وقفت متعاطفاً قبل سبعة وعشرين عاماً الى جانب الجنرال ميشيل عون في الثورة المجهضة أو الفاشلة فيما يشبه التمرد، التي قادها من قصر بعبدا الشهير شرق بيروت ضد الرئيس حافظ الأسد، مطالباً بحقه في رئاسة لبنان ورحيل او خروج القوات السورية من بلاد الأرز.
كان هناك ارث طويل من الخصومة والنزاع بين ياسر عرفات والثورة الفلسطينية إجمالا مع الرئيس الأسد، بسبب محاولاته المتكررة التدخل بالشؤون الفلسطينية الداخلية، للسيطرة على ما سمي في ذلك الوقت بالورقة الفلسطينية، او ما اسماه عرفات طوال الوقت بالقرار الفلسطيني الوطني المستقل، هي في خلفية هذا التعاطف الى جانب الجنرال عون. وهو موقف كان ينسجم في تلك الحقبة مع الخط التحريري والإعلامي للصحيفة المركزية الناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية، والمعبرة عن سياساتها.
لكن الواقع ان بعداً آخر لا يقل أهمية عن هذا البعد الأول، كان يليق بظلاله على مقاربتنا للمشهد السياسي اللبناني، وحيث كانت الأزمة اللبنانية الداخلية ما تزال تستأثر باهتمامنا حتى بعد سنتين تقريبا من اندلاع الانتفاضة الأولى العام 1987، وانتقال ثقل الجهد الفلسطيني من الخارج الى الداخل. وكان هذا البعد يتمثل بتداعيات الحرب الأهلية اللبنانية التي وجدنا انفسنا في العام 1975 متورطين فيها، وقد كان إعلان الجنرال عون ثورته ضد الوجود العسكري السوري في لبنان، ربما أدى الى تغذية طموحات مستترة ولم يتخل عنها عرفات حتى في منفاه الأخير في تونس، باستعادة نفوذه السابق في لبنان.
لقد سعى عرفات بعد خروج قواته من الأردن وانتقاله الى لبنان، ومدركا حساسية التوازنات الطائفية الهشة في بلاد الأرز، الى الوقوف على مسافة واحدة من جميع هذه الطوائف او العائلات السياسية التي حكمت هذه البلاد، منذ زمن الأمير بشير الشهابي وصراعات الدروز والموارنة في جبل لبنان، والفتن والحروب الداخلية في العقود المتأخرة من حكم السلطنة العثمانية. لكن «المارونية السياسية» من آل الجميّل وكميل شمعون في عهد الرئيس سليمان فرنجية، توجست خيفة من الوجود الفلسطيني المسلح الوافد جديدا الى لبنان.
ويصف في هذا الصدد صلاح خلف «أبو إياد» في الكتاب الذي نشره مبكرا الصحافي الفرنسي الشهير أريك رولو عن حياة أبو إياد، كيف انه وعرفات وفي أول مقابلة لهما مع الرئيس اللبناني سليمان فرنجية في ذلك الوقت، شعر بقشعريرة باردة تسري في ظهره، من الجو العدواني وغير الودي إطلاقاً الذي ميز مقابلة الرجل لهما وحديثه معهما.
هذا رجل بدا في ظهوره الأول وكأنه يغرد من خارج السرب، وببزته العسكرية اللبنانية كقائد للجيش بدا من خارج العائلات المارونية التقليدية، التي كانت في الماضي ولا زالت تتقاتل فيما بينها وتتنافس على زعامة لبنان، وكأنه بونابرت القادم في هذا البلد الصغير، ولكن الذي يتقاتل الجميع على ارضه، من التفوق أخيرا او التغلب على الحرب الأهلية اللبنانية وأمراء الحرب، الذين كانوا رؤساء هذه العائلات الطائفية نفسها، ولا زالوا شأن أسلافهم يقدسون الألقاب التي يتوارثونها كما يتوارثون المليشيات الذين يتكونون من أبناء الطوائف، ويخضعون بملء خاطرهم لزعامتهم.
وإذ كان الزمن والوقت هو زمن سقوط وتهاوي جدار برلين وانتفاضة الشعوب من فلسطين الى أوروبا الشرقية، فقد احتشد الآلاف من جيل الشباب والصبايا في اعتصام نادر حول أسوار قصر بعبدا، الذي كان الجنرال يتحصن فيه. والذي بدا بالنسبة لهم وكأنه هو المخلص بعد سلسلة منكودة، واندحار وتفكك وفساد امراء الحرب الموارنة، وانحصار شوكتهم السابقة امام الرئيس السوري حافظ الأسد واتباعه اللبنانيين.
ولكن اذ انتظر هذا الأخير بحذاقة ومهارة وخبرة من يعرف كيفية انتهاز الفرصة السانحة للانقضاض على خصومه. فإن هذه الفرصة لم تتأخر طويلا في القدوم، واستغل حافظ الأسد مشاركته الظاهرية في حلف الثلاثين الذي أقامه جورج بوش الاب في حرب الكويت ضد صدام حسين غريم الأسد القديم. بعد غزو العراق واحتلاله للكويت، لكي يرسل جيشه تحت غطاء الحرب الاميركية لتحرير الكويت على عجل، لاقتحام قصر بعبدا والقبض على الجنرال، وهو ما دعا الفرنسيين عبر سفارتهم في بيروت التحرك في اللحظة الأخيرة، لإنقاذ عون وإخراجه من القصر وبعد ذلك استضافته بالإقامة في باريس. كلاجئ سياسي لمدة خمسة عشر عاما قبل عودة الجنرال العام 2005، باستقبال شعبي مهيب بالورود كما لو انه فاتح جديد.
رجلان سوف يلعبان في هذا العام 2005 دورا قويا في الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد نجل الأسد الأب، اما هذان الرجلان فهما الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الذي غزا العراق نفسه واحتله قبل سنتين، والرئيس الفرنسي جاك شيراك اللذان استغلا حادثة اغتيال السياسي اللبناني السني رفيق الحريري. ليفرضا على قوات الأسد أخيرا مغادرة لبنان بعد اتهام صريح للأسد الابن، انه وراء عملية الاغتيال.
لكن عودة عون كان رافقها في هذه الأثناء ما يشبه تبدلا او تغيرا جذريا في المشهد اللبناني، مقارنة بما كان عليه الحال في العام 1989، فقد رحل الأسد الأب وكذا عرفات بعده في عملية اغتيال بالسم وهو محاصر في رام الله من قبل إسرائيل. وانحسر او كاد يتلاشى وينهار النفوذ القديم لأمراء الحرب التقليديين، بعد ان تمكن الأسد الكبير قبل رحيله من تصفية او إبعاد جميع هؤلاء تقريباً. اذ وضع سمير جعجع في السجن لمدة عشر سنوات، بعد اتهامه باغتيال السياسي السني رشيد كرامي، واضطر أمين الجميل رئيس حزب الكتائب أقوى أحزاب المارونية السياسية الى الاختفاء في فرنسا هرباً من سطوة الأسد، واغتيل إيلي حبيقة المتهم الرئيسي بمجزرة صبرا وشاتيلا في ظروف غامضة حتى الآن، رغم ان تحوله في السنوات الأخيرة قبل اغتياله الى التحالف مع سورية تثير الحيرة الى الآن.
وانه بتراجع هذا النفوذ السابق لهذه المليشيات من حزب الكتائب المارونية والقوات اللبنانية، بزعامة سمير جعجع وهو ربيب آل الجميل، والذين كانوا رأس الحربة خلال الحرب الأهلية ضد الثورة الفلسطينية وحليفها الحركة الوطنية اللبنانية بزعامة كمال جنبلاط،. وذهب هؤلاء الى حد التحالف مع إسرائيل في العام 1976، حين أرسلت إسرائيل سراً دافيد بن اليعازر، كما لو انه لورانس الجديد للإشراف على تدريب وتسليح ميليشيا الكتائب.
فقد برز او سطع في هذا الحين وبعد خروج الثورة الفلسطينية من لبنان، نجم قوة جديدة صاعدة سوف تغير لاحقا لا المشهد اللبناني فقط ولكن قواعد اللعبة اللبنانية ومعادلاتها الداخلية. هذه القوة الجديدة تتمثل بحزب الله اليوم وزعيم هذا الحزب حسن نصر الله.
وهنا تكتمل الحكاية، فإن التوازن الجديد الذي بدأ يؤذن مع انتخاب الجنرال عون رئيسا للبنان بعهد وحقبة جديدة، لعل في دلالتها توازي إعلان استقلال لبنان العام 1943، ذلك ان هؤلاء الرجال الثلاثة حسن نصر الله وميشيل عون وسعد الدين الحريري أي الممثلين الثلاثة الذين صنعوا هذه العملية او التسوية الجديدة، هم الأسلاف المعاصرون اليوم لممثلي الطوائف الثلاث نفسها الذين توصلوا عام 1943، لوضع أساس نظام الحكم في لبنان، والتي ظلت تعرف بوثيقة تفاهمات بشارة الخوري ورياض الصلح السني. ولكن مع اختلاف جوهري في هذه التسوية الأخيرة بين ميشيل عون الماروني المسيحي وسعد الحريري السني، بموافقة ورعاية حسن نصر الله، وهو ان هذا الأخير الشيعي ليس سليل العائلات الشيعية التقليدية والإقطاعية من آل عسيران او اسعد او حمادة، ولا الحريري الابن جاء من صفوف العائلات الإقطاعية السنية كآل الصلح وسلام، ونفس الشيء ينطبق على عون.
هذا رئيس للبنان غير عادي ويأتي في ظرف غير عادي. ويمكن النظر اليه كامتداد او خليفة للجنرال فؤاد شهاب، الذي كان حليفا لعبد الناصر. وإذ يبرز سجل هذا الرئيس الجديد في بادئ الأمر بظهوره المبكر كضابط في العام 1975، بالقرب من معروف سعد الناصري الصيداوي والحليف لعرفات والمقاومة الفلسطينية، الا انه اليوم لا يُشكك احد بأن وصوله الى الحكم الذي بدا مستحيلا في غضون الثلاثين عاما الماضية، انما كامتداد للحلف الممتد من ايران الى سورية بشار الأسد وصولا الى حزب الله. والذي يستعد هذا الحلف من حول محاصرته لمدينتين هما حلب والموصل، لتقرير مصير الشرق الأوسط.
ولكنه على المستوى السياسي والشخصي سوف يظل يعترف الجميع أصدقاؤه وخصومه على حد سواء، باستقامته السياسية والأخلاقية، رجل نظيف اليد والسجل، يؤمن بما يقول وعلى استعداد ان يذهب الى النهاية إيمانا بما يقول. وإذ اليوم يبدو حليفا لبشار الأسد على خلاف العداء مع والده، فقد كان صادقا ولم يغير رأيه حين قال انه على استعداد لإقامة علاقة مميزة مع سورية بعد انسحابها وخروج قواتها من لبنان.
وفلسطينيا تبقى القاعدة دوما: ان القادة الجيدين لشعوبهم وبلدانهم انما هم جيدون لفلسطين وأمتهم العربية. وهذا الرئيس اللبناني الماروني المسيحي الوطني والقومي العروبي كان ولا يزال في مواقفه فلسطينياً.