أصدرت الحكومة التونسية الاسبوع السابق قراراً بإقالة وزير الشؤون الدينية عبدالجليل بن سالم بعد تصريحات له أتهم فيها الوهابية بأنها سبب التطرف والتشدد والتكفير والإرهاب في العالم الإسلامي , وكان بن سالم قد قال أمام لجنة الحقوق والحريات في مجلس النواب التونسي : " لم يصدر التكفير والتشدد إلاّ من المدرسة الحنبلية والمدرسة الوهابية ... وما نراه في العالم الإسلامي من تشدد وإرهاب هو راجع إلى هذه المدرسة سواء على حسن نية أو سوء نية , معرفياً ومنهجياً لا ينتج هذا الفكر إلاّ تطرفاً " وفي السطور التالية من المقال سيتم مناقشة مضمون هذا التصريح ومدى صوابه أو خطأه فيما يتعلق بالمدرسة الوهابية وغيرها من المدارس الإسلامية .
في البداية من المفيد توضيح حقيقة أن المنهاج التربوي الذي قد يسبب التطرف والتشدد والتكفير والإرهاب لا يمكن قصره على مخرجات المدرسة الحنبلية والوهابية فقط , بل هو منهج تفكير وعمل مستمد من أي أيديولوجية تحمل رؤية أُحادية إقصائية ونظرة ثنائية قطعية ، تؤدي إلى رفض الآخر المختلف والمغاير , فتقود إلى استبعاده وتكفيره ومن ثم قتله . وهذه الايديولوجيا تحملها فرق إسلامية عديدة في الدائرتين السنية والشيعية , بل وتحملها فرق غير إسلامية يهودية ونصرانية , وفرق لا تنتمي إلى أديان سماوية كبعض تيارات العلمانية المتطرفة والماركسية المتشددة , وهي موجودة عند الأنظمة السياسية المستبدة التي تستخدم التكفير السياسي لكل من يخالف الزعيم الملهم أو يخرج على النظام السياسي المحتكر للسلطة والثروة . فهو منهج عام عند الكثير من تلك التيارات ولكنه يوّزع بنسب متفاوتة عليهم .
وفيما يخص المنهاج التربوي الديني السعودي وتأكيداً لما ذكره الوزير التونسي , فقد أصدر فريق من الباحثين والأكاديميين السعوديين برئاسة عبدالعزيز القاسم عام 2011 دراسة موّسعة نشروها في كتاب بعنوان ( منهاج العلوم الشرعية في التعليم السعودي .. استقراء وتحليل وتقويم ) وانتقدوا فيها تلك المناهج بقولهم : " إن المناهج بمضمونها الحالي غابت فيها المفردات المحيلة إلى معاني الاعتدال والوسطية والتسامح وقبول الآخر المخالف , وهو غياب من شأنه أن ينمي في الطلاب مظاهر الانغلاق والتشدد , ويؤسس فيهم شعوراً بالكراهية والعداوة لكل من يخالفهم في الرأي ... وخلص الفريق إلى ضرورة انفتاح المناهج الشرعية على مرجعيات جديدة وتوسيع دائرة النظر واكتشاف مظاهر التنوّع والثراء في الفكر الإسلامي لتجنب مخاطر التشدد وأُحادية الخطاب . "
ويرى الباحث السعودي في القضايا الإسلامية ( عبدالله المالكي ) في تقرير يناقش هذا الموضوع ورد في موقع راصد الخليج بتاريخ 9 / 11 / 2015 أن السعوديين هم الأكثر قابلية للالتحاق بالتنظيمات الجهادية , وذكر ثلاثة أسباب لذلك أولها أن الدولة السعودية نفسها قد قامت بالسيف رافعة شعار الجهاد في سبيل الله لقتال المشركين والمرتدين , وثانيها أن المنهاج التربوي السعودي يعزز الشعور بالوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي الذي يشجع بدوره الرغبة في المشاركة في الجهاد لنصرة الشعوب الإسلامية الشيعية ،وثالث هذه الأسباب هو الصحوة الإسلامية السنية مقابل الصحوة الإسلامية في ايران التي أحدثتها الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الإمام الخميني وأثرت على المنطقة العربية . ورغم التحفظ على الأسباب التي ذكرها الباحث والتي لا مجال لمناقشتها هنا فإن هذه الأسباب تعزز رؤية الوزير التونسي المُقال .
والنقد الذي وجهه الوزير التونسي إلى المدرسة الوهابية ينطبق على غيرها من المدارس والحركات الإسلامية كالمدرسة الجهادية المصرية التي استمدت الكثير من أفكارها من سيد قطب ،اللتان شكلتا معاً ايديولوجية القاعدة ،والتي ترى أن رؤيتها واجتهادها هو الإسلام وليس اجتهاداً لفهم الإسلام ، وتخلط بين الدين السماوي والفكر الديني البشري , ولا تفرّق بين النصوص الشرعية واجتهاد علمائها في فهم هذه النصوص , وتؤمن بفكرة الفرقة الناجية الوحيدة التي على الحق وما دونها على الباطل . فعلى سبيل المثال في كلام منقول عن الإمام حسن البنا في المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين " على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج كله من الإسلام ، وأن أي نقص منه هو نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة " ويُفهم من مضمون هذا الكلام ومن أدبيات نظرية أخرى لجماعة الإخوان المسلمين وجود مطابقة بين الجماعة ومنهجها الديني والفكري والسياسي وبين الإسلام نفسه ، فمن يخالف الجماعة – الإخوان المسلمين – كمن يخالف الدين نفسه , ومن ينتقد فكرها كمن ينتقد الإسلام نفسه .
واستخدمت فرق الشيعة نفس المنطق والمنهج في إقصاء الآخرين وتكفيرهم بطريقة أو بأخرى وهناك نصوص كثيرة من التراث الشيعي تغذي باستمرار روافد الكراهية والحقد والإقصاء والتكفير , وتكرّس الانفصال الشعوري عن الجسم الأكبر للأمة الإسلامية ، منها اتهام أهل السنة بأنهم نواصب مقابل اتهام أهل السنة لهم بأنهم روافض ، والقدح في بعض أعلام الصحابة وبعض زوجات النبي – رضوان الله عليهم – وهم أول من وظّف النصوص الشرعية في دعم موقفهم السياسي في أحقية الإمام علي – كرّم الله وجهه – وأولاده في الخلافة . ولم يقتصر ذلك على أهل السنة بل وجه ضد بعضهم البعض لاسيما من الشيعة الإمامية الإثني عشرية الذين وصف بعض علمائهم فرق الشيعة الأخرى بأنهم كفار ومشركون وأنجاس وكلاب وملاحدة وزنادقة .
وفي نفس الإطار يقول الدكتور ( أحمد محمد سالم ) استاذ الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب بجامعة طنطا في كتابة المنشور عام 2013 ( إقصاء الآخر صناعة التكفير في عالم العقائد ) إن الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة في مسائل الفكر والاعتقاد هي البداية الفعلية للعقلية الإقصائية وقضية إقصاء الآخر , الذي يقود إلى التكفير وهو أعظم أدوات الإقصاء وأشنع أنواعه , والتكفير يعني إهدار دم من يتم تكفيره , أي أن الإقصاء مرتبط بالإرهاب الدموي . وأن توظيف المقدس ممثلاً في النص الشرعي أصبح تقليداً دارجاً من كل جماعة لمواجهة الجماعات الأخرى , ومن أهم ملامحه الاستعانة بحديث ( الفرقة الناجية ) الذي أرسى تقليداً إقصائياً في مدونات الفرق والملل والنحل لدى الفرق الإسلامية , وأن الصراع على السلطة السياسية قد أجج هذا الصراع الديني وقد يكون هو الذي أنشأه أصلاً .
وخلاصة الإجابة على سؤال العنوان أن الوزير التونسي المُقال لم يخطئ في نقده للمدرسة الوهابية التي ربطها بالحنبلية, ولكنه أخطأ في حصره هذا النقد فيها , وهي وإن كانت تتحمل مسؤولية كبيرة في سيادة الفكر الإقصائي التكفيري في العالم الإسلامي , ولكنها ليست الوحيدة . والمخرج من كل ذلك نعيد ما ذكره فريق الباحثين السعوديين في دعوتهم لإصلاح منهاج التعليم الديني السعودي والذين أكدوا فيه إلى ضرورة انفتاح المناهج الشرعية على مرجعيات جديدة وتوسيع دائرة النظر واكتشاف مظاهر التنوّع والثراء في الفكر الإسلامي لتجنب مخاطر التشدد وأُحادية الخطاب . ونزيد عليه بأهمية أن تكون المناهج التعليمية الدينية في العالم الإسلامي سواء الحكومية الرسمية أو المدنية الأهلية أو الحزبية الحركية معتمدة على المشترك الإسلامي العام ، والأصول المتفق عليها ، والتركيز على ما يجمع المسلمين عامة لا ما يفرقهم . إضافة لتنقية كتب العقيدة والفقه والتفسير والحديث القديمة والحديثة من النزعات المذهبية الضيقة والاعتماد على القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتفق عليها , والعمل بمنهجية نعمل فيما اتفقنا عليه ونتحاور فيما اختلفنا فيه .