إذاً، فقد رُفعت الأعلام وانتشرت الصور؛ صور العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز بنظرته المتأملة وإلى جانبه الزعيم الأمريكي الجديد دونالد ترامب بملامحه الغاضبة. وبذلك تكون الرياض قد انهت استعداداتها الرسمية والأمنية على الأرض لاستقبالٍ ملكي لحدث لم يسبق للمملكة أن شهدت مثله من قبل. لكنها ستجد بلا ريب صعوبة في ما هو أهم: جعل الرئيس ترامب محافظاً على تركيزه، وهو المعروف بأنه يفقده بعد 30 ثانية من الحديث، هذا فضلاً عن أنه متقلب وحازم دون خبرة حقيقية بالساحة الدولية.
وبغض النظر عن مدى واقعية الأرقام المليونية التي تم تداولها على الشبكات الاجتماعية عن تكاليف الاستقبال، فإن المحافظة على تركيز الرئيس الأمريكي خلال يومين متواليين و3 قمم والعشرات من رؤساء وزعماء الدول العربية والإسلامية، سيكون التحدي الأصعب أمام الرياض التي تعوّل كثيراً على "نباهة وحصافة" ترامب لوضع حد لـ"تمدد" جارتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المنطقة.
لعل السعودية كانت تدرك هذا التحدي منذ اللحظات الأولى من فكرة زيارة ترامب للمملكة في أول رحلة له خارج الولايات المتحدة، لذلك كان المسؤولون في الرياض مشغولون حينها بإعداد "بريزنتيشن" تفصيلي عن سكان المملكة واستثماراتها في أميركا وخططها الطموحة، لتقديم كل ذلك للرئيس الأمريكي بهدف إقناعه بالموافقة على جعل السعودية أولى وجهاته الخارجية كرئيس بدلاً من المكسيك وكندا اللتين تبادلتا هذا الشرف منذ السبعينيات.
نجحت السعودية في إقناع ترامب؛ لكنها في أثناء ذلك تخلت عن فكرة عرض الـ"برزينتيشن" الذي ضم في أحد تفصيلاته -بحسب نيويورك تايمز- صوراً لثلاثة قصور ليختار الرئيس الأمريكي أحدها ليكون مقر إقامته خلال الزيارة. القصور الثلاثة كانت: قصر الناصرية، وقصر الضيافة الذي يشبه فنادق ريتز كارلتون المعروفة بفخامتها وترفها الكبيرين، وكان أوباما قد أقام فيه أوباما خلال زيارته للمملكة، وقصر العوجا؛ مقر الإقامة الشخصي للعاهل السعودي الذي يقضي فيه عادة عطلة نهاية الأسبوع.
اختيار ترامب للرياض كأول وجهة خارجية له يعود في جزءٍ منه إلى أنَّ السعودية هي موطن أقدس موقعين في الإسلام، وفي جزءٍ آخر لأنَّه يأمل في تقوية التحالف العربي السُنّي ضد إيران التي يقودها الشيعة. وإدراكاً من السعودية للرسائل التي سترسلها زيارة الرئيس الأمريكي للجيران، فقد آثرت إلغاء الـ"برزينتيشن" المسهب قبل تقديمه للرئيس ربما لمعرفتهم بمشكلة عدم التركيز لديه.
أما الآن وقد حانت ساعة الصفر لبدء زيارة ترامب في 19 مايو/أيار 2017، سيكون "تركيز الرئيس" التحدي الأكبر أمام الرياض التي أطلقت موقعاً خاصاً لهذا الحدث التاريخي تحت شعار "العزم يجمعنا"؛ خاصة أن أرض الحرمين قد أعدت برنامجاً صاخباً للرئيس يشمل 3 قمم (سعودية - وخليجية - وإسلامية) و55 زعيما وممثلا للدول المشاركة، والأهم من كل ذلك: 48 ساعة حوار ستفضي إلى "تغيير قواعد اللعبة" بحسب الموقع الرسمي لقمة الرياض.
فكيف سيحافظ ترامب على تركيزه خلال الساعات الـ48 هذه؟
القادة الأجانب الذين يحاولون التوصُّل إلى أفضل طريقةٍ للتعامل مع رئيسٍ أميركي ليس كأي رئيسٍ أميركي آخر عرفوه؛ هذا وقتٌ للتجربة بالنسبة لهم بحسب ما تقول نيويورك تايمز. فالسفارات في واشنطن تتبادل النصائح ويرسل السفراء البرقيات إلى رؤسائهم ووزرائهم في الديار يقترحون فيها طرقاً للتعامل مع الرئيس المُتقلِّب الذي لا يملك خبرةٍ حقيقية بالقضايا الدولية، ويُفضِّل الدبلوماسية الشخصية وإضفاء مسحةٍ من التباهي.
فبعد أربعة أشهر من التفاعلات بين ترامب ونظرائه، يقول المسؤولون الأجانب ومستشاروهم في واشنطن إنَّ قواعد معينةً للتعامل مع ترامب قد ظهرت، وهي:
بيتر ويستماكوت، السفير البريطاني السابق لدى الولايات المتحدة، قال لنيويورك تايمز: إذا كنتم تُحضِّرون أشخاصاً لمقابلة دونالد ترامب، فإنَّ النصائح ستكون:
أولاً، ضعوا في اعتباركم أنَّ هذا لا يزال رجلاً يُركِّز على الانتصارات. إنَّه يحب أن يحقِّق الانتصارات لأميركا ولنفسه من اللقاءات الثنائية.
ثانياً، إنَّه عاقِد صفقاتٍ وبراغماتي.
ثالثاً، إنَّ هذا رجلٌ لا يستمر تركيزه طويلاً. فبالتأكيد لن يرغب في الاستماع إلى زائرٍ يتحدَّث لنصف ساعةٍ.
ورغم عدم قدرته على التركيز، فإن ترامب كان متحاوراً نشطاً للغاية مع القادة الأجانب. فخلال المائة يوم الأولى له في الحكم:
وفيما مضى، كانت المكالمات الهاتفية تُجرى بعد كثيرٍ من المداولات وبأهدافٍ استراتيجية معينة. لكنَّ ترامب لديه استعداد أكبر كثيراً لاستخدام الهاتف دون إشعارٍ مُسبق كافٍ، أو حتى دون إشعارٍ تماماً. فقال دبلوماسيون إنَّه في حال رغب حليفٌ مثل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في التحدُّث معه، فإنَّه سيتصل بهم في غضون ساعاتٍ، أو حتى دقائق، دون حتى ان يُصرّ على معرفة الغرض.
وسيخضع نهجه هذا لاختبارٍ أكثر قوة هذا الأسبوع، إذ سيلتقي العشرات من قادة العالم خلال جولةٍ تشمل 5 محطاتٍ وتستمر 9 أيام.
ووصل الأمر لدرجة أنَّ ترامب برهن على استعداده للتخلّي عن معتقداتٍ راسخة لديه بعد الحديث مع قائدٍ أجنبي. فقد سافر الملك عبدالله الثاني إلى واشنطن دون دعوةٍ من البيت الأبيض في الأيام الأولى للإدارة ليحث ترامب على عدم نقل السفارة الأميركية إلى القدس كما تعهَّد. وبعد أن جادل الملك بأنَّ ذلك من شأنه أن يثير رد فعلٍ عنيفٍ محتملٍ في العالم العربي، نحّى ترامب هذه الخطوة جانباً.
ومثالٌ آخر على ذلك هو صداقته الجديدة الغريبة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ. فعلى الرغم من أنَّ ترامب قضى سنواتٍ يصرخ بأنَّ الصينيين هم "العدو"، سار اللقاء مع بينغ في فلوريدا بصورةٍ جيدة للغاية لدرجة أنَّ ترامب أغدق في الثناء عليه، واصفاً إيَّاه بـ"الرجل الجيد للغاية". وجلب بينغ معه خطة نظرية مدتها 100 يوم لتحسين العلاقات التجارية، فضلاً عن تعهُّدٍ بزيادة الضغط على كوريا الشمالية، مانِحاً ترامب إنجازين يتفاخر بهما. ومنذ ذلك الحين تخلّى الرئيس أو خفَّف من حدة شكواه بشأن الممارسات الصينية الاقتصادية وممارساتها المُتعلِّقة بالعملة.
أضف إلى ذلك أن العلاقات العائلية الجيدة بالنسبة لترامب تساعد على بناء علاقات دبلوماسية جيدة مع الدول. وصهره جاريد كوشنر له علاقات جيدة مع مسؤولين في السعودية والإمارات. وكدليل على تأثير العلاقات العائلية في رؤية ترامب، أكَّد نتنياهو على أنَّ علاقته بكوشنر تعود إلى فترة طفولته. واصطحب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو ابنة الرئيس إيفانكا إلى أحد العروض المسرحية في شارع برودواي الشهير، عنوانه "Come From Away"، والذي يدور حول الكنديين الذين ساعدوا الأميركيين الذين تقطَّعت بهم السُبُل بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. ودعت أنغيلا ميركل إيفانكا إلى ألمانيا للمشاركة في منتدى حول ريادة الأعمال النسائية.
وفي النهاية، لا تحتاج الرياض الترويج للقصور التي قد يقيم فيها ترامب خلال زيارته، فقد سبق لولي ولي العهد أن لاقى حفاوة في واشنطن. وفي كل الحالات، سيبرهن السعوديون قدرتهم على إقامة حفل استقبالٍ ملكي للرئيس ترامب.
المصدر :" هاف بوست عربي