رشدي الماضي* في البدء، من المهم أن نُسجّل أن رواية «مصائر..كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، تعيدنا الى نظرية «الفينومينولوجيا» الظاهراتيّة، التي تتمحور حول أهمية الوعي بالأشياء وبالشخصيات، بهدف اكتشافها في طبيعتها الأولى قبل أن تتسلل اليها تعقيدات المنطق. ومن الطبيعي أن يقودنا هذا الى ما يُعْرف بفينومينولوجيا الإدراك الحِسّي، كوسيلة للتعاطي مع هذه الرواية، ما يمنحنا فهمًا لتجربة المؤلف الذاتية في الإبداع الأدبي، ما يزيد العمل الأدبي ثراءً ودلالة هامّين أيضا، كما ويكسب نصّ الرواية الذي يقوم على «وصف» ما «يظهر» في علاقته بأنا الكاتب (الراوي)، مصداقية وشرعية خاصتين. والمعروف أنّ هذا العنصر يرفع من شأن النصّ الأدبي للراوي (المؤلف)، بسبب صدقه وعفويته المبنيين على تلامس تجربته مع الشخصيات، مِا يوفّر، أيضا، تفسيرًا واضحًا لواقع الرواية المعيش. وهو ما اعتبره ادموند هوسرل، الألماني، الثّيمة «المركز» للفينومينولوجيا، خاصّة وأنّه نادى بضرورة التركيز على وصف الكاتب الذاتي للأشياء – الأماكن، والشخصيات وغيرهما، كما تتمظهر لنا في توجّهنا اليها. وهو العنصر الذي يُكْسب نص الرواية السَّردي حركةً وديناميكيةً.
ويجعل كل شخصية من شخصيات الرواية، جزءًا من «كلّ» قد تَمَّ وصفهُ من خلال توضيح الطبيعة المتشابكة لعلاقة «الجزء» بـ»الكلّ»، مبنية على وجهة نظر مُحدّدة، آخذين بعين الاعتبار، أننا نعيش في بيئة تضمّ آخرين، وهذا ما يحوّل كل واحد منا الى وجود اجتماعي متجسّد. لا يخفى على المتلقي، أنّ القضايا التي تحتلّ مساحة رواية «مصائر»، ذات سِمات محددة، بحسب مخزونِهِ الشعوري والثقافي الذاتي والجماعي معًا. وهو بذلك يتماهى مع رؤية مرلوبونتي، بأنّنا نفكّر بكلماتنا وبأيدينا وبقلمنا الذي يرسم الأماكن والشّخصيّات، من خلال معرفة المدهون لدلالات موضوع روايته، «المولود» من رحم تجربته الذاتية ووجهة نظره الخاصة. هكذا جاءَت صورهُ متكاملة، تأثر كلّ جزء (مكان/زمان) فيها، بموقعهِ في الصورة الكاملة. ما جعل المدهون يبني عملاً فنّيًا، يقوم على الإيماءات والإشارات، لكي نفهمها ونحيا معها، من خلال أقوال وكلمات الشخصيات بالإضافة الى أصواتها وألوانها، متتبّعين لمعانيها الخفيّة المضْمرة.
ولأنّ فلسطين وإسرائيل، هما المحيط الطبيعي والمجال والفضاء لأفكارالكاتب وإدراكاتهِ الحسيّة، فقد نجح في جعل المتلقي يفهم نصّ روايته ويدركه، كعمل سردي فنّي متكامل. وقد راعى المؤلف أن لا يُبقي النّص موجودًا كفكرة منفصلة أو منعزلة عن السَّرد، وجعله ينشأ من خلال إدراكنا للسّرد ذاته. وذلك لمعرفته الرائية، أنَّ ما يُكتب وما يُصوّر في السَّرد الروائي من أفعال الشّخصيات وعلاقاتها المتشابكة، يجب أن يؤدي بأسلوب السَّرد الى جعلنا نفهم سلوك كل شخصية في الحياة الواقعية، انطلاقًا من حقيقة أنّ السَّرد والحياة الواقعية، يتّصفان ببيئة متشابهة. فجاءَ عمله، فيضانًا وهبه جمالية روائية متفرّدة داخل النَّسَق السَّردي، جاعلاً ما يُفكّر فيه وما يبتغي أن يُعَبّر عنه ويقوله روائيًا، نابعًا من ذاتهِ ومُعبّرًا عنها.
ولأنّي لا أشكّ في أن المدهون يعرف أنّ «الحياة استعارة لغوية»، انسحابًا على ما أكّدهُ نيتشه، بأنّ الحقيقة «حشد متدافع من الاستعارات»، فقد تعمَّد عن وعي ودراية، أن تكون «مصائر»، مفتوحة على أكثر من تأويل، كما قال الخليفة علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، حين تحدّث عن القرآن الكريم: «حَمّال أوْجه». فجاءَت « مصائر» نصًّا سرديًا فنيًا مفتوحًا على أكثر من تأويل. حيث تتساكن فيه، مجموعة من المدلولات في قلبِ الدّال الواحد. وهذا ما يُحتّم على القارئ، بذل طاقته التأويليّة أثناء قراءَته للرواية. وهو ما دعا إليه ألبرتو ايكو الإيطالي، في كتابه «القارئ في الحكاية»، حين طالَبهُ بأنْ يتعاون مع النّص، لأنّ النَّصْ ليس بإمكانِه أن يقول كل شيء.
وفي هذا، بلورة لجماليات التأويل. وهذا ما اعتمده المدهون، ابتداء من عتبة (عنوان) روايته، الذي جاء مُضمّخًا بشيء من عناصر «الالتباس»، لكن، البنّاء والإيجابي على جميع الأصعدة. العنوان هو عتية وثُريا مكوّنة من أربعة أسماء، (مصائر كونشرتو الهولوكوست والنّكبة)، خالية من اي فعل البتَّة. والجمل الخالية من الأفعال، تأخذ (لغةً)، طابع الحقائق الصّارمة المنفصلة عن عرضية الحدث، التي تطرأ على الأحداث، وتمنع، لخلوّها من الفعل، حركة الشيء في الزمان، وترصد الصيرورة التي تعرض للأسماء في حدّ ذاتها. ولا أماري إن أضفتُ، بأنّ اللغة تعيد انتاج الأشياء وتعيد، أيضًا، الإحساس بها. وهذا ما أراده المدهون، آخذًا بما ذهبت إليه كاثرين بيلي، في حديثها عن ضرورة التعامل الواعي مع ما يُمليهِ وعي القارئ، ليجيد، كما أراد ايكو: جولاته الاستدلاليّة في غابة النّصّ، خاصة وأن النّص، كل نصّ، يُكتب ليخلَّد من خلال القارئ، لكونه هو المروي والمسرود له والمكتوب والمُرسل اليه. من الضّروري أن نشير هنا، الى تعمّد الكاتب حذف أل التعريف من الاسم «مصائر»، ليبقى فكرة ممنوعة من الصرف، ليدخل مع القارئ النَّوعي، الذي يختزن خبرات الوعي الناقد بكفاءَة، في ميثاق تواصلي، أساسه القراءَة المغايرة التي تساهم في إعادة تشكيل أفق الوعي لديه.
وهذا ما توخّاهُ المدهون في جمعهِ بين الاسمين: «الهولوكوست» و»النّكبة»، حين «وحّد» بينهما، إسميًا، جاعلاً إيقاعهما «قطعة» موسيقية، مؤلمة وحزينة وجنائزية، يؤديها عازفٍ واحد بمصاحبة اوركسترا، أمام متلقين منتجين، واعين الى أقصى مساحات الوعي، بما يؤديه الخطاب الروائي، مع التأكيد بأن المؤلف غارق حتى النّخاع بقضية شعبه الفلسطيني. أقول هذا، مدركا ان العنوان عتبة مشاكسة ومشاغبة ومستفزّة، لما تثيرهُ من جَدَل حول ما تعنيه من دلالات على مُختلف المستويات، ولما فيها من جَلْد للماضي والحاضر بسياط موجعة. وهو كعتبة، تُحلّق خارج النصوص الكلاسيكية للرواية، نعم، إنّها إشارة ذكيّة من المؤلف، أراد، من خلالها، أن يوسّع الفضاء الدلالي لعمله، ويحثُّ مُتَلقية أن يعتمد أفُقًا توقعيًا مغايرًا وبديلاً، رُبما لم يألفه بعد، بهدف جعله أن لا يُبْقي ذاكرته، خاصة التاريخية، «مجرّد نكِرة»، أو مستنقعًا راكدًا لا نبض فيه ولا حِراكَ. فهو-أي المؤلف- كان يعي، حين جمع بين الهولوكوست (المحرقة) والنكبة، مدى الحساسية الناتجة عن خَوضِهِ في هذه القضية الخاصة جدًا. لكنّهُ أراد دفع قرّائهِ الى التخلي عن التفكير النمطي، خلال تعاملهم مع أكثر المواضيع والقضايا حساسية.
أعترف بأنني أوافق على كون عنوان الرواية، يُحيل الى السِّياق التاريخي. ما جعل مأساة النكبة والهولوكوست، وما أثارته وتثيره من جدل، وكذلك ما تَعْنيهِ من دلالات موجعة عميقة، يشي لنا بأنّ التاريخ، في هذا المنتج الروائي المتميّز، لم يكن سوى قناع للواقع العربي الفلسطيني. لذلك، وكما ذهب بعض النُّقّاد، فإن استعادة المحرقة، عتبة العنوان، لم تكن غير خطاب لتشبيه بعض أحداث ومفاصل النكبة ممثّلة بشخصيات عرب الداخل». وهذا ما ساهم في توسيع الفضاء الدلالي للرواية، كما وشابَهَ بين الشخصيات المتخيلة والمرجعية فيها. رواية ثرية وبنظرة بانورامية إلى مَتْن الرواية، يظهر لنا مدى ثرائها بكل حركة من حركاتها، التي كلّما حرّكَتْها تُثير فيك هواجس الكتابة وتستفزّك. فهي غنيّة بمساحات هائلة من التَّخيّل والواقعيّة. وقد نجح الكاتب بصورة جليّة في هذا، حين وظّف الجلسات وملامح الفضاءات التي تردد عليها، مفتوحة أو مغلقة، والشخصيات التي التقى بها، ناهيك عن الوجوه التي مَرّت امامه هنا وهناك. كلُّ ذلك، إضافةً الى رسم جماليات المكان، المحدد المعالم والمتنوّع التضاريس، وذاكرة الزمان. فكانت المحصّلة، توافر عناصر البناء الروائي كافة فيها. وجعل الكاتب شخصياتها متكاملة الملامح، بينما تسير أحداثها بِتَصاعد فنّي، وجعل قصّها ذا حبكة درامية، مَكَّنَهُ على تقطيع الزمن المتصاعد للتَّعبير عن شفافيّة الزمن ودوره في فعل السَّرد. يشتمل الإطار العام للرواية، على أربع حركات. جاء كل منها، من حَرُكَ يحرُك ضدّ سكن، ويقال: «حرّك منّي الأمر»، أي اضطربت له، وفي هذا يبرز ذكاء المؤلف. نلمس هذا أيضا، في زمن الرواية، الذي أرادهُ المدهون مُتحرّكًا يطوف بين أزمنةٍ مختلفة. وجعل حكايتهُ وصوَرهُ وأحداثهُ، ذات مرجع تاريخي دقيق ومعلوم ما يجعل الشكل الأدبي خزّانًا لرؤية الكاتب، الذي أن يصوغ معنى تحوّلات تعيشها المجتمعات والأَفراد في علاقة بنيوية مع تحوّلات تاريخية. هذا بالإضافة الى جعل اللغة، تلعب دورًا وظيفيًّا مُهِمًا في عمليّة تشخيص هذه الرؤية، تكتنز تصوّرًا ما حول قضيته التي يتناولها نصُّهُ السردي بلغة إبداعيّة تواصليّة يوميّة، خاصة وأنّ روايته، تتعامل بصورة فنيّة رائعة مع اليومي والهامشي والاعتيادي، إضافةً الى محورها الرئيس. يضم الإطار العام للرواية ستَّ مدن لم يُقِم المؤلف في أيّ منها، كما باح بذلك في تقديمه لعمله، وكذلك يضمّ مدينة اوروبية وأخرى أميركية وثالثة كندية. يبدأ زياراته بمدينة عكا، جاعلا مكوثَهُ فيها، «كالدليل السياحي الدقيق»، حيث يتجوّل في معظم أزقّتها وحاراتها وأحيائها، كحارة الشّيخ والفاخورة، وحارة المعاليق، وحي الشّونه، وجامع الجزّار والسّوق الأبيض، وبرج الحديد، والميناء وحمام الباشا وشارع صلاح الدين وأسوار عكا وغير ذلك من أماكن المدينة.
يصاحب المؤلف في زيارته هذه، بطله وليد دهمان، وزوجته جولي. وهي انجليزية عكاوية، أتت الى المدينة حيث بيت جدها لأمها، الفلسطيني الأرمني، مانويل اردكيان، بهدف تنفيذ وصيّة والدتها إيفانا، التي كانت تتمزّق بين «عشقها» لعكا و»حبها» للندن: «أريد أن أدفن هنا وأن أدفن هناك.» ص34. وعبّرت عن موقفها من الآخر، اليهودي: «إذن امنحوني الفرصة لأن احجز لي مكانًا في الطابور (الذاهبين الى السماء) بحفنة من رماد، قبل أن تمتلئ السماء بالمستوطنين الذين يزاحمون الفلسطينيين في الدنيا، ويريدون الاستيلاء على حصصهم في الآخرة.» وفي هذا، يتطرّق المؤلف بصورة واضحة، لموضوع النكبة التي حلّت بأبناء شعبهِ الفلسطيني. ونلمسه أيضًا، في قول الشخصية التي استضافتهم، المشهورة باسم «فاطمة معارف» أو «ست معارف»، «التي تحفظ ملامح عكا وتفاصيلها أكثر من كتب التاريخ والجغرافيا، وتوزّع الحقائق التاريخية على السيّاح الأجانب مجّانًا، وتقول: «بتعطيهم معلومات صحيحة إِبلاش... أَحْسَن ما يشتروا الكذب من اليهود بمصاري» ص15و 16. طلب إيفانا أنْ تُدْفن في عكا، ولو رماد جثة، يُجَسّد موقفها الواضح من العودة.
وهو الموقف الذي يتبناه المؤلف من دون أدنى شك، وتعبّر عنه شخيصاته الرئيسة. ولنقرأ معًا مع وليد وهو يتجول وحده في عكا، ويمر من شارع صلاح الدين، يتوقف امام يافطة قماشية بيضاء، عاقت على زاوية محل «حلويات الناصرة» في الجهة اليسرى من الشارع، ويقرأ عليها بالعربية والانجليزية والعبرية: «من عكا مش طالعين» ص40. وتعبر عن الردّ الشّعبي على «شركة تطوير عكا» الاسرائيلية، التي استولت على 85% من البيوت الفلسطينية، وسعت الى «إغراء» السكان العرب بترك المدينة. فكانوا، وفقا لما رواه صاحب فندق «عكوتيل» لوليد: «الناس اللي وقفوا في وجوه الفرنساوية ماسكين حجارة عكا بأظافرهن» ص40. وقد حرص المدهون، على سرد أدَقّ التفاصيل، مع ذكر الأمكنة المحلية والخارجية في كل مدينة حلَّ فيها، وغمس في ذلك حبّ وعشق شخصياته لها. فهذه جولي، تتحسّس بأصابعها العشرة، حيطان البيوت والأماكن العامة والأثرية القديمة التي زارتها كمن تزور أماكن مقدّسة.واستنشقت روائح كل ما هو قديم في البلاد، وانتشت بها. بينما يتذكر وليد دهمان، زوجها، كيف استوقفته في يافا، «لتتذوّق ملوحة البحر.» ص53. تابع المؤلف، علاقة العشق هذه بين شخصياته والمكان بحرص وعمق شديدين. فحين قرّر وليد زيارة «عسقلان»، لم ينس ان يهاتف منها امه في غزة، يسألها عن البيت الذي شهد ولادته. بينما توصيه هي، التي غادرت مسقط الرأس وقت النكبة عام 1948: «ما تنساش تُعبر ع الجامع وتصلي ركعتين. الركعة في فلسطين بألف ركعة في الدار يمّة.» ص55. يتكرر هذا في وقوفه امام «الجامع الكبير» يتأمل ما تبقّى منه، وفي زيارته منزل للعائلة، صار بيتا لرومه العروسي، اليهودية اليمنية، بعد سقوط عسقلان. الذي يغادره قائلا بمرارة: «ودّعت بيتنا الذي كان بيتنا»ص61. ثم نسافر مع الكاتب، في قطار كلمات سردهِ الى يافا، لنلتقي «جنبن»، إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية. ونعرف أنّها تعيش مع زوجها باسم (شخصية رئيسة)، وكانا تزوّجا بعد تعارف عبر الانترنت. وفي السّياق، نلتقي عددا كبيرا من الشخصيات التي تلعب أدوارا مختلفة.
يطفو على السّطح بصورة واضحة الخلاف والاختلاف في موقفي كلّ من جنين وزوجها، بالنسبة للبقاء في يافا، أو الانتقال الى بيت لحم حيث يقيم أهل الزوج، أو العودة الى أميركا التي درسا فيها، وتعارفا. ترفض جنين الاقتراح الاخير وترد عليه: «لا باسم لا، ما دام رَجّعنا الوطن وارجعناله، ليش لنرجع لأمريكا؟ خلينا ف يافا. إنّي أنا ما بدشرش يافا اللي انْولَدِت فيها. الناس بتصحا وبتنام وهي ابتحلم ترجع ع يافا.» ص90. يُسَجّل المدهون، بصورة جليّة، ما يعيشه عرب الداخل، الذين بقوا في وطنهم بعد نكبة 1948، من تمزق وتشظٍ، وقوانين عنصرية، مثل قانون لَمّ الشّمل (والمواطنة) وغيرها. وبمقارنةٍ مع شقّ البرتقالة من أبناء الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء والمنافي، نرى في كل منفى «مخيما جميلا للاجئين يتوهّمونه وطنًا»، ص100، بينما يرى من بقي في وطنه نفسه، «مواطنا افتراضيا» موجود في السجلات الرسمية وغير موجود في السجلات الحقوقية، ص100. ترفض جنين، التي تجسد شخصية الفلسطيني المثالي والوطني الصّادق الصَّدوق، بإصرار، تهديدات باسم بتركها إن لم يرحلا عن البلاد، وتصر على البقاء في يافا، حيث فلسطين «مدفونة تحت ركام من الظلم التاريخي المعاصر». تكتب جنين دهمان، بينما تسرد حكايتها مع باسم، رواية بعنوان «فلسطيني تيس»، تتحدث عن والدها محمود دهمان، الذي تصفه بالـ»تيس»، وتقول إن جين التياسة وراثي في عائلتهم. ثم تحدّثنا عن أكثر من حقيقة وصفة، ربّما لأنّها أرادتنا أن نُمْسِك ببعض المفاتيح لمغاليق سبب عنونتها روايتها بـ «فلسطيني تيس». فنقرأ عن «البطولات الوهمية» التي تربطها بـ»شجاعة دهمان في مواجهة بن غوريون»، وعن موضوع «التأسرل»، الذي يمثّله أبوها الذي تطلق عليه «باقي هناك» بصورة رمزية. لكنها تستدرك موضّحة أنَّ مَنْ جَرَّ والدها الى «الهجرة»، كانت «تياسة الآخرين»، الذين هاجروا، بينما «الباقون» الذين رأوا أنّهم وُلدوا في فلسطين وسيموتون فيها، اعتبروا الجنسية الإسرائيلية «مواطنة وحقوق». وبينما نواصل رحلة المدهون وسفره، خاصة بين مدينتي حيفا والقدس، نتذكر عددا من الأسماء الكبيرة، كالروائي والصِحافي المعروف إميل حبيبي، الذي وصّى بأن يكتب على قبره «باق في حيفا». كما تعود بنا الذاكرة الى غسّان كنفافي الذي ذهب بعض النُّقاد، إلى أنّه قصد بمشهد لقاء والدي دوف، اللذين نسياه عام النكبة، ووجداه يرتدي الزيّ العسكري الإسرائيلي، المجتمع العربي الذي بقي متشبثًا بأرضه ووطنه، ربّما عن جَهْل وعدم معرفة بحقيقة هوية العرب الفلسطينيين الذين بقوا هنا، جزءًا من شطري البرتقالة. المدهون كان واعيًا وعارفًا حتى النّخاع، بحقيقة مواقف الجماهير العربية الفلسطينية التي بقيت «هنا»، من خلال تجواله ومقابلاته واجتماعاته، ولقاءاته مع العديد من شخصياتهم، في غير بلد.
لذا رأى أن يضع، بذكاء وفنيّة، الهولوكوكست أمام النكبة، بمفهوم يبرز الحقيقة مجسدة في هذا قوله: «...يموت اليهود هنا ويدفنون هنا. يموتون هنالك ويدفنون هنا. أليس لهم هناك حيث أقاموا آلاف السنين، حتى باتوا يُشاركوننا الـ(هنا) الوحيد التي لنا؟» وبـ»ميتا قراءة» للنّص في غير مكان في الرواية، تستنتج بأن الكاتب، أراد أن يوصل أبناء «الآخر»-الاسرائيليين-الى نتيجة مُفادها، إنّ عليهم أن يستخلصوا مما أصابهم من كارثة ومحرقة، أنّ واجبهم يُحتّم عليهم مشاركة شعب هذه البلاد الأصلاني بنكبته التي أصابته بعد (محرقتهم)، مشاركة حقيقة، تُعيد الحقَّ الى أصحابهِ، ليتسنّى للشعبين أن يعيشا بحرية وكرامة واستقلال، لا أن يغيّبوا زمن النكبة. لذلك استعاد المدهون الهولوكوكست، لتكون خطابًا يبرز النكبة بأحداثه ومفاصله، ممثّلة بشخصيات عرب الداخل، التي جعلها بسرده الفني المميّز في تشابهٍ بين الشخصيات المتخيلة والمرجعية. وحيث أنّ اللغة تقول وجودنا، لذلك اهتم المدهون، بالتقاط اللحظة المنفلتة: كتابتها، حبكها، ترميزها، وديمومتها، لتصبح ذاكرة نابضة وحيّة لزمن أو مكان أو حالة. وقد نجح في أن يأتي بها متكئة على كتف معرفته الإبداعية، القادرة على حمل رؤية فكرية، مُنتِجة لتصوّر واقعي لقضية شعبه. فأنتج خصوصيَّة، يُسْمع، من خلالها، صوته الداخلي كمبدع. صوتًا يَشي بإيمانه بالعودة، على الرغم من موقف باسم الرواية لا باسم الحقيقي، كما عرّفَتْهُ جنين. وقد ظهر ذلك في قوله: «اسمعي يا جنينتي...رح أقول لك ايّاها بالمشبرح..هذا المجتمع (الآخر) مش ناضج للتعايش» ص255. ويُظهر وليد دهمان إيمانه بالعودة، حينما أعلمه مدير المطعم أبو زكي اليافاوي بـ «انّه ترك في ركن جميل من المطعم، طاولة محجوزة لا يسمح لأحد بالجلوس إليها، قال انها لكاتب فلسطيني معروف مغترب... وأنها ستبقى تنتظره الى أن يتمكّن من المجيء الى البلاد وزيارة المطعم» ص255 ص256. ويواصل المؤلف حديثَهُ عن العودة، ويجسدها في مشهد بالغ الدلالة، حين يختطف اليهودي ساكن بيت الجد، التمثال الذي يحوي نصف رماد جسد إيفانا من يدي ابنتها جولي، ويطوّح به، ثمَّ يقذَفَهُ من فوق رأسها: «ارتفع التمثال بضعة أمتار في الهواء وسقط...سمعت صوت تهشّمهِ على درجات السلم (...) وراقبت رماد جسد أمي يصعد الى الفضاء في سحابات صغيرة متفرقة، راحت تختفي في سماء المدينة» ص265. ولتكتمل حكاية العودة، يضيف المؤلف على لسان جولي: «لقد أرادت الراحلة ايفانا لبعض جسدها أن يعود، سواء بقي في تمثال خزفي جميل يشبهها، كما حلمت قبل أن تتوقف عن الحلم، أو تبدد في فضاء المدينة، كما حدث وتوزّع على حاراتها»، (الصفحة نفسها). تتميز الرواية، بلغتها المتماسكة والناضجة. وقد أصاب المدهون الهدف، حين دمج اللغة المعياريّة الفصيحة مع اللغة المحكية بصورة فنيّة بارزة. وهو في هذا، يوافق ما ذهب اليه ميخائيل باختين، الناقد المعروف عالميًا، ومعه بيير زيما، اللذان آمنا بأن اللغة مربوطة بالزمكانيّة برباط عضوي من الصَّعْب فصلهما عن بعضهما البعض. فهناك لغة للمثقفين وأخرى لغيرهم، كالنجارين والحدادين والحلاّقين وعامة الناس. بل أكثر من ذلك، حيث توجد أيضًا لغة للصباح وللظهيرة وللمساء. قدم المدهون في «مصائر»، عملاً أدبيًا قويًا، في بنية روائية استعارية متماسكة، وحبكة محكمة ومثيرة، وشخصيات عميقة ومترابطة، استحضر من خلالها، الأحداث المتكئة على مساحات الذاكرة، المُشبعة بالأماكن والأفراد والتفاصيل، في أماكن رئيسة عِدّة من الوطن، صاغها في تقابل بين الأجزاء وارتباط متبادل، كأنّ قوّة جاذبة شدّت الفصول الى بعضها البعض، وجعلتها تدور في أفق وفَلَك واحد. أتَتْ بلغة انزياحية عن التاريخي، واحيانًا عن الواقعي، بإيحائيّة منفتحة على التعدّد، بأسلوب سلسٍ جذّاب ومشوّق، وزمن متحرّك، وتداخل وظيفي بين الخيال والواقع، وسرد أفقي وعمودي، وهيمنة السارد بضمير المتكلّم المفرد بصورة بارزة. بهذا المعنى، تعد رواية المدهون، ممتلئة، وباذخة بالمحكيات والمعلومات المتعددة المثقلة بالتاريخ والجغرافيا، وكذلك بالرمزية والمجازات، والصور، والمواقف الفنية المستمدة من الواقع. بالإضافة الى الإيحاءات والدلالات والألفاظ المأنوسة، التي أتَتْ بأسلوب السيمولوجيا، أي العلامة، وهي أيّ شيء قابل لأن يخلق معنى لأي كان، شرط أن تكون له دلالة. وفي هذا عاد الكاتب وأثبت بأنّ الحياة استعارة لغوية، ولا هُويّة لنا خارج فضاء اللغة، فهي مقامنا أنّى حللنا سفرًا ورحيلا. وقد أجاد المؤلف وأبدع حين ترك القارئ يجول جولات استدلاليّة في متن نصّ الرواي،ة بحدّتها المتصاعدة، وأوقفهُ بشكل مشوّق أمام نهاية مفتوحة، كما يظهر المشهد التالي، حيث تسأل جولي لوليد: «هل اتّخذت قرارًا بخصوص ما اقترحته عليك قبل دخولنا الى المطار أو فكّرت فيه؟» وضع وليد فنجان القهوة على الظاولة. نظر الى عيني جولي لثوان. هَمّ بأن يقول شيئًا، فقاطعه نداء يُعْلن عن فتح البوابة رقم C.9 للمسافرين على الخطوط الجويّة البريطانية، الرحلة رقم 559 الى لندن. نهض الزوجان وفي فميهما نقاش، حمل كلُّ منهما حقيبته اليدوية الصغيرة، وأمسكا بأيدي بعضهما. التفت وليد الى جولي وقال: “لقد اتّخذت قرارًا مناسبًا.” وأوأت جولي: wow “نُناقشه حين نصل” أضاف، وتابعا طريقهما الى البوّابة......... (النهاية) ولا يمكن انهاء هذه القراءة الموسعة لرواية “مصائر”، من دون الاشارة الى توفر عنصر البوليفونية (تعدد الاصوات) فيه، بما هي آلية تتيح للشخصية حرية التحدث واختيار اللغة والافكار والضمائر، وتمكن القارئ من الانتقال بين الآراء داخل الرواية وخارجها ،كما وتجنبه احادية التفكير، ليتسنى له نقل مفهوم الوطن الاصلي الى حيز الحقيقة، حتى وان جاء به المؤلف حيزاً مجازياً، وذلك من خلال خطوط السرد المتقاطعة. * شاعر من حيفا