في قراءة لوقائع قمة البحر الميت ونتائجها، أشار الباحث والمحلل السياسي تيسير محيسن إلى أنها تأتي بوصفها في نهاية المطاف "تكييف الحالة العربية وتهيئتها للاندراج ضمن الاستراتيجية الأمريكية وخدمتها"، فقد صعد العرب من لهجتهم في القمة، لكن فلسطين لن تكون عقبة حقيقية أمام مساعهم الجديد في وضع كل بيضهم في السلة الأمريكية.
جاء ذلك في ورقة قدمها محيسن خلال ندوة نظمها مركز أطلس بعنوان "قمة البحر الميت: ما وراء الأكمة"، وأدارها الباحث في الإسلام السياسي إبراهيم أبو سعادة.
وأوضح محيسن أن "معظم العرب سلموا بحتمية الاستراتيجية الأمريكية، ويسعى كلٌ منهم للاندراج فيها وخدمتها، ويحاول أن ينجو بنفسه ويلوذ من الفشل الداخلي والخارجي؛ في سبيل ذلك يبدون استعدادًا واضحًا للتضحية بالمسألة الفلسطينية إن اقتضى الأمر (محاولة تجاوزها على أقل تقدير وإبقائها رهنًا لمفاوضات عبثية وانقسام مقيت ووضع إنساني صعب).
وأردف بالقول "بقيتهم لم يعد قراره بيده، فليس أمام سوريا إلا الانطواء على ذاتها تلملم جراحها أو الاندراج ضمن المنظومة أو التقسيم الفعلي واستمرار التوتر الداخلي، ولو على نيران هادئة، وكذلك ليبيا واليمن والعراق ولبنان".
أما إيران - بحسب محيسن - ستكون عاجزة عن رفد قوة الشريك العربي الممانع، وروسيا لن تغامر بحرب كونية مع أمريكا أو حتى تخوض صدامًا كبيرًا في المنطقة.
وفيما يتعلق بالفلسطينيين، من الواضح أنهم ربما يتكبدون الخسارة الأكبر ضمن هذه الاستراتيجية، ولكن المفارقة ربما أنه لا يوجد اليوم أحد غيرهم قادر على عرقلة هذه الاستراتيجية، على الأقل فيما يتعلق بشأنهم؛ لكن ما يعيق ذلك تحول السلطة إلى أداة للخضوع والخنوع، الانقسام وعزوف المجتمع عن السياسة والكفاح.
ولذلك، ربما تحرص الأوساط الأمريكية والإسرائيلية على الحيلولة دون حدوث ذلك، بما في ذلك ما تشي به نتائج القمة والرحلات المكوكية للبيت الأبيض، والضغط على رجال السلطة في غزة والضفة (ذوي الامتيازات والمنافع)، ومن أجل تقويض كل فرصة لذلك تسعى إلى تكريس الفصل (أزمة الرواتب من هذه الزاوية: إلغاء الوصاية)، وتهيئة المناخات داخل غزة لقبول حلول أدنى من تطلعاتها الوطنية: تراجع فتح، صعود تيار دحلان، اشتداد الضغط على حماس؛ للرضوخ أو التسليم أو استخدامها ذريعة.
وتطرق المتحدث الرئيسي في الندوة للسياسات الأمريكية على الأقل منذ سبتمبر 2001، فقد باتت واضحة جلية، تندرج كلها فيما يطلق عليه اليوم "إعادة هيكلة الشرق الأوسط"، طبقًا للرؤية الأمريكية التي قاربتها ثلاث إدارات من زاويا مختلفة، دون المس بجوهرها تقريبًا، مشيرًا إلى سجل إنجازات كل من بوش الابن وأوباما ليأتي ترامب اليوم ليحصد مفصحًا عن ملامح استراتيجيته، باعتقاده أن ملف الشرق الأوسط بات أهون الملفات، وهو في حاجة سريعة لتحقيق إنجاز على صعيد سياسته الخارجية تستعيد هيبته، تعظم مكاسبه وتمكنه من تصفية بعض الحسابات مع بعض الخصوم.
يبدو أن أمريكا لا زالت قادرة على تصدير أزماتها وحل مشكلاتها على حساب العالم وشعوبه، وإذا كان بوتين أسدًا جريحًا، فإن ترامب كلب مسعور، ومع جهله وحماقته إلا أن منظومة الدولة العميقة قادرة على توظيفه واستخدامه في استكمال تطبيق رؤيتها بالشرق الأوسط.
وخلص محيسن إلى أنه من غير المؤكد أن تنجح الاستراتيجية الأمريكية، إلا أن العرب حسموا خيارهم الوحيد، سواء فيما يتعلق بفلسطين (المبادرة) أو ما يتعلق بالاصطفاف خلف ترامب. في حين يرى بعض الخبراء أن تجديد نضال الفلسطينيين من أجل حقوقهم وتقرير مصيرهم يشكل فرصة حقيقية لتقويض مسار الاستراتيجية وخلط الأوراق. وهناك من يرى في وثيقة حماس وبعض مواقفها المعلنة توطئة لانزياحها التدريجي نحو ذات الوجهة التي اختارتها فتح صاغرة أو راغبة.
الباحث الاقتصادي غازي الصوراني أكد على أن جوهر السياسيات الأمريكية لم يتغير منذ عقود طويلة، وإنما شكلها هو الذي يتغير، سواء في العلاقة مع العدو الإسرائيلي أو مع العرب.
وأعرب الصوراني عن قلقه من تداعيات قادمة خطيرة ومريعة، بداياتها الرواتب التي قد لا تتوقف عندها، وقد تتجاوزها لتصل المدرسين في المدارس وسحب الأطباء من المستشفيات، الكهرباء، السولار، ... الخ من أجل أن يضغط أبو مازن على حركة حماس، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من المخاطر على قطاعات شعبية كبيرة، وتحويل قطاع غزة من بطن ولاد للهوية الوطنية إلى بطن ولاد باليأس والإحباط، وهو ما تريده إسرائيل والولايات المتحدة والنظام العربي.
أستاذ العلوم السياسية إبراهيم ابراش توقع أن تشهد المنطقة على الصعيد الإقليمي تغييرًا في العلاقة بين قطر وحماس كجزء من التوجه العالمي بإنهاء العلاقة مع الحركات الإسلامية.
أما على الصعيد الفلسطيني، حسب أبراش، أبو مازن يستشرف توجهات لحصار حركة حماس، وربما تلقى إيحاءات بإنهاء المعادلة القائمة حاليًا في غزة، لكن في كل الاحوال فإن الأمر سينقلب وبالًا على الفلسطينيين.
من جانبه، الكاتب في صحيفة "فلسطين" محمد العقاد ذكّر الحضور بوثيقة كامبل لعام 1905 في مؤتمر لندن، والتي تؤسس لحالة الفك والتركيب في العالم العربي، لكنه أشار إلى قدرة الفلسطينيين على إفشال مخرجات القمم العربية التي لا تلبي طموحاتهم، مدللًا على ذلك بإسقاط قمة عمان عام 1988 بالانتفاضة الأولى.
بدوره؛ فقد رأى المحلل والكاتب طلال عوكل أن الاجراءات التي اتخذتها وتتخذها السلطة تجاه قطاع غزة تندرج في سياق تحضير الساحة الفلسطينية للانخراط في صفقة تاريخية تديرها الولايات المتحدة، تحقق لإسرائيل ان تقيم علاقات معلنة مع الدول العربية، وتتيح للعرب التغطي بحل سياسي دون الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وهذا يعني ان مشروع دولة غزة لم يعد قائمًا، وأن الهدف استعادة غزة وليس دفعها نحو الانفصال"، منتقدًا في ذات الوقت طريقة تعامل السلطة مع حماس، كونها تأخذ طابع الإملاءات، معتقدًا أن "حماس لن ترضخ لشروط الانخراط في التسوية عبر العودة إلى حضن السلطة".
وأشار إلى أن "غزة ستدفع ثمنًا كبيرًا، والأرجح أن تندفع الأمور نحو وعد الآخرة، وهو الاسم الذي طرحته حماس للحرب القادمة"، وتوقع أن قطر وتركيا ستتراجعان عن دعم حماس، لأنهما لا يستطيعان الخروج عن التوجه الأمريكي.
المحلل والكاتب السياسي أكرم عطا الله أكد على ضرورة متابعة التغيرات في التوجهات الإقليمية من منظور إسرائيلي، وربطها بالقمة العربية، حيث تسعى إسرائيل لتحقيق مسألتين؛ الأولى: تحويل العلاقات مع دول الخليج إلى علاقات علنية، والثانية: تشكيل تحالف سني ضد إيران، معتقدًا أن القمة العربية تمهد الطريق نحو هذا السبيل.
وحول إجراءات السلطة بحق موظفي غزة أوضح عطا الله أن "السلطة ربما تهدف إلى استعادة غزة، وتصحيح خطأ الانقسام الذي حصل قبل عشرة سنوات. وعلينا مساعدة حركة حماس بالتعامل الإيجابي لإنهاء الانقسام".
هذا ورأى الكاتب حسن لافي أن "القمة العربية الأخيرة جاءت لتعيد العرب في حضن المنظومة الأمريكية بشكل كامل، في هذه القمة يقطع العرب الطريق على أنفسهم في أن يكونوا مناورين بين القوى العظمى التي ستتحكم في تقسيم العرب. تكمن الخطورة في أن العرب وإسرائيل هم الحلفاء لأمريكا في هذه التقسيمة، وستكون هناك مصالح عربية ومصالح إسرائيلية لدى نفس الوكيل وهو أمريكا، وبالتالي إسرائيل ستكون صاحبة اليد الطولى".
وبالنسبة للمشهد الفلسطيني، أشار لافي إلى أن مصير الضفة ستحدده القوى اليمينية الاستيطانية، التي ستفرض الحل على الحكومة الإسرائيلية، بينما مصير غزة بيد حماس صاحبة السيادة. أزمة الرواتب هي نقطة في بحر المؤامرة الاستراتيجية التي تحاك للشعب الفلسطيني.
من جانبه؛ بيّن الخبير في القانون الدولي عبد الكريم شبير أن القمة حققت ما كان يريده الرئيس عباس منها، لكن قيام حماس بتشكيل لجنة لإدارة شئون غزة دفعه لاتخاذ إجراء بحق موظفي غزة، تمثل بخصم 30% أو يزيد من رواتب الموظفين، وسيتبعها لاحقًا تطبيق قانون التقاعد المبكر كعقاب لحركة حماس. وممّا زاد من قلقه إصدار حماس الوثيقة الجديدة التي تقبل بحل الدولتين وتقاربها مع خصمه اللدود محمد دحلان.
وبيّن الكاتب توفيق أبو شومر أن العرب تبنوا القضية الفلسطينية وكانوا محركيها في البداية، ثم تحولوا إلى داعمين للنضال الفلسطيني، ثم أصبحوا متفرجين، والآن بدوا أكثر خطورة، فهم يريدون التخلص من آثار القضية الفلسطينية، بحجة أنها أخرت تقدمهم وسببت لهم مشاكل مع شعوبهم.
من جهته، رأي الوزير السابق عماد الفالوجي أن القمة جاءت في ظروف استثنائية، فالقادة العرب كل همهم الحفاظ على بقائهم السياسي، مشيرًا إلى الحضور اللافت للمندوب الأمريكي في القمة، وقول عباس في القمة "سنقوم بخطوات غير مسبوقة تجاه غزة".
وفيما يتعلق بموضوع الرواتب قال الفالوجي "إذا كان هذا القرار يهدف إلى إنهاء الانقسام وعودة الوحدة الوطنية فلا مشكلة من وجهة نظري، أما إذا كان القرار سياسيًا من أجل إخضاع غزة وكسر شوكتها ومعاقبتها فيجب على أهل غزة أن يواجهوه بشجاعة".
الكاتب محمد حجازي نفى أن تكون هناك أزمة مالية وراء إجراءات السلطة بحق غزة، وقال "لو كانت هناك أزمة مالية فبالإمكان تجاوزها من خلال تخفيض بعض النفقات في وزارة الخارجية أو مجلس الوزراء".
وأضاف أن "ما يقلق أبا مازن هو بلورة دولة غزة، فهو لا يريد ن يذهب إلى ترامب مكسورًا. القادم بالنسبة لغزة أسوأ، وسيطال الكهرباء وموازنات الصحة والتعليم، لكن أبا مازن يتوهم أن بإمكانه التخلص من العبء الذي تشكله غزة، فالناس ستنفجر ضد السلطة وسيضطر إلى التراجع".
من جانبه، بيّن القيادي في الجبهة الشعبية جميل المجدلاوي أن تفكك النظام الرسمي العربي بدأ من "كامب ديفيد"، وما احتوته قمة "كامب ديفيد" يفسر كل ما يحدث الآن.
وأكد على أن الفلسطينيين هم الأقدر على تشكيل عقبة جدية في وجه المخططات الأمريكية، وهذا يتمثل بتنازل حماس في لقائها المرتقب مع اللجنة القادمة من رام الله.
أما المحلل السياسي هاني حبيب فقال "عندما دعي أبو مازن لزيارة البيت الأبيض أسقط كل ما قيل عن القرار الفلسطيني المستقل، وتم تجاوز كل التوترات التي حصلت مع القاهرة".
وفي سياق الحديث عن مساعٍ أمريكية لإعادة هيكلة المنطقة، أشار الباحث عبد السلام أحمد إلى بعض التسريبات عن اللقاء الذي جمع الرئيس ترامب بالرئيس السيسي، حيث تحدث ترامب عن تدشين ناتو إقليمي يضم: مصر، دول الخليج، تركيا، وإسرائيل لمواجهة "التمدد الإيراني"، وأن الإدارة الامريكية ستكثف جهودها لتسوية الخلافات بين مصر وقطر وتركيا.
وذكر أن الوفد المصري فوجئ عندما طلب ترامب مساعدة مصر في إقناع الفلسطينيين بتجاوز المرجعيات التقليدية لعملية التسوية مثل قرار 242، 338، 138، وحل الدولتين إلى مرجعيات جديدة: السلام مقابل السلام أو جزء من الأرض مقابل السلام، وأن ترامب لم يبدِ اكتراثًا لمقررات قمة البحر الميت.