كتب المحلل والمختص في الشأن العربي بموقع والا: آفي يسخاروف : -
الرئيس الفلسطيني أبو مازن يترك انطباعا أنه منذ تسلم الرئيس الأمريكي ترامب لمنصبه أنه تبنى موديل 2017 وترك موديل 2008_2016 وراء ظهره. فلم يعد باراك أوباما موجودا والرسالة لترامب واضحة: رئيس السلطة مستعد للالتقاء برئيس الحكومة نتنياهو دون شروط مسبقة. عصر ترامب دفع الزعيم الفلسطيني لاستخدام أدوات جديدة، ووصل أبو مازن للولايات المتحدة معربا عن استعداده للمسيرة السلمية.
الرسالة ليست فقط على صعيد التصريحات، وإنما مصحوبة أيضا بالأفعال، وهذا يظهر من خلال التنسيق الأمني بل وحتى في التراجع على صعيد التحريض وهو العَلَم الذي تلوح فيه “إسرائيل” ليل نهار. لا تزال توجد خطابات تحريضية وتصريحات كراهية ضد الإسرائيليين واليهود تصدر عن تنظيم فتح، لكن في وسائل الإعلام نرى تراجعا كبيرا بل وحتى يظهر هذا في الكتب الدراسية.
التنسيق الأمني بات حكاية قديمة، السلطة الفلسطينية تعمل اليوم بجهد وكثافة ضد أي خلية تخطط لتنفيذ عمليات سواء أكانت تنتمي لحماس أم لداعش أم لأي تنظيم آخر. هي تعتقل نشطاء “إرهابيين”، وتحبط عمليات، وفقط خلال الاسابيع الماضية صادرت مئات قطع الأسلحة غير الشرعية معظمها من انتاج محلي.
نشاط السلطة هذا لا يخفى عن الأجهزة الاستخبارية في “إسرائيل” والولايات المتحدة، ومن هنا يجب ألا نستغرب من انبهار الرئيس ترامب من التنسيق القائم بين السلطة و”إسرائيل”. بينما نتنياهو ووزرائه لا يحبون الحديث عن هذا الأمر ليس لأن لا علم لهم به، ولكن لأنهم لو أظهروا الشكر للسلطة فإنهم سيخسرون تأييد معسكر اليمين. إضافة إلى أنها ستضر بالأجهزة الأمنية الفلسطينية ذاتها لأنهم سيظهرون بمظهر المتعاونين مع “إسرائيل”، بالرغم أنه فعليا يُنظَر إليهم هكذا منذ زمن بعيد.
أحد اللاعبين الرئيسيين في هذا التغيير في السلطة الفلسطينية هو رئيس الحكومة رامي الحمدالله. حيث في البداية كان ينظر إليه أنه شخصية ضعيفة نسبياً بدون خبرة سياسية، وأن فتح ستفعل في ظله كل ما يروق لها. ولكن شيئاً فشيئاً نرى الحمدالله يحقق نفوذا داخل مؤسسات السلطة السياسية والأمنية وشعبية في أوساط الفلسطينيين. هو يعمل على خفض التحريض وغارق حتى رقبته في القضايا الأمنية المختلفة وفي عمل جميع الأجهزة الأمنية، بدءً باعتقال عناصر حماس وانتهاءً بمصادرة الأسلحة وتفريق المظاهرات.
والأهم أنه لا ينظر إليه على أنه فاسد، وهناك من يشبهه بسابقه سلام فياض، وهنا الخطر يكمن له: إذا ما نجح أكثر من اللازم مثلما حدث مع فياض فإن قادة فتح سيتربصون به في كل مكان. والحمدالله أيضا أكثر حذرا فيما يتعلق بالخطوات التي تتخذها السلطة خلال الأسابيع الأخيرة ضد قطاع غزة الأمر الذي يبدو انفصالا تدريجيا للضفة عن غزة.
وفي هذا الشأن، أبو مازن نموذج 2017 أقل ترددا في الدخول إلى مواجهات فلسطينية داخلية، بالرغم من تراجع شعبيته. والهزيمة الأخيرة التي تكبدتها فتح في جامعة بيرزيت هي نموذج بسيط على هذا، ولا زال أبو مازن يواصل طريقه للانفصال عن غزة. السلطة أعلنت هذا الأسبوع عن وقف جباية الضرائب من سكان قطاع غزة ما يعني أن حماس ستكون هي الجابية الوحيدة من الغزيين الأمر الذي من شأنه أن يضر بشعبية الحركة.
أبو مازن أعلن عن وقف دفع ثمن كهرباء غزة لـ”إسرائيل” وبذلك وضع “إسرائيل” وحماس أمام مشكلة. “إسرائيل” من جانبها أعلنت أنها لن تدفع ولن تتحمل عبئ كهرباء القطاع وليس من الواضح حتى الآن من سيدفع إن دُفع أصلاً نهاية الشهر الحالي. ومن الممكن أن توافق السلطة في نهاية المطاف أن تدفع جزء من المبلغ للتأكد أن الكهرباء تذهب إلى أماكن كالمستشفيات، لكن من الواضح أن المشكلة ستبقى قائمة.
هذه ليست الخطوة الأخيرة لأبي مازن، ففي جعبته مزيدا من الخطوات: وقف دفع رواتب شهرية لأعضاء البرلمان من حماس والذين لا يزالون يتقاضون رواتبهم من رام الله، ووقف رواتب محرري صفقة شاليط. حماس تعيش الضغط وليس لديها حتى اللحظة خطة بديلة .
القطريون أعلنوا أنهم لن يدفعوا ثمن الكهرباء للقطاع بدون عملية سياسية بين السلطة وحماس، والقطاع الآن على حافة الانفجار.
وأيضا داخل الحركة يوجد ارباك ليس بالقليل لأسباب سياسية: صحيح أن إسماعيل هنية انتخب رئيساً للمكتب السياسي لحماس لكنه آخذٌ بالابتعاد عن عملية اتخاذ القرارات داخل قطاع غزة لصالح يحيي السنوار. بالرغم من أن هنية ظاهريا هو الأعلى منصبا من السنوار، ليس أكيداً أن يقوم رئيس المكتب السياسي بإعطاء الأوامر لرئيس حماس بغزة.
الاستنتاج الرئيسي الذي من الممكن أن نصل إليه من ثنائي أبو مازن موديل 2017 وترامب، هو أن الخيال الإسرائيلي بإخفاء القضية الفلسطينية من الأجندة الدولية أخذ بالتلاشي بسرعة قياسية. في الأشهر الماضية قادة الحكومة الإسرائيلية أشبعوا مواطني “إسرائيل” ب”تسوية إقليمية” غامضة، بأحاديث لا نهاية لها عن كره قادة العرب للفلسطينيين ولأبي مازن، بل وأنه من الممكن حتى إبرام صفقات وأعمال مع السعوديين بدون التحدث إطلاقاً عن الصراع الإسرائيلي- فلسطيني. والآن نرى أن عزيز حكومة “إسرائيل” ومجلس مستوطنات الضفة دونالد ترامب يقوم بفعل باراك أوباما ويعيد أبو مازن إلى مركز الحلبة السياسية.
الإدارة الأمريكية أوضحت بأفعالها أنها ليست فقط لا تنوي تجاهل أبو مازن والفلسطينيين مثلما أملوا في “إسرائيل”، وإنما تتعامل معهم بقفازات من حرير. ترامب يدعو أبو مازن لزيارة الولايات المتحدة، يستمع للبرنامج السياسي الذي أعده الوفد الفلسطيني، ذُهل من حجم التنسيق الأمني وأدرك أنه كما يبدو ليس الفلسطينيون وحدهم من يتحمل وزر إفشال المفاوضات. ويجمع صهره ومستشاره الكبير لشؤون الشرق الأوسط جراد كوشنير بالطاقم الفلسطيني. ومبعوثه للشرق الأوسط جيسون جرينبلات- يهودي متدين وتعلم في غوش عتسيون- سيصل لزيارة مخيم لاجئين ويخطط الآن لزيارة بيت لحم.
ترامب، وللسخرية الكبيرة، هو الرجل الذي أعاد أبو مازن للحياة السياسية وليس الرئيس “المسلم” باراك حسين أوباما. والآن الرئيس الأمريكي مهتم باستئناف مفاوضات السلام بل وحتى مهتم بقمة ثلاثية. وهكذا تحول أبو مازن مرة واحدة إلى شخصية سياسية هامة في المنطقة بأسرها. الحديث عن تسوية إقليمية نُسِيت وجميع الأوهام بضم مناطق تبدو الآن كمغامرة ترفيهية.
ماذا حدث بخطة ضم معاليه أدوميم؟ أين خطة بنت المشهورة ؟ بل يتضح أن نتنياهو هو أيضا حذر من خدش كرامة ترامب ولا يريد اغضاب البيت الأبيض أكثر من اللازم. فهذا الرئيس من شأنه أن يرسل كتاباً إلى القدس بالكلمات التالية You are terminated (أنت مُقال_ انتهيت) مثلما فعل برئيس أل FBI جيمس كومي.
ولكن، نفس وزارة حكومة “إسرائيل” يفترضون أن الدول العربية ليست عاشقة لأبي مازن والفلسطينيين. ومصر هي النموذج الأوضح على ذلك، لكن في عدة دول خليجية أيضا_ وبالتأكيد بدولة الإمارات كانوا يفضلون أن يروا قيادة فلسطينية أخرى. لكن من هنا وحتى إهمال القضية الفلسطينية من قبل العرب المسافة شاسعة.
كل واحد من زعماء مصر، الأردن، السعودية يفضلون الهدوء على الساحة الفلسطينية ومن ناحيتهم مسيرة سياسية هي الطريق الأضمن لذلك. نقل سفارات وضم أراضي هي أمور من الممكن أن تخلق عدم هدوء بالضفة، وإن كانت حكومة “إسرائيل” ترغب بعلاقات ليست فقط أمنية بتلك الدول فعليها دفع المهر والسير قدما في المسيرة السياسية مع الفلسطينيين.
وفي الأثناء، في قضية الأسرى، طرأت زيادة خلال الأسبوع الأخير في عدد الأسرى المضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية، ومعها سُجل فشلاً في “عملية الكعكة” التي قادها وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان ضد قائد الإضراب مروان البرغوثي. صحيح أن إظهار البرغوثي وهو يأكل بالخفاء نجح في خلق الكثير من النكت في شبكات التواصل الاجتماعي في “إسرائيل” لكن يوجد بذلك مشكلة: الرأي العام الإسرائيلي لم يكن كما يبدو هدف إدخال الكعكة لزنزانة البرغوثي.
في كل الأحوال، تأثير العملية (أكل الكعكة) على إضراب الأسرى منعدم تقريبا.
عدا عن زيادة عدد المضربين عن الطعام، ناشدت أمس اللجنة المركزية في فتح جميع أسرى الحركة الانضمام للإضراب، ولمن نسي، فإن قادة اللجنة المركزية لم يدعموا الإضراب حتى الآن ويوجد من يعتقد أن منهم من حاول التخريب عليه. إذاً يبدو أن الاحتفالات داخل مكتب وزير الأمن الداخلي أردان كانت مبكرة، وعقد المؤتمر الصحفي العاجل لعرض الرجل “البرغوثي” بشكل مذل ومهين خلق رد فعل عكسي- دعم البرغوثي والأسرى المضربين في أوساط الفلسطينيين. وهناك من يقول أن مصلحة السجون الإسرائيلية لم تكن متشجعة من خطوة الوزير أردان ، لكن الضرر وقع.
وفي هذه الأثناء، فإن الإضراب عن الطعام لن يمر بهدوء، مزيدا من التظاهرات، إضرابات تجارية وإضرابات المدراس، رشق حجارة ومواجهات وكل ذلك يتم برغم من نشاطات الأجهزة الأمنية الفلسطينية المكثفة.
الأسبوع المقبل سيتم إحياء يوم النكبة، وبعدها يصل ترامب إلى المنطقة. بدلا من العمل على إنهاء سريع لإضراب الأسرى عن الطعام، شخص ما في دولة “إسرائيل” يسرع مجدداً لانتهاج سياسة رأس برأس، وبدلا من حل الأزمة يقوم بمفاقمتها.
المصدر :" واللا العبري
ملاحظة. الاراء والالفاظ في المقال تعبر عن صاحبها