قال لي وفي عينيه نظرة غامضة تنكر كلماته: "أنا لا أخشى الموت – فقط أرتعب من المرض".. كان هذا في لقاء وحيد بالفنان نور الشريف، ولم يكن المرض قد تمكّن منه بعد، فقط كان يعيش وحدةً بدت ملامحها الحزينة في منزله بالطابق الأرضي من مبنى قديم بالمهندسين، بعد أن انفصل عن بوسي، زوجته ورفيقة عمره.
يومها، بعد أن أهديته نسخة فيلم أميركي بعنوان "تعرّف بجو بلاك" - تدور أحداثه حول قصة حب بين امرأة والموت - سألته لماذا يحب الحياة؟ فباح وحكى وتذكّر وضحك وبكى وسجلتُ تباريحه واحتفظت ببوحٍ وجدته يليق بذكرى عام على غيابه.
"أحب التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة الحقيقية، وتنحت ملامحنا"، قال في براءة. سألته عن العائلة والبنات والحب والحلم فباح بتفاصيل كثيرة تركتها بعفوية الحكي؛ لأن الأسئلة أحياناً لا تنبت سوى الشوك في القراءة، والإجابات كلما ابتعدت عن التحقيق صارت بوحاً بين النجم والقارئ، هكذا تصورت الحوار، وهكذا تركته بين نور الشريف وقرائه المحبين، وهكذا أعيد نشر تباريح الوجد والحلم المعلق في ذكرى فنان رحل قبل عام وفي رأسه حلم ما.
تفاصيل لا تضيع
"الحياة هي التي تصنعنا ونحن نصنعها. الحياة الحقيقية هي تلك التفاصيل الصغيرة التي نراها ونشهدها فتصنعنا وتنحت ملامح شخصياتنا.. ما عدا ذلك مجرد حكم ودروس ومواعظ نسمعها من الآباء والمدرسين. ويحزنني كثيراً ضياع تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة الحقيقية".
ابن طولون والسيدة
مشاهد من سينما الواقع التي يلعب فيها دور البطولة شوارع مصر وحاراتها وناسها شكلتني وجدانياً.. لا أنسى تلك المشاهد التي تفتحت عيني عليها ما بين حي ابن طولون وحي السيدة زينب، حيث انطلقت صرختي الأولى وليداً، وزَفّ بكائي لأهلي نبأ وصولي إلى الدنيا، في 7 حارة الصايغ. وفي مكان لا يبعد عن بيتنا أكثر من 60 متراً كان يقام مولد أحد الأولياء واسمه البراموني، وفيه كان الناس يأتون بالفوانيس ويضيئون داخلها الشموع، والأعلام الخضراء والدفوف.. ومدد يا براموني مدد.
برودة حجر فسقية صحن مسجد ابن طولون منحتني لحظات السعادة الأولى التي أدركتها طفلاً يذهب إلى الجامع بصحبة عمه الكبير (إسماعيل) لصلاة الجمعة.
لحظة الخوف ولّدت في صدري صبياً يرقب باستمتاع شقاوة الصبية، عملية سرقة كهرباء تقليدية، كانت تنتشر أيامها.. وكان الصبي "حليم" خبير سرقة الكهرباء في المنطقة يقفز بين أسطح المنازل ليوصل الكهرباء لمن يريد بطريقة غير مشروعة اللمبة بعشرة قروش، فلم تكن الكهرباء في كل بيت بعد وكانت نوعاً من الرفاهية.
وذات يوم جاءت إلى المنطقة حملة تفتيش الرقابة على الكهرباء فأسرع حليم إلى الأسطح ليفصل الكهرباء لتصعقه ويسقط صريعاً.
ذكريات عبرت
مولد السيدة نفيسة كان كرنفالاً.. كانت أول مرة في حياتي أشاهد تمثيلاً في الشارع، كان هناك يوم تعرض فيه الاسكتشات في المولد.. على عربات "كارو" ضخمة جداً.
المولد وآلاف مؤلفة من البشر
كنا نلعب "الكرة الشراب" في الحواري ونقيم لها المسابقات، لا أنسى أنه عند جامع الرفاعي في القلعة كانت تقام في ساحة الجامع مباريات يشارك فيها لاعبون كبار.. سعيد أبوالهول وغيره، وعندما انتقلنا إلى السيدة زينب كانت غرفة "كابتن يكن"، نجم الزمالك في السبعينات، بجوار غرفتي، وقد التحقت بأشبال نادي الزمالك بسبب ذلك. لكنني لم أواصل اللعب فقد خطفتني السينما.
**يزعجني اختفاء كثير من التقاليد القديمة في مجتمعنا.. زمان في السيدة زينب كانت العادة أن الأكلات الصعبة عندما يطبخها بيت لابد أن يتذوقها الجيران.. وعيب أن ترد الصحون فارغة! وللأسف اختفى هذا حتى من المناطق الشعبية.
وربما كان السبب هو التلفزيون، أخطر اختراع في العصر الحديث، فالتلفزيون وبرامجه أرادوا صنع مواطن "ناصح"، فانهالوا عليه بالنصائح: اترك العادات القديمة.
التلفزيون في نظري من أكثر الوسائل تأثيراً في السلوك الإنساني، وقد أدى إلى عزل الناس عن بعضهم بعضاً.
زمان لم تكن البيوت مكيفة الهواء فكان الأولاد والبنات الصغار يخرجون إلى الحارة أو الشارع "ليشموا الهواء"، أما اليوم فإن الاختراعات الحديثة حرمتهم هذا.
في السيدة زينب زمان كانت السيارة لو تعطلت مني أتركها في أي مكان وأترك المفاتيح مع أقرب شخص وأعود إلى البيت لأجدها قد تم إصلاحها وعادت إليّ سالمة وبعدها أدفع الحساب.
عشت في جلباب عمي
شعور فظيع عشته عندما أخبروني وأنا في الصف الأول الابتدائي أن اسمي محمد جابر – وليس نور – وأن عمي إسماعيل الذي كنت أنام في حضنه في سريره وأحب رائحة عرقه، ليس والدي.. فجأة أحسست أنه ليس بإمكاني أن أطلب شيئاً، ليس من حقي، ذلك الشعور الطبيعي الممتع والمطمئن الذي يحسه الأطفال مع آبائهم.. أن بإمكانهم أن يطلبوا أي شيء ولو حتى "برذالة"! هذا الشعور افتقدته رغم أن عمي لم يكن يبخل عليّ بشيء، بل إنه طلق زوجته من أجلي أنا وشقيقتي. فقد رأى والدي في المنام يسلمه زوجاً من الحمام ويوصيه أن يرعاهما، فأدرك أنها ليست إشارة بل وصية حقيقية وقرر أن يتكفل بنا وضحى بزوجته عندما وجد منها معارضة لما قرره بشأننا.. وأنا مدين له بكل شيء في حياتي.
الموت في العشرينات
وفاة والدي وهو في السادسة والعشرين من عمره، ثم وفاة أحد أعمامي في مثل هذا العمر، ومن بعده ابن عم لي، جعلني أفكر أنها ربما كانت إشارة من الله سبحانه وتعالى. لذلك أجلت زواجي لسنوات فلم أتزوج بوسي إلا وعمري 27 سنة ومن بعدها أجلت الإنجاب أيضاً خوفاً من أن ألاقي مصير والدي وأقاربه. لكني الآن لا أخاف الموت فالموت رحمة لو جاء والمرء واقف على قدميه، ولا يحتاج لأحد.
هل فطر الإنسان على الشر؟
أبشع شيء في الوجود هو الغدر، غدر البشر عموماً، خصوصاً من الأصدقاء. أحاول دائماً أن أنسى الغدر، ربما لهذا أقع في الأخطاء نفسها مرة أخرى. وبدأت أقتنع بأن هذا قدري. أن الله يريدني أن ألعب هذا الدور: أمد يدي بالمساعدة لأناس لا أنتظر منهم جزاء ولا شكوراً فإذا بي أتلقى منهم الطعنات الغادرة!
أحيانا أفكر أن الإنسان فُطر على الشر وليس الخير.. بمعنى أن الشر هو الطبيعي والخير هو الاستثناء الذي يتطلب مجهوداً. ولو كان البشر قد جبلوا على الخير لما كانت هناك ضرورة للرسالات السماوية. وأستدل بقوله تعالى: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها". فجاء الفجور قبل التقوى، وإلا فليفسر لي أحد ما فعله قابيل مع هابيل، أو ما فعله إخوة يوسف معه.
أبو البنات
حرصت على تربية أولادي على عدم الخوف، فالخوف يمكن أن يقود إلى أبشع الكوارث. قد يقود للخطأ وللكذب. لم يضربني أي من أعمامي، وهذا ما فعلته مع أولادي لم أمد يدي على أي منهما. في صغري، كانت نظرة واحدة من عمي إسماعيل كافية، وهذا هو المنهج الذي اعتمدته في التربية أنا وبوسي.
ولكن أعمامي مارسوا عليّ ضغوطا كبيرة كي لا ألتحق بقسم التمثيل فاضطررت للكذب عليهم وقلت إني في قسم الديكور. وعندما علموا بالحقيقة غضبوا غضباً شديداً، وهذا ما حرصت على ألا أفعله مع أولادي. فقد تركت لابنتيّ حرية الاختيار والشعور بالمسؤولية، ولم أقهرهما، فاختارت واحدة منهما المسرح والأخرى التلفزيون.
أحب "خلفة" البنات جداً، وعندما رزقت بسارة بعد 4 سنوات من الزواج وتأجيل الإنجاب سألوني ألم تكن تتمنى الولد قلت لا، ثم جاءت مي فسئلت نفس السؤال وأجبت أبداً. ربما يكون دافع البعض للرغبة في إنجاب الولد هو أن يبقى اسم العائلة، لكن هذا متحقق للفنان، فسواء أنجب أو لم ينجب تبقى ذكراه من خلال أعماله.
مهنة القلق
الحياة ليست نزهة.. بل معاناة على كل المستويات. فالفقير له معاناته والغني أيضاً!
ومهنتنا فيها القلق مضاعف. دائماً داخلك شيء تريد أن تقدمه للناس لكنك لا تعرف كيف سيتقبله الناس وهل سيدركونه وهل سيعجبهم؟! فعندما قدمت مسلسل الأديب طه حسين الذي يقوم على فكرة فلسفية بحتة، هل الأفضل أن تظلم أو أن تكذب؟ وقد يسارع المرء بالإجابة بأن الكذب أهون ليكتشف أنه عندما يكذب يظلم، كان صديقي العزيز صلاح السعدني متخوفاً من عدم نجاح المسلسل، لكنه نجح نجاحاً مدوياً واستقبلت به استقبالاً رائعاً في الدول العربية.
عشت لحظات سعادة كثيرة.. وللسعادة مستويات منها السعادة المادية مثل أن ترتبط بالإنسان الذي تحبه، وللأسف الشديد يقلل الملل والاعتياد من هذه السعادة.
ولو لم يصادف الإنسان الحب فليس هذا معناه أنه لن يعرف السعادة بل تكون السعادة بالنسبة له هي ذلك الشعور الرائع بتحقيق الذات.. أن تكتب بيتاً من الشعر لم يكتبه أحد قبلك..أن يبتكر مدير التصوير أسلوباً في الإضاءة لم يعرفه غيره سعادة لا تقارن.
ومن لحظات السعادة في حياتي فيلم "مع سبق الإصرار".. اخترت دوراً عبارة عن 33 مشهداً لكني كنت أعرف ما الذي سأصنعه فيها بالضبط. وكانت تلك من أوائل الأدوار التي يظهر فيها فتى الشاشة الأول في شكل قبيح غير وسيم.
حصلت سنتها على كل جوائز التمثيل في مصر عن دوري فيه.. ودوري في "عمر بن عبدالعزيز" الذي غيّر نظرة الجمهور للأعمال الدينية والناطقة بالعربية الفصحى.. و"حدوتة مصرية" مع يوسف شاهين.
وحديث في الحب
رأيت بوسي وهي في زيّ المدرسة الثانوية أمام باب مبنى الإذاعة والتلفزيون حيث كانت تمثل في مسلسل الأطفال بندق ولوزة، فقلت سأتزوج هذه الفتاة.. هكذا. وسعيت أن أجعلها تشارك في مسلسل "القاهرة والناس" لكي أقترب منها وأتعرف إليها وهي لم تكن تشعر بي.. لا أعرف ما الذي شدني إليها.. شرارة ربانية كالبرق.. حقيقة لا أعرف.
الحب لا يموت ولكن تتغير طباعه وملامحه.. لكن ما قد يقضي عليه هو الإحساس بالملكية والضمان. وأحياناً ما يكون الخطر الذي يهدد الحب من خارجه من غيرة المحيطين بك وشرهم الذي قد يتسلل إلى بيتك فيفسد الحب.. لذلك أحياناً يكون أخطر شيء في الوجود الأصدقاء إن لم تحسن اختيارهم.
عانيت كثيراً من غدر الأصدقاء للأسف وحاولت أن أتغير فلم أستطع.. فهجرت الأصدقاء، أو معظمهم.
وأتفهم لماذا نظم برنارد شو حفلاً جمع فيه أصدقاءه وقال لهم: أصدقائي الأعزاء.. ليس هناك أصدقاء.
في منطقة الحلم
حلمي منذ التحقت بالمعهد وعملت بالفن أن أبني لي مسرحاً ويكون فوقه بيتي فلا أبرح بل أرقبه طوال الوقت من أعلى عندما لا أكون فيه.. لكني لم أستطع أن أحققه فكلما جمعت له المال ارتفعت أسعار الأراضي فزاد الحلم ابتعاداً ولفّه ضباب المستحيل.
………...
نور الشريف
…………
اسمه محمد جابر محمد عبدالله، وُلد في أبريل/نيسان 1946، ممثل مصري، اشتهر بتقديم العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، بدأ حياته الفنية عام 1967 عقب تخرجه في المعهد العالي للفنون المسرحية وكان الأول على دفعته، توفي في أغسطس/آب 2015 بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 69 عاماً. قدم أكثر من 100 فيلم، وله 7 أفلام ضمن قائمة أفضل 100 فيلم قدمتها السينما المصرية.