لو أردنا أن نقول أن هناك خطة “B” فيعني أن هناك خطة “A” من قبلها فما هي :إنها حدود الدول التي بناها الاستعمار الفرانكوبريطاني قبل مئة سنة في سايكس بيكو سنة 1916 والتي قسمت المشرق العربي الى منطقة “A” تتبع فرنسا وتشمل دول سايكس بيكو الحالية ، لبنان وسوريا حتى الموصل – والمنطقة “B” والتي تمثل دول سايكس بيكو الحالية في فلسطين والاردن والعراق ، بإعتبار ان الجزيرة العربية هي آنذاك تحصيل حاصل تابعة للنفوذ البريطاني .
لم تكن تقسيمات دول سايكس بيكو وحدودها مقدسة ، كما وانها جاءت بناء على مصالح جغرافية واقتصادية وجيوسياسية لامبراطوريات زمانها آنذاك . فهي في غالبيتها خطوط وهمية تم رسمها لتلبية تلك المصالح الامبريالية، ولم تكن مبنية على التضاريس الطبيعية ولا الاسس الحضارية . كان الاسلام هو وعاء الحضارة الذي يحتضن المكونات الاثنية والطائفية والتي ذابت فيه. وبعد ” علمنة” الانظمة في دول سايكس بيكو تم محاولة ايجاد فكرة الوطن ، واعطي كل وطن علمه ونشيده .
المئة سنة الماضية ، انقضى ثلثها الاول بانتدابات واستعمار مباشر لخلق المؤسسات اللازمة للدولة منقوصة السيادة ، وتأهيل الوكلاء ليحكموا بالوكالة عن الاستعمار بإعتبار ذلك اقل كلفة وأقل ظهوراً للاستعمار .
اما الثلث الثاني من المئة سنة الماضية فكان فترة ما بعد الاستعمار المباشر والتي أسموها ظلماً بعهد الاستقلال. في هذه الفترة تم ترسيخ الحدود . في ذلك الوقت كان هناك توجهان أولهما ما كان يسمى بالجامعة الاسلامية كما كانت في عهد الخلافة وثانيهما الوحدة العربية . قام الانجليز بإنشاء الجامعة العربية بادعاء انها لتجمع بين العرب في حين انها كانت من يومها الاول وحسب ميثاقها تقوم بحماية (وحدة واستقلال كل دولة من اعضاءها) ولم تكن كلمة الوحدة في ميثاقها .
كان جمال عبد الناصر وطنياً من الطراز الاول . ولكن لم يكن له مشروع سياسي اقتصادي اجتماعي واضح . كان يتدرج بأفكاره كردود افعال يسهل على اعداءه التنبأ بها لتغيير مسارها لغيرِ ما جاءت من اجله كما كانت حالة ( صيده) في سيناء وما نتج عنها من نتائج كارثية في تاريخ العلاقة العربية مع الكيان الصهيوني وما ترتب عن ذلك من تبعات . ومع انه بدأ بمحاربة الانجليز لاخراجهم من قناة السويس بدأ بعدها يدعو الى الوحدة العربية. ولكن في نفس الوقت تمّ فك الوحدة بين مصر والسودان في عهده! لم يبني مجتمعاً مدنياً لكنه فكفك ما كان قائماً منها كالاحزاب القائمة آنذاك واستبدلها بالاتحاد الاشتراكي الذي لم يكن اتحاداً ولا اشتراكياً يقوده جماعةُ من الانتهازيين بحيث ان مشروعه الوحدوي والاقتصادي تم فكفكته من انور السادات ، أكثر الناس قرباً اليه والذي ساعده محمد حسنين هيكل بالقضاء على خيرة نخبة الناصريين تحت هذا المسمى أو ذاك . وما لبث أن قام السادات بالانفتاح الاقتصادي على اسوء انواع الرأسمالية والانبطاح السياسي في كامب ديفيد . ومع أن الوحدة تبدأ بالاقتصاد، فقد تم تباين الاقتصاد ومنهجه بشكل ممنهج لزيادة الفرقة. العراق إشتراكي والخليج رأسمالي، سورية إشتراكية والاردن رأسمالي، يمن الشمال رأسمالي ويمن الجنوب شيوعي . وهكذا. هل كان هذا صدفة؟ إجتمعت الدول التي يمر بها خط حديد الحجاز الذي بناه السلطان عبد الحميد مئات المرات على أن يعيدوا تشغيله فما استطاعوا . لان أي أداة وحدة ممنوعة. سورية والعراق حكمها حزب واحد دعى إلى الوحدة والحرية والاشتراكية لكن إصطف بلد يحكمه حزب البعث مع المستعمر ليقاتل بلداً اخراً يحكمه نفس الحزب . ملأت حرية الحزبين السجون، وكان الحكم كغيره من أنظمة سايكس بيكو عصابة مافيا . كانت إشتراكيتهُ في نهب الشعوب . جاءت هذه الأنظمة إما بتوكيل من الاستعمار مباشرة على ظهور الدبابات التي لم تشهد حرباً إلا على شعوبها. وانتهت هذه الحقبة بين كامب ديفيد وحرب الخليج الاولى حين أطلق عليها وزير الخارجية الفرنسي حين إصطف العربي ليقتل العربي:” وداعاً يا قومية عربية.” نعم لقد كانت القومية العربية كلمة حق أريد بها باطل. فجرت التناقضات الاثنية فكان الاكراد اول من قالوا نحن لسنا عربا وهكذا دواليك .
الثلث الاخير من قرن سايكس بيكو كان زمن البترودولار واصحابه – بعضهم قبيلة أو بضع قبائل اعطوهم أعلاماً وأسموهم دولا لكن بترودولارتهم ومن يسيرهم من وراء ستار جعل من بعضهم امبراطوريات افتراضية تناطح بلداناً تزيد عنهم سكاناً بعشرات المرات وتزيد عنهم حضارة بالاف السنين . في هذا الثلث الاخير انكشف زيف ” دول سايكس بيكو ” كونها انظمة لا دول ، مافيات لا اوطان ؟ كانت تحكم وكيلة عن الاستعمار الذي نصبها حافظة لمصالحه ، كما نصب للصهاينة دولة في فلسطين لتكون شقيقة لاخواتها مافيات سايكس بيكو . ثارت الشعوب في الربيع العربي على تلك المافيات وظلمها وطغيانها واستبدادها ، فجاء الاستعمار بشخصه وبوكلاته من هنا وهناك وحركوا خلاياهم النائمة فحولوا الانتفاضات إلى ثورات مضادة إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه.
خلال القرن كله ، قرن سايكس بيكو عمد الاستعمار ووكلاؤه على عدم خلق مجتمع مدني وعلى عدم بناء مؤسسات حكم فشجع الاستعمار ووكلاؤه حكم الفرد بل تأليهه ، وابقاء اوطان سايكس بيكو اوطان الطوائف والقبائل ، جيوشها لم تربح حربا ضد عدو لانها لم يتم بناؤها لتحارب عدوا ، بل للمحافظة على سايكس بيكو من قيام الشعب ضد وكلائه . والكيان الاسرائيلي الذي اوجده الاستعمار ليخدم الغرض نفسه فتماهت المصالح وخرجت المصالح المتطابقة من السر الى العلانية فهكذا هي طبيعة الامور.
تعتقد معاهد الدراسات الغربية عموماً والامريكية خصوصاً بأن مفهوم الدولة لم يترسخ خلال هذه المئة سنة في اوطان ودول سايكس بيكو . لذلك بقيت شعوب ودول واوطان سايكس بيكو قبائل تحمل اعلاماً” حسب توصيف مجلة الايكونومست قبل عقود. في 1982 قامت المنظمة الصهيونية العالمية بالتعاون مع وزارة الخارجية للكيان الاسرائيلي بوضع دراسة لتفتيت العالم العربي الى كيانات كتلك التي نرى مخططات تنفيذها هذه الايام .
إن مخطط تقسيم سوريا الى دويلات طائفية هو مشروع قديم جديد. كان الانتداب الفرنسي يسعى الى تطبيقه بل كانت بعض الطوائف تطالب بذلك ، وكان والد حافظ الاسد ممن تُبيّن الوثائق طلبه من الاستعمار الفرنسي تكوين دولة علوية في ثلاثينات القرن الماضي.
بعد خطاب الوحدة العربية برزت ثلاث دول عربية كبرى بدءت مصالحها متنافرة أو على الاقل كانت قياداتها كذلك . وبعملية التفتيت كان لزاماً تحطيم أو أضعاف تلك الدول الثلاث المركزية وهي:-
– مصر والتي كانت تمتلك مفتاح السلم والحرب فتم تحيدها بمعاهدة كامب ديفيد وبدء الحكم فيها يتقارب مع الكيان الصهيوني الى درجة التطابق الامني بل والسياسي حتى ان جماعة الاخوان المسلمين أصدروا بياناً بالتزامهم بشروط معاهدة كامب ديفيد حين استلموا الحكم . ولقد تم اغراق مصرحتى بعد تسليمها “بالسلم” في مشاكل اقتصادية وسياسية وأمنية لها اول وليس لها اخر .
– العراق وهو يملك توازنات القوة في كل منطقة الخليج العربي وبعد ان تم تقويته وتمويله وتسليحه ليحارب ايران تم اضعافه ومحاربته ثم احتلاله.! وهو سائر على طريق التقسيم الطائفي وهدر ثرواته ، وحصوله على مرتبة الشرف الاعلى فساداً في العالم .
– سوريا والتي كانت في قلب الهلال الخصيب تحدد امنه واستقراره .
لقد تم التعامل مع هذه الدول الثلاث لاعادة تكوينها وتدميرها وبالتالي اعادة تكوين المنطقة بأكملها. اصبح تفكيك الدول أو بناءها علماً يشمل علوم الاجتماع والانتروبولوجية والسيكولوجية والاحصاء وقياس الرأي العام . غياب الحكم المؤسسي والمعتمد على الفرد ومافيته يجعل تفكيك هذا النظام أو ذاك أمراً سهلاً . أما ما يخبئه الغرب لسوريا والمشرق العربي فقد بدأت بوادره بالبروز شيئاً فشيئاً . في شهر اكتوبر لسنة 2015 نقلت وكالة رويترز للانباء تعليقاً نقلته عن Michael O. Hanlon الباحث في معهد بروكينغر الوثيق الصلة بالادارات الامريكية طالبها فيه بأن تجد ارضاً مشتركة مع روسيا ( Find common purpose ) مع الاحتفاظ بإمكانية تنفيذ ” نموذج البوسنة” على سوريا والذي يتم بموجبه اتخاد كونفدرالي من خمس مناطق : واحدة للعلوين وثانية للاكراد وثالثة للدورز ورابعة للسنة وخامسة لمركز بين دمشق وحلب حيث الكثافة السكانية المختلطة.
ثم جاء جون كيري وزير الخارجية الامريكي ليقول في جلسة استماع للكونغرس الامريكي أنه في حالة انهيار وقف اطلاق النار ” فقد يصبح الامر متأخراً لابقاء سوريا موحدة فيما لو تأخرنا كثيراً” : لكنه لم يفصح عن البديل سوى قوله أننا نحضر الى الخطة B اي خطة التقسيم والكونفدرالية . وهنا نتساءل هل كان صدفة ما قاله وكيل وزارة الخارجية الروسي عن الكونفدرالية ونتساءل هل كان التدخل الروسي في سوريا بدون موافقة ولو ضمنية من قبل الولايات المتحدة !
حسب المخططات الغربية سيكون في منطقة الشرق الاوسط ثلاث قوى هي اسرائيل وايران وتركيا باعتبارهم اللاعبون الرئيسيون لان لديهم الموارد التكنولوجية والاقتصادية ( والبشرية) أما دول النفط فمستقبلها محدود جداً لافتقارها تلك المكونات الثلاث ولان أي نفوذ لها سينتهي حتى قبل نفاذ النفط وبترودولاراته كونه مصدر قوتها الوحيدة هذه الايام .
كان العرب قبائل وطوائف يحارب بعضها بعضاً. وجاء وعاء الحضارة الاسلامية العربية ليجمعهم . كانت العهدة العمرية مثالاً للتسامح و التعايش بين الاسلام و المسيحية. كان نظام سايكس بيكو حريصاً كل دقيقة من القرن الماضي أن لا تعود مكونات المجتمع الاثنية والقبلية إلى وعائها الذي ما خرجت منه يوماً إلا ورجعت الدول لتصبح طوائف سواءً في الأندلس او في القرن الواحد والعشرين. والسؤال هنا : هل حالنا اليوم أفضل من أسوء أيام ما قبل سايكس بيكو؟
مئة سنة ليست طويلة في زمان التاريخ . ولقد بدأ المارد الشعبي أن يتململ ويتحسس طريقه وعندها لن يقف أحد في طريقه. هذه حقائق التاريخ.
مستشار ومؤلف وباحث