انعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح، بكل ما كان ينطوي عليه عقده من مخاطر ودراما مشحونة بالكثير من الشحنات القابلة للانفجار، وفي ظل أجواء من الترقب والتوتر ونبوءات الخراب؛ كان الحدث الفلسطيني هذه الأيام، تابعه الجميع بترقب، سواء أولئك الذين صلوا لإنجاحه أو الآخرين - وهم كثر - الذين تمنوا وعملوا على إفشاله أو قللوا من نتائجه وسخروا منها وهاجموها، حتى قبل انعقاده؛ لكن المؤتمر وعلى أهميته في تأثيره على الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني غاب فجأة عن رادار الإعلام الإسرائيلي، وعن متابعات السياسيين الإسرائيليين، على الرغم من ان إرهاصات عقده وما رافقها من توترات داخلية فتحاوية وجدت اهتمامًا إعلاميًا إسرائيليًا كبيرًا، وتقدمت إلى العناوين الرئيسية، وكانت رسالتها الأقوى اقتباس لنبوءات مسؤولي الأمن أو معارضين لعباس من داخل فتح، نبوءات عن احتدام الصراع والانشقاق وانتشار الفوضى وانهيار المؤسسات الفلسطينية أو الهجوم الكاسح على عباس بوصفه "ديكتاتورًا مستبدًا يقوم بحملة تطهير عميقة وشاملة".
وتلكم بعض العناوين التي سبقت عقد المؤتمر "محلل إسرائيلي يتوقع آثارًا هائلة لمسلسل عباس - دحلان"، "أبو مازن فهم المؤامرة التي تحاك ضده، ممّا دفعه لأحضان قطر وتركيا"، "إسرائيل قلقة من تطور الصراع بين مسلحي المخيمات والأمن الفلسطيني"، "دحلان سيقوم بعملية انشقاق تاريخية في فتح"، "بعد احتدام الصدام بين دحلان وعباس .. انقسام فتح حتمي"، "دحلان سيقوم بعملية انشقاق في حال استبعاده نهائيًا"، "الصراع بين معسكرات فتح سيؤدي إلى عدم استقرار الأمن في الضفة وإلى تعزيز حماس"، "الصراع بين صقور فتح يخلق تحديات أمنية جديده"، "الديكتاتور الأكبر أبو مازن يطهر السلطة من رجال دحلان"، وعناوين ومقالات وتقارير أخرى كثيرة تناولت بإسهاب وغطت الشأن الداخلي الفتحاوي من زاوية واحدة، في إغفال متعمد للصورة الكلية، تركيز على مظاهر الفساد، وعلى فشل القيادة الفلسطينية، وإظهار غضب الجمهور الفلسطيني من فساد قيادته وفشلها وضعفها، ونقمة المخيمات وحالة الفوضى الكبيرة التي تسود الضفة وتنذر بفقدان قدرة السلطة على الحكم، دون أية إشارة لدور الاحتلال وسياساته الرامية لإضعاف السلطة وتآكلها واستنبات زعامات محلية.
ربما الكثير ممّا قيل في الإعلام الإسرائيلي عن فساد السلطة وديكتاتوريتها وعن الصراع بين معسكرات فتح المتنافسة صحيح، ويعكس إلى حد ما واقعًا يعيشه ويعرف تفاصيله معظم المواطنين الفلسطينيين؛ لكن رسالة الإعلام الإسرائيلي هنا ليست رسالة خالية من الأجندات ولا تتمتع بأدنى قدر من المهنية والموضوعية، ويشهد على ذلك تركيزها وكميتها وأحادية الجانب في النقل والتغطية وغياب الرأي الآخر، وتعاميها الكلي عن المجرم الأول وهو الاحتلال، وعن جرائمه اليومية وجرائم مستوطنيه، وصمتها عن صراخ وآلام الضحية، ومحاولة المساواة في أحسن الأحوال بين مسؤولية القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية في استمرار الاحتلال وفشل ما يسمى بمسيرة التسوية.
محرري الإعلام الإسرائيلي هم جزء لا ينفصل عن المنظومة الأمنية والسياسية الإسرائيلية، ومن الأكثر راحة لهم الاستقامة مع رسائل المنظومة السياسية والأمنية والسباحة مع تيار الشعبوية اليمينية الذي يجتاح المجتمع الإسرائيلي، فالرسائل التي يبثونها عن المجتمع الفلسطيني موجهة للفلسطينيين وللإسرائيليين في آن واحد، فهم يستغلون سرعة انتشار كل ما يكتب لديهم عن المجتمع الفلسطيني في الإعلام الفلسطيني، حيث يتزين بعناوين مثيرة ويتصدر المواقع الصحفية، وتقرأه نسبة كبيرة من الفلسطينيين، وتكرار نفس الرسائل يؤثر عميقًا ويتحول إلى ما يشبه النبوءة التي تحمل ميكانيزمات التحقق بواسطة العمل وفق محتم الوقوع، فأجواء التفاؤل تعزز المناعة وتساعد على النهوض، وأجواء التشاؤم والإحباط تضعف المناعة وتزيد من فرص التحطم، فرسائلهم هنا المتكررة عن ذات الموضوع تشبه عملية كيّ دائم لوعينا بجوهر الرسالة.
وهي أيضا موجهة للإسرائيليين لتبرهن على صدقية قول نتنياهو بعدم وجود الشريك، وأن الفلسطينيين غير مؤهلين للوصول إلى اتفاق تسوية، وغير مؤهلين لحكم أنفسهم، وأنه لا خيار لإسرائيل سوى التمسك بخياراتها في فرض الأمن، بما يحتمه ذلك من التمسك بالاستيطان وتأمين حدودها، وأن مسؤولية استمرار الاحتلال تقع فقط على عاتق الفلسطينيين، وهم وحدهم يتحملون مسؤولية استمرار معاناتهم، فليرتاح الضمير الإسرائيلي من الإحساس بأي ذنب تجاه معاناة الفلسطينيين.
في مؤتمر فتح ظهر عباس، وعلى عكس كل التشكيك الإسرائيلي، بقدرته الصحية وبضعف حكمه وبشرعيته، فقد ظهر بصحة مثيرة للإعجاب وقدرة عالية على التحكم بحركة فتح، وإحكام سيطرته الكلية عليها، والأهم أنه حظي بشرعيه قوية فتحاوية وفلسطينية وعربية ودولية، وتوج قائدًا وزعيمًا لأكبر حركة فلسطينية دون أدنى اعتراض، وتبنت الحركة برنامجه السياسي، بما في ذلك اعتماد المقاومة الديبلوماسية والقانونية مع التمسك بالثوابت الفلسطينية المعروفة.
بيد ان ذلك لم يحظَ بأية تغطية في الإعلام الإسرائيلي، سوى تقرير عابر في القناة العاشرة في بداية المؤتمر، وكأنه لا يروق لهم ان يكتبوا شيئًا عن نجاح عباس حتى في عقد المؤتمر دون انفجار أيّ من الألغام، والغريب ان خطاب عباس السياسي - الذي وحسب بعض المراقبين استبعد منه حتى المقاومة الشعبية، وركز على المقاومة الديبلوماسية والقانونية - لم يحظَ بسطر واحد في إعلامهم، وعلى الرغم من أهمية الرسائل السياسية التي جاءت في خطاب عباس لمن يتمسك بمشروع التسوية والمفاوضات كخيار وحيد لحل الصراع.
إسرائيل - التي تسعى منذ وقت طويل للتخلص من عباس وحصاره واغتيال شرعيته على المستوى المحلي والدولي، وقد كشف عن ذلك ليبرمان أكثر من مرة، وبشكل وقح وفج - لا تقوم بذلك استهدافًا لشخص عباس ومحبة فيمن سيخلفه بغض النظر عمّن سيكون؛ بل تقوم بذلك لاستهداف شرعية السلطة وشرعية الحق الفلسطيني وشرعية النضال الوطني، بغض النظر عن أداوته المتبناة، واستهداف الزعيم عباس ليس إلا وسيلة لاستهداف ما يمثله عباس مثلما فعلت تمامًا مع عرفات، وستفعل مستقبلًا نفس الشيء مع من سيخلف عباس، فهذه هي طريقتها لمواجهة القضية الفلسطينية، وهذه هي وسيلتها لإطالة عمر الاحتلال وفرض المزيد من الوقائع الاستيطانية، إلى أن يفرض الواقع المسلح بالقوة والنفوذ الدولي أجندته على مجتمع يزداد ضعفًا وهشاشة وتفككًا.