في منطقة الساحة وسط غزة، أكثر بقعة مزدحمة بالمدينة، أدار الجميع رؤوسهم نحو سعيد أسمر البشرة وزوجته السامرية، فراح بعضهم يهمس للآخر ويضحكون إما باستهتار أو ذهول وربما عنصرية.
سيدة قمحية تهمس لابنتها: "شوفي شوفي الهبلة، كيف متزوجة واحد عبد"، لترد الفتاة بعدما قهقهت بضحكة عالية ساخرة، "يمكن بتفكروا أشقر وعيونه زرق".
لم ينته المشهد ولم تكف أعين الناس وهمساتهم عن ملاحقة سعيد وزوجته إلا باختفائها.
يتكرر هذا المشهد بشكل يومي في هذه الساحة وفي أحياء أخرى من مدينة غزة، ليطرح السؤال عن سبب هذه "العنصرية".
"شوكولاته بحليب"
محمد ذو البشرة السمراء الداكنة وسماهر ذات العينين الخضراوين والبشرة البيضاء الناعمة، تزوجا رغماً عن القوانين التي نصها المجتمع، فنالا نصيبهما من نظرات الاستغراب والأحاديث الجانبية.
قال محمد لـ"هافينغتون بوست عربي": "تعرفت على سماهر بورشة عمل أُقيمت بأحد فنادق غزة استمرت لمدة أسبوع، وبمجرد أن رأيتها جذبتني، أصبحت أُفكر كثيراً كيف يمكنني أن أحدثها"، وتابع الشاب حديثه قائلاً، "في ذلك الوقت لُمت نفسي وتساءلت كيف يمكنني أن أنظر إليها وأفكر بها كزوجة، فهي لن تنظر إلى شخص ذي بشرة سمراء".
لم تكن سماهر تفكر بنفس طريقة المجتمع، إذ بادلت محمد نفس النظرات ما جعله يحادثها ويطرح عليها فكرة الزواج، يقول الشاب قبل أن يوضح أنه تفاجأ بموافقتها.
واعترضت أسرة الفتاة على إتمام الزواج، و"هددوها بعدم الاعتراف بها وبأبنائها مستقبلاً"، يحكي محمد متابعاً، "تزوجنا أنا وسماهر رغماً عن الجميع وعن نظرة المجتمع القاسية وأنجبنا طفلة أخذت جميع جيناتي وهو ما زاد الأمر سوءاً لدى عائلة زوجتي".
حاول الزوجان إفهام من حولهما أنهما يعيشان في سعادة، إلا أن العنصرية طاغية. وعلق محمد على الأمر في حديثه للموقع قائلاً، "المجتمع لم يرحمنا من نظراته وتعليقاته التي لا يمكن وصفها سوى بالسخيفة".
لا يتوقف الأمر عند النظرات العنصرية بل إن سلوكيات الناس تتجاوز ذلك لمضايقة الزوجين بالكلام أيضاً.
"شوكولاتة بالحليب".. "الشوكو صار في منه لونين" عبارات كان يسمعها محمد وزوجته وكانا يضطران للتعامل معها بحذر تجنباً للمشاكل مع الناس في الشارع.
يقول الزوج لـ"هافينغتون بوست عربي" إنه "يضطر لحمل وثيقة الزواج في جيبه بسبب عدد المرات التي كانت أجهزة الأمن تقوم بإيقافه فيها وسؤاله عن الفتاة التي يمشي معه".
حارة العبيد!
في "حارة العبيد" أو "السود" كما يُطلق عليها الكثير من أهالي قطاع غزة من أصحاب البشرة البيضاء، توجد العديد من العائلات ذات البشرة السمراء الداكنة.
تروج حول الحارة الكثير من القصص والحكايات العنصرية.
أسماء هي إحدى بنات الحارة التي تقدم إلى خطبتهن شاب أبيض البشرة.
"لم أكن أتخيل أن أرتبط بشاب أبيض اللون ذي عينين خضراوين"، تقول أسماء لـ"هافينغتون بوست عربي" متابعة، "تعرفت على أحمد بالجامعة كان معيداً لدينا، حُلمي بالارتباط به كان يبدده لون بشرتنا المختلف، ولكنه أصبح حقيقة وفاتحني في الزواج".
لم يكتمل حلم الشابة؛ أهلُ الشاب رفضوا الأمر بشدة، "بل قاموا بالتعرض لي ولأهلي"، تقول أسماء مردفة " أدركت وقتها أني أعيش بمجتمع لا أستطيع فيه النظر إلى أصحاب البشرة البيضاء، وأدركت عنصرية مجتمعي القاتلة وكم أن هناك فرقاً شاسعاً بيننا فالزواج بيننا ممنوع ومجرد الإعجاب يبعث في أنفسنا العتب".
جمال الروح
وجعلت التجربة أسماء تُثبت ذاتها في مجتمع برأيها "ناقص"، إذ أكملت دراسة الماجستير وعملت أيضاً معيدة بالجامعة نفسها، وختمت المتحدثة حديثها معلقة
"الحمد لله الجامعة ما بتاخد اللي بيدرّسو فيها على حسب اللون".
تاريخ الحارة
يُدعى أحمد الرواغ عمره تجاوز الثمانين، إنه مختار الحارة (أي عمدة المنطقة)، يقول وهو يبتسم عندما سألته عن تاريخ "حارة العبيد"، "هما ليش بيخافوا منا أصحاب البشرة البيضاء، مع إنو شوكولاتة الغلاكسي طعمها زاكي" وأخذ يقهقه بصوت عال.
قال الرواغ لـ"هافينغتون بوست عربي"، إن أصحاب البشرة السمراء الداكنة جاؤوا من السودان، واستقروا في قرية "روبين" القريبة من يافا ما قبل عام النكبة، حتى اضطرهم احتلال الأرض وقتذاك إلى الهجرة ناحية قطاع غزة، فتجمعوا في منطقة واحدة كأقلية بدأت تمتد وتتكاثر على مدار السنوات التالية لعام 1948.
وأضاف المتحدث أنه رغم وجود النظرة العنصرية خاصة في موضوع الزواج، إلا أن "ما يميزنا أن جميعنا يد واحدة ونحب بعضنا، بالذات لو حقق الواحد منا هدفه المنشود أو حصل على مرتبة عالية بالدراسة وقتها يكون مفخرة لنا ولعائلته".
وتابع أحمد الرواغ "معظم أصحاب البشرة الغامقة معروفون بثقتهم العالية بأنفسهم وخفة دمهم، لكن نظرة المجتمع العنصرية هي التي نأمل أن تختفي، خاصة أنها يمكن أن تُسبب لأطفالنا شعوراً بالنقص والاختلاف عن أصحاب البشرة البيضاء".
وتقع ما يطلق عليها اسم "حارة العبيد" وسط شارع الجلاء شمال مدينة غزة، ويعيش فيها ما يقارب 11 ألف فلسطينيّ "أسمر" حسب المختار.
"ظهرت تجارة العبيد السمر في قطاع غزة من قبل العائلات الغنية قبل مئات السنين"، يشير كتاب "غزة عبر التاريخ" لإبراهيم سكيك، فيما ذكر كتاب "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة" أن "جزءاً من أهل قرية بربرة في فلسطين كانت لهم بشرة سوداء وهم جاؤوا من المغرب".