أربعة مشاهد !! ..محمد يوسف الوحيدي

الثلاثاء 27 يونيو 2017 07:17 م / بتوقيت القدس +2GMT
أربعة مشاهد !! ..محمد يوسف الوحيدي



المشهد الأول :

21-11-1971م. إغتيــال زياد محمد الحسيني ، حالة من الإرباك و الحزن و الصدمة تجتاح الجميع ، بينما أقف أنا حائراً بين الجميع ، محاولاً فهم ما يدور حولي .. و سرعان ما يخرج الجميع إلا الأطفال من بنات و أنا ..

بعد سنوات يحدثني أخي الذي سُمح له دخول المشرحة ليشاهد جثة الشهيد ، بأنه قد رأى بعينه آثار توثيقه بحبال على إمتداد بطنه و صدره و ساعديه ، و أن لحيته كانت قد حلقت للتو .. ثم يريني بعض المتعلقات التي إحتفظت بها العائلة و من ضمنها صورة رسالة ، و طاقية صلاة  داكنة اللون ، و صورة عن شهادة طبية شرعية ، للطبيب الذي قرر حالة الوفاة و أسبابها و هو تابع للإحتلال ، حيث يقرر أن الموت كان بسبب طلقة نافذة في الجمجمة دخلت من الجانب الأيمن فوق الأذن اليمنى و خرجت من الجانب الأيسر قريبا من الفك .. و بقراءة الرسالة ،المكتوبة بخط يد غريبة ، تجد أنها تتحدث عن إنتحار .. شخص ينتحر برصاصة 9 ملم  يطلقها على رأسه ( وهو مقيد )  .. من الناحية اليمنى ، بيده اليمنى بالطبع ( و هو أساساً أشول – يستخدم اليد اليسرى في الأكل و الشرب و الكتابة و الرمي ) !!!  ، يدفن الرجل و تدفن معه مرحلة من الكرامة و العزة ، مرحلة كانت فيها البلد تحكم بالفدائيين ليلا و بالإحتلال نهاراً .. كما قال موشي ديان وزير الحربية السابق في مذكراته "كنت أحكم غزة في النهار والميجر زياد الحسيني في الليل" .. و يهتف الناس بحياة  ( العم ) الجديد ، و ينسون أو يتناسون مرحلة كاملة ، بكل تفاصيلها و رجالها ، و يبدأون أول مراحل الواقعية ، و عنوانها " الحي أبقى من الميت" ، فيبلس إيهود باراك ، ملابس مرأة ، و يقود  مجموعة مختارة من قوات العمليات الخاصة ، و يغتال محمد يوسف النجار – أبو يوسف – و  الكمالين ناصر وعدوان ، و تبدأ مرحلة ثانية من الإعداد لواقع جديد ..

المشهد الثاني :

تم التخلص من علي سلامة ، و بدأت مرحلة ما بعد حرب 73 ، و ما بعد 78 ، و ما بعد 82 ، وبعد إغتيال أبو إياد ، أو أبو الهول  و أبو محمد ، و أبو جهاد ، و " مَختَرَة " الإنتفاضة ، و ضخ الأموال وتشييد المؤسسات " لرعايتها ، ووصل المتضامنين الأجانب و حقوق الإنسان لنصرتها " و بعد أن طفت " الشخصيات الوطنية "  إلى سطح المشهد .. و بدأت مسيرة سلام الشجعان .

و بتاريخ 8/11/1998 في مدينة غزة ، و على قمة سلالم مركز رشاد الشوا الثقافي ، أقف ، كصحفي يراسل عدداً من الوكالات الأجنبية ، لحوار قصير جداً مع السيدة حنان عشرواي و هي تهم بالدخول لحضور جلسة المجلس الوطني لتغيير أو شطب بنود الميثاق الوطني الفلسطيني .. فأقول لها ( ممازحاً بقصد ) هل سيطالب الفلسطينيون بتغيير علم إسرائيل  لما له من معان رمزية بإمتداد سلطان إسرائيل إلى ما بين النهرين الأزرقين ، الفرات و النيل ، كخطوة إيجابية مثل ما نفعل الآن بإلغاء بنود ميثاقنا أو مثل ما فعل السادات بتغيير السلام الوطني المصري من (و الله زمان يا سلاحي ) إلى ( بلادي لك حبي و فؤادي)؟ نظرت إلي بإستخفاف ، و حق لها ، فأنا أتحدث بلغة فيها من الهمجية ربما ، أو علها السذاجة و السطحية ، ما لا يستحق الإجابة منها ، و هي من هي ، و أنا كنت ومازلت أكن لها العميق من الإعزاز و المحبة ، فتمتمت بكلمات لم أتمكن لا أنا و لا جهاز التسجيل في يدي من إلتقاطها ، و ذهبت .. و هنا وضع أحد الزملاء الذين يشاركوني همجيتي و سطحيتي ، يده على كتفي وهمس في أذني : هذا المركز كان إسمه مركز غزة الثقافي ، ومع الواقعية ، تغير إسمه .. ليصبح الأنسب لتغيير الميثاق .. كن مع الواقعيين ..!!

وبعد قليل كان السيد بيل كلينتون يلقي خطابه التاريخي الذي قال فيه : (أشكركم لأنكم رفعتم أيديكم !!.. لقد قمتم بعمل جيد) . و هتف الناس بحياة العهد الجديد ..

المشهد الثالث :

رافعي الأيدي ، و بالملابس الداخلية .. رأيتهم على شاشة التلفزيون ، يهرولون ، من لا يطاله الرصاص ، يعتقل أو يسمح له بالهرب ، و يفر إلى حاجز إيريز ( بيت حانون ) ، ينجو بروحه من بطش المتوضأة أيديهم ، عشاق المقاومة أعداء التفاوض ،  وبدأ مسلسل جديد ، وواقع جديد ، أصبح على الناس التعامل بواقعية جديدة .. فأعفوا اللحى ، و غيروا الأمزجة ، و حفروا تحت الأرض ، حيث ضاقت بهم الحياة على سطحها ..

كنت قبل هذا قد قررت أن أفر بنفسي ، من الواقِعَين ، باحثاً عن واقع آخر ، أعيش فيه ، و أشعر بإنسانيتي .. بعيداً عن واقع ردئ ، بدأ يبشر بملامح واقع أكثر رداءة ( في نظري ) .. و في التاكسي ، وجدت السائق الروسي يضع تعليقة مرآة عبارة عن كلمة ( ما شاء الله ) ، فسألته إن كان مسلماً ، فرد مبتسماً بنعم و سألني بدوره عن موطني ، فقلت له أنا من القدس .. و بعد حوار أقرب إلى حوار الطرشان ، بلغات شتى ، فهمت منه أن في روسيا أكثر من 22 مليون مسلم .. يحبون الله و يوحدونه ، و يعشقون الرسول و يجلونه ، و يقيمون الصلاة بقدر الإستطاعة ، و يلتزمون بما وصلهم من بقايا تعاليم ، و فتات معرفة بالدين .. و منهم هذا السائق الذي قال لي فور سماعة رنة إسم القدس  : الأقصى ، و إمتلأت عيناه بالدموع .. و هو يسأل هل سيسامحنا الله ، نحن هنا مسلمي روسيا ، على تفريطنا في القدس و الأقصى ؟؟  الحقيقة أنني تأثرت ، و غالبت تأثري ، برسم إبتسامة إستنكارية ، و أجبته بجملة لم يفهمها ، لأني أنا أساساً لا  أؤمن بها و لا أفهمها ، قائلاً : يا أخي ، كن براغماتي ، و تعامل مع الواقع ..

نزلت من التاكسي لأدفع ، فرفض السائق الذي يرفض أن يتعامل بواقعية ، متمسكاً بتلابيب ما وصله من أثر ، و مبادئ .. و دخلت غرفة التحرير لأكتب خبراً عن تدافع الناس ، و هتافهم بإنجازات الواقع الجديد في الشرق الأوسط ..

المشهد الرابع :

هتافات مطالبة بعودة الرواتب ، و هتافات بحياة أمير قطر ، و هتافات بحياة الرئيس أردوغان ، و هتافات بحياة الرئيس عباس ، و هتافات بحياة دحلان ، و هتافات ضد مصر ، و هتافات مع مصر ، و هتافات مع المقاومة ، و هتافات ضد شركة الكهرباء ، و هتافات مع النادي الأهلي ، و هتافات تؤيد برشلونة ، و هتافات ضد هتافات مع هتافات .. وما زات أقف بين الجموع المرتبكة ، أحاول أن أفهم  و اتعامل مع الواقع الجديد ، الذي تحالف فيه أصحاب الملابس الداخلية و أصحاب الأيادي المتوضأة ، و أتساءل كيف أتعامل مع واقع يريد أن يقنعني أن إبن خالي إنتحر ، برصاصة في يمين رأسه رغم أنه مكبل ، وفوق كل هذا ، هو أشول !!!..