في تاريخ الأمم والشعوب محطات وأحداث وشخصيات كان لها أثر كبير وواضح في صياغة وصناعة تاريخ هذه الأمم والشعوب، ولا يمكن أن نغفل أثر هذه المحطات والأحداث والشخصيات، أو أن نمر من أمامها دون أن تستوقفنا للتأمل والتفكير والتذكر.
والشعب الفلسطيني أكثر من غيره من شعوب العالم تميزاً في هذا الجانب، ففي تاريخه من هذه المحطات والأحداث والشخصيات الشيء الكثير، محطات كبيرة كالاحتلال البريطاني، وقيام دولة إسرائيل، وقيام السلطة في غزة والضفة، وأحداث كثيرة؛ كثورة البراق ونكبة فلسطين وحريق المسجد الأقصى ونكسة عام 67م، وشخصيات عظام أمثال الحاج أمين الحسيني وعز الدين القسام وجورج حبش وياسر عرفات وأحمد ياسين وغيرهم.
ومن هؤلاء الرجال الذين قدموا - وما زالوا يقدمون - لفلسطين وللعروبة وللدين؛ د. أحمد يوسف، رجل أُختزل فيه الوطن، بجباله وسهوله ووديانه، بكل أطيافه واتجاهاته، بصيفه وربيعه، بتاريخه، بماضيه وحاضره ومستقبله، بكل آلامه وأفراحه.
رجل ملك بين جنباته قدرات وإمكانات لو وزعت على فريق عمل لكفتهم وزادت عنهم، منحه الله من الصفات والملكات مما لا يتوفر إلا في قلة من الرجال؛ الدين والعلم والإخلاص والثقة بالله والنفس والصدق وقوة الشخصية والمعرفة والثقافة الواسعة والقبول من الآخرين وسعة الصدر والرزانة والهدوء والقدرة على التحمل والعطاء الذي لا ينقطع، والوفاء والسخاء والكرم والقدرة على بناء العلاقات العامة وعلو الهمة وعزة النفس.. هذا هو د. أحمد يوسف الذي عرفته منذ 48 سنة، لما كنا فتية وشباباً التقينا على حب الدين والوطن، في وقت كانت مساجدنا لا تعرف صنف الشباب والرجال، فقط شيوخ وعجائز من كبار السن.
التقينا مجموعة من الشباب بعد هزيمة عام 67م في مسجد الهدى برفح، أذكر منهم الدكتور موسى أبو مرزوق والدكتور فتحي الشقاقي والشيخ نافذ عزام والدكتور أحمد يوسف والأستاذ إبراهيم معمر وغيرهم، نجلس قبل الصلوات وبعدها نتدارس القرآن الكريم والسيرة النبوية وبعض الكتب الدينية، وكنت أصغرهم سناً وكان يرعانا الشيخ رجب العطار والشيخ حسين المصري والقارئ الشيخ عبد الله عوض الله رحمهم الله.
استمر بنا الحال حتى بدأت تكبر دائرتنا ويزيد عددنا، فكان أن انتقل بعضنا للمساجد الأخرى العودة والفاروق وذي النورين.
ثم بدأت الأيام تُفرق هذا الجمع، ذهبت لمدينة القدس للدراسة في ثانوية الأقصى للعلوم الشرعية، ثم للدراسة في الأزهر بالقاهرة، وذهب البعض للدراسة في معاهد الضفة الغربية، والبعض الآخر للدراسة في جامعات مصر، كان من نصيب د. أحمد أن سافر إلى تركيا ثم تركها متوجهاً للدراسة في مصر، وهناك كان أن سكنا مع بعض في شقة واحدة مع الدكتور موسى أبو مرزوق في حي رابعة العدوية بمدينة نصر في القاهرة.
في هذه الأثناء تعرفت إلى د. أحمد أكثر وأكثر، وذلك من خلال الاحتكاك اليومي المتواصل، تعرفت إلى أخلاقه ونفسيته وعقليته وسلوكه.
أما أخلاقه فهي من نبع النبوة المستمدة من نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)، حسن خلق وأدب جم وصدق ووفاء وكرم وإثار على النفس وحياء غير مخل واحترام للآخرين وعدم تدخل في شئون الآخرين، ومودة صادقة.
أما عن نفسيته فنفس راقية لا تنظر لسفاسف الأمور، محب لغيره، مخلص، صاحب همَّة عالية، ثابت غير متقلب، لا تشغله توافه الأشياء، لا يعجز أمام المواقف، غير جشع أو طمّاع، لا تتحكم فيه نوازع الشر من حسد وحقد وغيرة، ليس للهوى على نفسه من سبيل.
أما عن عقليته وفكره وثقافته فحدث ولا حرج، رجل منفتح على كل الثقافات، قارئ أكثر من ممتاز، كونه يجيد أكثر من لغة جعله صاحب أفق أوسع، ونظرة أدق، ومعرفة أوثق، مطلع على التاريخ بشكل جيد، ومع أن دراسته كانت الهندسة، إلا أنه تنوع في اطلاعاته في الأدب والشعر وعلوم الدين بعمومها، مُلم بالسياسة العربية وغيرها، غزير الكتابة وفي مجالات متنوعة بالعربية وغيرها، إذا تحدث أجاد الحديث، فهو أقرب للموسوعة منه للتخصص.
أما عن سلوكه فهو نتاج تربية عائلة متدينة، تعرف الحلال والحرام، وتحسب لله ألف حساب، تربى على قيم وأخلاق الدين البسيط السمح، لم يكن فضاً ولا فجاً ولا شرساً ولا قبيحاً، يميل إلى اللطافة والسلامة، نظيف وأنيق في مظهره وملبسه مع بساطته، غير مسرف ولا مقتر، غير شره ولا نهم، يرضى بأقل القليل زهداً وقناعة، يقبل على الناس يجاملهم في أفراحهم وأحزانهم، ودود لأهله وجماعته.
من ذكريات حياة مصر، كان الدكتور أحمد يملك وهو في القاهرة دراجة نارية (فزبة) من نوع بطة، وكنت طوال فترة إقامتي معهم رفيقه فوق هذه الفزبة نتنقل بعد صلاة المغرب بين أحياء القاهرة لحضور مهرجانات الإخوان المسلمين وندواتهم، يوماً في حدائق القبة، ومرة في البساتين، ومرة في بولاق وأخرى في السيدة زينب، ومرة في باب الخلق، ولا نعود للبيت إلا آخر الليل.
هذا هو الدكتور أحمد يوسف، تربي على يد الجيل الأول للإخوان المسلمين، ثم كان من جيل المؤسسين للحركة في قطاع غزة، من الشخصيات القليلة والنادرة على مستوى التنظيم والجماعة الذي يملك رؤية فكرية متكاملة ومتناسقة ومتناغمة، لم يكن في يوم من الأيام صاحب مطامع قيادية أو رغبة في زعامة، همه كهم القلة من الأوائل نجاح الفكرة وبلوغ الغاية، وكونه من عائلة ميسورة الحال، حال بينه وبين الرغبة في المال، بل هو ممن ينفق من ماله الخاص على العمل وفي الصالح العام.
ولأن الرجل صاحب فكر وثقافة مستقلة جعله ذلك متميزاً عن غيره، وأهم شيء عدم تبعيته لأحد، فهو صاحب رؤية مستقلة، وصاحب تجربة غنية لا تجد لها مثيلاً على مستوى الحركة كلها، في الداخل والخارج، فقد سمحت له إقامته في أمريكا أن يكون قريباً من صناعة القرار على مستوى العالم بأسره، وخصوصاً العربي والإسلامي، التقى بالكثير من ملوك ورؤساء وقيادات وزعامات العالم، سافر كثيراً وتنقل بين كثير من البلدان، تدخل بشكل رسمي وأحياناً بشكل شخصي في كثير من النزاعات الإقليمية والعربية، ودخل وسيطاً في حل مشاكل داخلية لبعض الدول.
كان الأخ د. أحمد ناشطاً بارزاً على مستوى الجاليات العربية والإسلامية في أمريكا، وقد تقلد مناصب عدة، عمل في الصحافة العربية والأجنبية مما أمكنه أن يوصل وجهة النظر الصحيحة للغرب، شارك في ندوات ولقاءات فكرية وثقافية من خلال وسائل الإعلام الغربية، عمل على دعم القضية الفلسطينية وبشكل قوي، أوجد علاقات طيبة مع منظمات ومؤسسات من كل ما أمكن الوصول إليه دعماً للقضية، كان صورة جميلة وصادقة للفلسطيني في بلاد الغربة، حركة متواصلة لا يعرف الكلل ولا الملل، بنى علاقات قوية مع الكثير من الرجال ذات النفوذ، انعكس ذلك فيما بعد على نجاح عمله في وزارة الخارجية في الحكومة العاشرة وما تلاها.
تميز د. أحمد بأنه رجل وطني وحدوي، استوعب الوطن كله في عقله وسلوكه ووجدانه، يرى أن الوطن يستوعب الجميع، ولا يمكن إقصاء طرف على حساب طرف آخر، ومن هنا يحرص على بناء علاقات طيبة مع الكل الفلسطيني، ولأنه صاحب نظرة مختلفة استطاع أن يستوعب الآخرين وأن يقبلهم على علاتهم، وبالتالي هو على تواصل مع من يرجى نفعهم.
من الهموم الشاغلة للأخ د. أحمد يوسف قضية قبول الآخر وفهمه، والمقصود بالآخر هو غيرك ممن هم على نفس الساحة، قبول حماس لفتح، وقبول فتح لحماس، وهكذا بقية التنظيمات والجماعات، ولأن فكر الدكتور وثقافته تسمح له بذلك جعلته مثار نقد وانتقاد من هنا وهناك، فقد تربى كثير من أبناء التنظيمات على الانغلاق عن الآخر، والنظر للآخر نظرة شك وريبة ودونية، لدرجة أن هذه التربية تتجسد على أرض الواقع خلافات وصراعات، وطبعاً العدو يغذي هذه الثقافة بزيادة الفرقة والخلاف.
ولأن د. أحمد صاحب خبرة وتجربة عريضة، وصاحب اطلاع جيد على تاريخ الحركات الاستقلالية والمقاومة، ورجل ذو معرفة وثقافة وعلاقات جيدة هنا وهناك، كل ذلك جعل له نظرة مستقلة في مجريات الأحداث، يفكر ويحلل ويستنتج، وهذا الأمر لم نتعود عليه في تنظيماتنا، تعودنا السمع والطاعة، وتلقي المعلومة من مصدرها نقبلها وليس لنا مناقشتها، ولأن الرجل شغوف بالكتابة يكتب كل ما يجول في خاطره، وقد يكون بعض ما يكتب ذات صدى لبعض الأحداث الموجودة أو المتوقعة، فتكثر التفسيرات والتحليلات والتوقعات من قبل الأطراف جميعاً، مثل هذا لا يروق أحياناً للمنغلقين فيعتبرون ذلك تدخلاً في عمل التنظيم أو من قِبل المزاودة عليه لفرض رؤية شخصية ما، وهذا ما يحدث وحدث مع الدكتور في أكثر من مرة.
يعتبر د. أحمد من قيادات الصف الأول لتنظيم حماس، بالإضافة لكونه من رجالات الإخوان المسلمين في فلسطين، وهذا زاد من ثقل الرجل وزنه في تقرير سياسات التنظيم ورسمها، داخلياً وخارجياً، وكان المسؤول عن بعض الملفات المهمة في العلاقات الدولية للتنظيم، ولكن لأن الرجل رجل عمل وليس رجل إعلام ربما لم ينل من الشهرة المحلية كغيره ممن يظهرون على شاشات الفضائيات ليل نهار ممن هم أقل في الرتبة التنظيمية، والعلم والتأثير، والعلاقات.
كذلك انشغال الدكتور في الكتابة والبحث وعقد الندوات على مستوى الوطن، وخارجه، واستقبال الضيوف والوفود القادمة وعقد المباحثات والاتفاقيات معهم، كل ذات قلل من حظ الرجل في التواصل الجماهيري مع أبناء حماس، والقاعدة الجماهيرية، بل للأسف وقع في ذهن هذه القاعدة أن الدكتور يتعالى في علاقاته معها، مستغنياً بعلاقاته مع الكبار وخصوصاً خارج التنظيم، وبلا شك هناك من لعب على هذا الوتر من توتير العلاقة بين الدكتور والقاعدة الجماهيرية لمصالح شخصية، وما نتابعه من تعليقات لبعض شباب التنظيم على منشورات الدكتور ومقالاته ومداخلاته ولقاءاته الصحفية، أو ندواته ومؤتمراته خير شاهد، تتمحور هذه الردود ما بين طعن أو تطاول أو استهزاء أو تشكيك أو تخوين، وغالبيتها تكون من الشباب صغار السن الذين لا يعرفون إلا القليل عن تاريخ التنظيم وأهم محطات نشأته وتكوينه، والشخصيات التي كان لها الدور الباز في صناعته واستمرارية بقائه، في اللحظة نفسها نجد القبول لطروحات الدكتور من الشخصيات المتوازنة والعارفة بمجريات الأحداث، ولقد شكلت بعض كتب الدكتور كثيراً من أجواء التناقضات في الساحة وخصوصاً داخل التنظيم وبين قواعده الشبابية، وكان أخرها كتابه عن ياسر عرفات.
لا يستطيع أحد أياً كان أن ينكر أو يقلل من مكانة د. أحمد لا على مستوى التنظيم، ولا على مستوى الساحة الفلسطينية عامة، ولي أن أقول ولا على المستوى العربي والإقليمي والدولي، فهو من الشخصيات المتوازنة في التفكير والرؤية والعلاقة، فرؤيته للوطن أنه وطن الجميع وعلى الجميع أن يوجد أسلوب للتعايش دون تجاوز طرف لآخر، كذلك هو يحرص على بناء علاقات جيدة وقوية مع كل الأطراف والطيف الفلسطيني، مما جعل البعض يتهمه بأنه يقوم بعملية تسويق وتلميع لنفسه لعله يجد له مكاناً في مستقبل الأيام، والدكتور في حقيقة الأمر ليس بحاجة لذلك.
ولقد آلمني كثيراً ما يُثار حول الدكتور هذه الأيام من تصريحات ومنشورات على صفحات التواصل الاجتماعي، ومحاولة البعض من أصحاب النوايا المريضة النيل من الرجل، والتقليل من مكانته التاريخية والحركية والسياسية والعلمية. والحق أن هذا يزيد في رصيد الرجل، ولن ينتقص من قدره ومكانته شيئاً.
إن د. أحمد يوسف يمثل قامة بوزن الوطن كله، وكل ما له علاقة به يدل على ذلك، فتاريخ الرجل من النشأة حتى الآن تاريخ ناصع مشرف، كله عمل وعطاء وإخلاص، وفاء الرجل لجماعته وتنظيمه جعله يترك الحياة في أمريكا ملبياً نداء الوطن، معرضاً نفسه للمتاعب ومشاركاً أبناء وطنه همومهم وحياتهم، ومنزلة الرجل عند الأطراف كلها تدل على مكانته، والرجل يحرص كل الحرص أن يبقى تحت مظلة التنظيم لا يخرج عنه أو عليه، ولو أنه كما يُشيع أصحاب المصالح أن الرجل يبحث عن مكان، لو كان الرجل كذلك لوجد الأبواب كلها مفتوحة أمامه.
إن الرجل من الإخلاص بمكان لا يرتقي ولا يصل إليه الكثيرون، والرجل لا ينقصه شيء، فهو اسم لامع في عالم الفكر والثقافة والصحافة والسياسة والعلم والإدارة والعلاقات العامة، أينما ذهب يجد الاحترام والتقدير من كبار القوم وسادتهم، علاقته بقيادات التنظيم والتنظيمات الأخرى فوق الممتازة، وهو حاضر في كل نشاط يخص الوطن والقضية، لا يعيش في برج عاجي يعزل نفسه عن الناس، يلتقي بهم من خلال لقاءات بيت الحكمة وندواتها، والذي هو بيت لكل الأصوات الحرة والمخلصة، على مستوى ساحة الوطن كله.
هذا هو د. أحمد يوسف الذي عرفته، والذي يربطني به تاريخ طويل من الود والمحبة والاحترام، ليس بيني وبينه أي مصلحة مادية أو منفعية، ربطت بيننا من أيامنا الأول ساحات المساجد وحلقاتها، ثم فيما بعد ربط بيننا عن بعد العمل لهذا الدين ولهذا الوطن ولهذه القضية، نلتقي بين الفينة والأخرى فيكون العناق وحرارة المودة، تعلو ابتساماتنا على الوجوه وأحيانا تتعالى الضحكات.
إن كان للوطن أن يفخر ويتباهى فبالدكتور أحمد وأمثاله؛ لأن الزمن والأمهات قليلاً ما يجُدن بمثل د. أحمد أدباً وإخلاصاً وعطاءً.
كل التحية لك يا أيها الصديق المخلص الوفيِّ، داعياً الله أن يحفظك ذخراً للدين والوطن.