وتأبيد الاحتلال، وصمت على تهويد وضم مدينة القدس وتقاسم المسجد الأقصى مع الأصولية اليهودية التي لا تتورع عن كشف نواياها بهدم المسجد التاريخي الأهم بالنسبة للشعب الفلسطيني ولسائر المسلمين في أنحاء العالم بوصفه (أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين).
المطلب الإسرائيلي الأميركي بمعاقبة أسر الشهداء والأسرى، عبر إلغاء حقوقهم المالية، يعني في حالة تطبيقه، تجريم النضال التحرري الفلسطيني المشروع والمسموح به قانونيا والمعترف به من أكثرية مطلقة من دول وشعوب العالم، ويعني شطب منظومة القيم الوطنية والإنسانية التي جوهرها الحرية، ويعني التسليم بعلاقة «السيد والعبد، فضلا عن القبول بالقهر والإذلال والمهانة واضطهاد شعب من قبل شعب آخر ودولته الكولونيالية، ويعني موت العدالة الفعلية والافتراضية، ويعني في النهاية انفراط العقد الوطني الفلسطيني التاريخي، وتفكك مكونات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده. إن تلك النتائج المأساوية المترتبة على الاستجابة الرسمية المطلوبة تستدعي رفض هذه المطالب جملة وتفصيلا ورفض التفاوض والمساومة والمناورة بشأنها مهما بلغت ردود الفعل الإسرائيلية والأميركية من سوء ومن دفع اثمان كبيرة، فكل انواع العقوبات لا تساوي شيئا إذا ما قورنت بحرية شعب.
بعد ذلك ثمة ضرورة للتوقف عند إبعاد أخرى للهجوم الإسرائيلي على حقوقنا، فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعاملت تاريخيا مع النضال الفلسطيني بأشكاله السلمية والعنفية كإرهاب، وتعاملت مع كل المشاركين فيه بمستوى جماعي « تنظيمات» او أفراد كعمل إرهابي غير شرعي وخارج القانون. ولم يغير الاعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير من الرؤية والتعامل الإسرائيلي مع النضال الفلسطيني. وإذا كانت أغلبية دول العالم قد اعترفت بمشروعية النضال الفلسطيني ودعمته سياسيا ومعنويا ونسبة كبيرة دعمته ماديا وتسليحيا، وقد استندت في اعترافها ودعمها للقانون الدولي بكل مكوناته، ما اسبغ الشرعية على النضال الفلسطيني. غير ان إسرائيل رفضت المعايير القانونية الدولية وانفردت في مواقفها العدمية من النضال الفلسطيني. ووجدت في أخطاء وتجاوزات فلسطينية للقانون الدولي وتحديدا في التوجه أحياناً لضرب أهداف مدنية إسرائيلية خارج وداخل ارض الصراع، واحيانا التوجه لضرب أهداف غير إسرائيلية، تلك الأخطاء التي سرعان ما جرى الاعتراف الفلسطيني بها كأخطاء تكتيكية وتم التراجع عنها كعمليات خطف الطائرات، وعملية ميونخ التي استهدفت الرياضيين الإسرائيليين، والعملية التي استهدفت اجتماع منظمة الأوبك، وكانت العمليات الاستشهادية ضد الأهداف المدنية الإسرائيلية التي نظمتها حركة حماس تقابل باستنكار رسمي فلسطيني وباعتقال المسؤولين عنها. نعم، ارتكبت في سياق النضال أخطاء وتجاوزات فلسطينية ألحقت الضرر بالنضال الفلسطيني، لكنها كانت الاستثناء ولم تكن القاعدة، ولأنها ثانوية بقي التأييد والدعم العالمي للشعب الفلسطيني قائما بل وصار متعاظما. إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وبعض الدوائر الغربية خلطت النضال الفلسطيني المشروع وهو الاتجاه الرئيسي الكاسح، بعمليات غير مشروعة كونها تستهدف المدنيين وتتناقض مع القانون الدولي. أرادت إسرائيل ركوب الأخطاء وتوظيفها في عملية دمج النضال الفلسطيني بالإرهاب العالمي وبالمنظمات التكفيرية المتطرفة.
ويمكن القول ان إسرائيل نجحت في تحقيق اختراقين، الأول: عندما وضعت إدارة بوش الأب نبذ الإرهاب كشرط لفتح حوار مع منظمة التحرير وقبول مشاركتها في العملية السياسية (مؤتمر مدريد). وكانت الصيغة الاشتراطية- ما عدا إرهاب الدولة التي أصر عرفات على إضافتها- والتي قالها ياسر عرفات في جنيف: «أكرر رسميا أننا ننبذ كلياً الإرهاب الذي يقوم به الأفراد والجماعات وإرهاب الدولة» هذه الصيغة الملتبسة لها اكثر من مفهوم، فالمفهوم الأميركي الاسرائيلي يعتبر الكفاح المسلح الفلسطيني برمته إرهاباً، ونبذ الإرهاب يعني إقرار المنظمة بالصفة الإرهابية التي تطلقها إسرائيل وأميركا على النضال الفلسطيني. الاختراق الثاني: عندما قامت حركة حماس بموجة عمليات ضد أهداف مدنية استخدمت كذريعة لاجتياح مدن الضفة ودمج الحرب على الشعب الفلسطيني بالحرب الدولية على الإرهاب.
بقي القول، إن الاعتراف الفلسطيني بأخطاء وعدم تكرارها والتسلح بالقانون الدولي الذي أضفى المشروعية على النضال الفلسطيني، هو الرد الأبلغ على الابتزاز الإسرائيلي الأميركي، ويشكل في الوقت نفسه قاعدة انطلاق لهجوم فلسطيني مضاد على إرهاب الدولة والجرائم الإسرائيلية التي لا تسقط بالتقادم. وإذا كانت الأخطاء الفلسطينية هي الاستثناء فإن الانتهاكات والفظائع الإسرائيلية هي القاعدة. كما أن الأخطاء – الاستثناء- لا تحول المناضلين إلى إرهابيين بل تبقيهم مناضلين من أجل الحرية، مقابل الانتهاكات الإسرائيلية التي ترقى إلى مستوى جرائم بحق الإنسانية.
Mohanned_t@yahoo.com