التطور الهائل في التكنولوجيا والإتصالات في العشرِ سنوات الأخيرة أدي الى تغيِّر شامل في نهج حياتنا نحن البشر، فما كان بالأمسِ مستعصياً أصبح مباحاً ومن كان بالأمس بعيداً أصبح قريباً وما كان بالأمس ممنوعاً أصبح مباحاً إلى غيرِ ذلك من التغيِّراتِ الحاصلةِ في اُسلوبِ حياتنا اليومية، سواء على مستوى الأفراد أو العائلة أو المجتمع او على مستوى البشرية جمعاء.
منذ نصفَ قرنٍ من الزمان لم يكن هناك إنترنت، لم يكن هناك تواصل تفاعلي سوى الهاتف البدائي مقارنةً بوسائل الإتصال الحالية، ولم تكن حتى الكهرباء قد وصلت إلى كثيرٍ من البيوت والمجتمعات، كان الفرد متلقياً فقط للمعلومات من خلالِ إذاعة تبث على موجات الراديو القصيرة منها والمتوسطة أو الطويلة. أذكر والدي رحمه الله كيف كان يقص لنا ما كان يحدث في حيِّنا الفقير الذي وُلِدتُ وترعرعت فيه في غزة، حي الشجاعية، كيف أن الجيران يتجمعون عنده حين إشترى واحداً من أوائلِ أجهزة المذياع (الراديو) في الحارة التي عاش فيها، كيف كان الأصدقاء يتوافدون لسماع الأخبار التي تبثها هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية، وأذكر حينما كان يفسر سوء الإستقبال وتحسنه على موجات وفترات قصيرة بأن البث يتم من على سفينةٍ في عرض البحر وأن التحسن والرداءة في البث يتغير بصعود أو هبوط السفينة من على الامواج، كان الكثير من الجيران يتوجهون إلى مقهى قنيطة حيث يوجد أيضاً جهاز مذياع يستمعون اليه وهم يلعبون الزهر ويتسامرون. كان جهاز المذياع كبيرا ويعمل على بطارية بدائية ولكنه كان جميلاً، وفي العديد من بيوت الأثرياء كان قطعةً فنيةً من قطع الأثاث في المنزل.
في سنوات الستينات من القرن الماضي، دخل التلفزيون الى حينا، إشترى زوج خالتي جهازاً من نوع "نصر" صناعة مصرية بسعر يفوق الخيال، كان يقول لي أنه كان يمكنه بثمنه شراء عدة دونمات من الأرض في غزة، كنا نذهب لمشاهدة الأفلام والمسلسلات التى يبثها التلفزيون المصري. وفي بداية السبعينات إشترى والدي جهازاً ولكن لعدم وجود الكهرباء في منزلنا عمل مقايضة مع الجيران، هم يمدوننا بكابل لوصل التيار الكهربي مقابل أن يشاركونا في مشاهدة التلفزيون، وعلى الخصوص مشاهدة الفيلم الذي كان يبثه التلفزيون الإسرائيلي كل يوم جمعة، أذكر بأن إحدى الجارات كانت تبكي أثناء مشاهدة فيلماً درامياً لعبد الحليم حافظ.
لم يكن الناس يستطيعون التفاعل من خلال وسائل الإتصال، لم يكونوا يتصلون بالمحطة لعدم وجود خطوط هاتفية ولعدم وجود برامج تفاعلية، لم يكونوا يعلقون من خلال صفحات الإنترنت أو وسائل إتصال إجتماعية، كان التواصل الإجتماعي محصوراً في الحارة وأماكن التجمع مثل المقاهي او البيوت حيث يتسامر الجيران حول فيلم السهرة.
دخل الهاتف (التلفون) الى بيتنا في أواخر السبعينات من القرن الماضي، كان الانتظار للحصول على خط هاتفي طويلاً جداً، يتقدم الشخص بطلب لدائرة الإتصالات، المدارة حينها من قبل الحكم العسكري للاحتلال الاسرائيلي، وينتظر في المعدل عشر سنوات للحصول على الخط الهاتفي، كان والدي بحاجة للهاتف، وكان مرض والدتي رحمها الله سببا في تعجيل الحصول على الخط واختصار المدة الى سنة واحدة. العديد ممن تمكنوا من الحصول على أكثر من خط كانوا يستطيعون بيع الخط الإضافي بمبلغ كبير وصل في بعض الأحيان إلى ألفي دينار أردني (ستة آلاف دولار في ذلك الحين). كان الإتصال في البداية من خلال بدالة يدوية، ترفع السماعة فيرد عليك شخص، في معظم الأحيان سيدة، تطلب منها إيصالك بالرقم المطلوب. تحول هذا في بداية الثمانينات الى إتصال آلي حيث كنت تقوم بإدارة قرص الأرقام على جهاز الهاتف، تسمع طنين الجانب الآخر حتي يرد أو يكون طنينا متتابعا يدل على إنشغال الخط. كان الإتصال داخل المدينة الواحدة بنفس سعر الوحدة حتى لو إستمرت المكالمة لساعات، كنا نتصل إلى المدن الأخرى بالبدء بمقدمة المدينة ومن ثم الرقم، كانت مقدمة غزة 057 تحولت بعدها بسنوات الى 07 واستقرت بعدها حتى اليوم على 08. الإتصالات الدولية كانت تتم بواسطة ما يسمى ب "الترنك" وبعد عدة سنوات أصبحت مباشرة من خلال المفتاح الدولي 00 ومفتاح الدولة. في بداية الإنتفاضة الاولى عزل الاحتلال غزة عن العالم من خلال قطع الإتصال الدولي، لم تكن بإستطاعتك الإتصال إلى الخارج ولم يكن من بالخارج يستطيع الإتصال بغزة. سافرت ذلك الحين إلى فرنسا للتعلم وإنقطعت من الإتصال بعائلتي ولكنني وجدت طريقة للتحدث معهم، أتصلُ بصديقي مُحمد الذي كان يعمل في تل ابيب ويقوم هو بالإتصال بمنزلنا وأتحدث مع عائلتي من خلاله.
البريد كان موجودا في غزة، كنت أنتظر ساعي البريد الذي يحمل إلينا الرسائل سواء من العائلة خارج الوطن أو من المجلات العالمية التي إشتركت فيها، لم نكن نستطيع إرسال الرسائل او إستقبالها من الدول العربية أو الإسلامية بسبب منع الإحتلال لذلك ولكننا كنا نشتري قسائم (كوبونات) بريدية نضع الرسالة المعنونة إلى دولة عربية في مظروف آخر مع القسائم ونرسلها إلى بريد لندن الذي بدوره يعيد إرسالها إلى العنوان المستهدف، كنا ننتظر الشهور لاستقبال الردود. لم يكن حينها البريد الالكتروني ولم تكن وسائل التواصل الإجتماعي الإلكترونية. كانت هناك وسيلة تعارف دولية للشباب تسمى .International Youth Services (IYS) كنا نشتري أربع كوبونات وكتب فيها تفاصيلنا، أو ما يسمى الآن البروفايل، نكتب خياراتنا بالتعرف مع أشخاص في بلدان أجنبية وتشارك المؤسسة تفاصيلنا مع شباب في العالم، تصلنا طلبات صداقة تماما كما يحدث الآن على وسائل التواصل الإجتماعي مع الفارق الزمني. بدخول الكمبيوتر إلى غزة في الثمانينات بدأ في نظري التحول التكنولوجي في مجتمعنا، أذكر أنني قد إلتحقت بإحدى أوائل دورات تعليم الكمبيوتر التى نظمها إتحاد الكنائس بغزة عام ١٩٨٥. درسنا أنظمة الدوس والكوبول، كان هناك حينها أيضا نظام الفورتران، كان الجهاز كبيرا نسبيا ولكن ليس بحجم الأجيال السابقة التى لم تدخل غزة (أو قد تكون ولكن بشكل قليل)، كان القرص الصلب يتسع لعدة ميجابايتات والقرص المرن أسطواني يشبه أقراص الليزر ولكنه أكثر مرونة، بدأ بعدها بفترة وصول أجهزة DX 380 او 480 وبعدها أجيال البينتيوم وظهور نظام الويندوز 3 إلى آخر هذه التطورات.
العديد من الشباب اليوم لم يعش تلك الفترة، الكثيرون منهم ولدوا ليجدوا الكهرباء وأجهزة اللاب توب والأجهزة اللوحية المحمولة، دخل الإنترنت إلى حياتنا وبدأ عصراً جديدأً من الإتصال والتواصل، لم تعد العائلة تجتمع حول بعضها لتستمتع بقصص الأم قبل النوم أو ليتسامروا أثناء مشاهدة فيلماً أو نشرة أخبار، أصبح التواصل حتى داخل الأسرة الواحدة من خلال وسائل إتصال مثبتةٍ على أجهزة لا تفارق أيدينا، جهازً محمولاً ككف اليد وفي كف اليد، يحمل كل ما بجول في عقولنا ويحمل حتى أسرارنا. لم نعد نحفظ أرقام الهواتف فهي مسجلة عليه، تنادي على زوجتك وهي في الصالون من خلال الفليبر أو الواتس اب، تطلب من أبنائك الخروج من غرفتهم لأنك لا تستطيع مناداتهم بأعلى صوتك فهم يضعون السماعة على آذانهم ولن يسمعوا صراخك. أصبحت تعبيراتنا ومشاعرنا مثل صفحة بيضاء مقروءة للجميع، فمن ليس عنده اليوم حساب على الفيس بوك أو التويتر أو كلاهما؟ أصبحنا نعلم ما يدور حولنا بشكل أسرع، فهذا خَطَب وتلك ذهبت إلى الكوافير وهذه طبخت اليوم أكلاً معينا ومسكين فلان لم يستطع تحمل رسوبه ورحم الله فلان توفي قبل عدة دقائق بعد عمر قضاه في طاعة الله. أصبحنا نحكم على مشاعر الآخرين من خلال قراءة ما يكتبون على صفحاتهم، مشاعر تكون في العديد من الأحيان جامدة ليس فيها كيمياء التواصل البصري والفعالية الموجود حينما يسر لنا صديق بمكنوناته أو يتحدث إلى آذاننا فلان بما يرغب أو لا يرغب مع نبرات تشعرك بصدق الأحاسيس. تحولت علاقاتنا لتكون مبنية على أحكام نضعها بناء على ما نقرأ وليس ما نحس.
لست هنا بصدد تغييب أهمية التطور الصناعي والتكنولوجي ولكني أجد أن سوء استخدام هذا التطور والتقدم أصبح يبعدنا قليلاً قليلاً عن إنسانيتنا، أصبح يباعد بين بني البشربقدر ما يقربهم ويحولنا إلى آلات قد نفقد بعدها المشاعر والاحاسيس، فهل من مراجعة؟