خبر : الإنتفاضة والجوامع والإنقلاب ...د. عبدالله السعافين

الأحد 17 يوليو 2016 06:36 م / بتوقيت القدس +2GMT
الإنتفاضة والجوامع والإنقلاب ...د. عبدالله السعافين



 
الإنتفاضة التي وصفت بها القنصلية الأمريكية في أنقرة محاولة الإنقلاب العسكرية الفاشلة في تركيا، هو وصف ينطبق بشكل أدق وأكثر إنصافاً على رد فعل الشارع على هذا المحاولة، وليس على المحاولة ذاتها. 
تابعنا وحبسنا أنفاسنا ترقباً لتطورات الأحداث منذ ورود خبر عاجل من رويترز مساء يوم الخامس عشر من تموز لم يتوقف عنده الكثيرون عن وجود عسكري هام في كل من اسطمبول وأنقرة. لكن ما يهمنا في هذا المقال هو المنحى الذي أخذته الأحداث بعد ظهور الرئيس التركي متحدثاً لقناة خبر التركية عبر هاتفه النقال وعبر خدمة فيس تايم التي يوفرها الهاتف. لقد كانت تلك المكالمة هي نقطة التحول الأبرز في مسار الأحداث وفيها تمكن الآي فون من هزيمة الدبابات كما عبر الصحفي البريطاني ديفيد هيرست.
 المقصود طبعاً النداء الذي وجهه الرئيس إلى شعبه داعياً إلى نزولهم إلى الشوارع وإحباط الإنقلاب.
ما جرى بعد هذه المكالمة/النداء كان انتفاضة مكتملة التفاصيل والأوصاف. جموع غاضبة من الجماهير يطغى عليها سن الشباب والذكور منهم بالذات، ينزلون إلى الشوارع رغم إذاعة الإنقلابيين أمراً بمنع التجول. 
عادت لي وأنا أشاهد وأسمع ما يحدث على شاشة التلفزيون وعبر الإنترنت مشاهد الإنتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى أواخر عام 1987، حين تدفق الناس من كل الأعمار إلى الشوارع برسالة واحدة موحدة (في البداية على الأقل) هي رفض الإحتلال والرغبة في التخلص منه. في أيامها الأولى، كانت الجوامع ومآذنها تلعب بنجاعة دور وسائل الإعلام والتعبئة السياسية الجماهيرية. وهذا ما قامت به الجوامع في اسطمبول وغازي عنتاب وإزمير وغيرها من المدن التركية ليلة إفشال الإنقلاب. 
لقد رفع الأذان عدة مرات قبل موعد الفجر بساعات...ورددت المآذن نداءات أشاعت في الأجواء الثقة التي يحتاجها الناس في تلك اللحظات، وعبأت الجموع نفسياً ضد ما يدور، موحية للمرة ألولى ربما في تاريخ تركيا بأن هوية الناس وتراثهم الديني في خطر!
كانت الجوامع في الاسابيع الأولى للإنتفاضة الفلسطينية تعلن للناس أسباب التظاهر وتحثهم على المشاركة في تشييع الشهداء، وتوجه المنتفضين إلى التجمهر في أماكن محددة، أو مجرد بث الأناشيد الوطنية المثقلة بالمضامين الدينية.  
فوكس نيوز الناطقة باسم اليمين الصهيوني الأمريكي التي كانت سريعة في الإحتفال بنجاح الإنقلاب والإطاحة بأردوغان كما فعلت محطات وفضائيات ناطقة بالعربية في المنطقة، قالت إن الإنقلاب كان بسبب جهود أردوغان في "أسلمة المجتمع التركي"، متناسية أن 99% من الأتراك مسلمون أصلاً. 
لكن واقع الأمر هو أن الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين لم يخرجوا بدافع ديني ولا حتى بدافع الولاء للرئيس التركي وحده، وإنما في الجوهر رفضاً لمبدأ العودة إلى الوراء، وللحيلولة دون الوقوع من جديد في جحيم الإنقلابات العسكرية التي أضعفت البلاد وصادرت الحريات. لكن في أجواء بات مسموحاً فيها بالأذان، وباستخدام مكبرات الصوت، كان دور الجوامع تعبوياً بامتياز، كما كانت في الإنتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. 
الشباب الذين خرجوا لم يخرجوا لإيقاد الشموع، ولم يخرجوا لتنفيذ اعتصامات تغلب عليها الرومانسية، وإنما لإحداث التغيير بأيديهم وأجسادهم. بلغت الجرأة بهم أن اعتلوا المدرعات، وضربوا الجنود، وأجبروهم على الإستسلام للشرطة وغيرها من قوى الأمن. بالطبع لم يكن الجنود في تلك المدرعات يعلمون ما يجري، وإنما على الأرجح ينفذون أوامر انتشار لا يعرفون مغزاها، والدليل على ذلك انهم لم يطلقوا النار على الناس باستثناء حالات نادرة، وكان استسلامهم سريعاً وسلسلاً.
 لكن الفكرة هنا هي الجرأة الكبيرة للمتظاهرين، الذين تمدد بعضهم أمام جنازير الدبابات، في مشهد يذكر بالطفل الفلسطيني فارس عودة الذي وقف أمام دبابة الميركافاه الإسرائيلية يرجمها بحجر من الطوب، هو كل ما اتسعت له يده الصغيرة.