كنا نقول دائماً: "من أراد أن يتعلم السياسة فليقرأ التاريخ"، ونحن الفلسطينيون أحوج اليوم إلى فقه الحياة المبني على التآخي والتعايش والاحترام المتبادل، وتقبل العمل جنباً إلى جنب رغم خلافاتنا السياسية وخصوماتنا الحزبية، وذلك بهدف حماية مكتسباتنا الوطنية، والحفاظ على هيبتنا، واستقرار ما يجمعنا من وطن.
لذلك، فليعلم الجميع؛ في الساحتين الوطنية والإسلامية، أننا كفلسطينيين ليس أمامنا إلا طريق واحد للنجاة والسلامة والأمان، وهو أن نعمل على معالجة همومنا وقضايانا الشائكة بالحوار، والحوار وحده، بعيداً عن مهاترات الأنا، ونزعة الفوقية والطهارة الثورية.. ولقد سعدنا بالدور الذي بدأت تتحرك به الفصائل – مؤخراً - لتقريب وجهات النظر بين الإخوة في حركتي فتح وحماس، وذلك عبر تقديم المبادرات وتكثيف اللقاءات، وهو جهد يحظى بالتميز لوضع النقاط على الحروف، وإعادة معالجة ملفاتنا الداخلية بأيدينا.
لقد كانت مبادرة الفصائل للتعامل مع ملف معبر رفح، والبحث عن مخرج لهذه الإشكالية البالغة التعقيد، هي محاولة تستحق عليها الشكر والتقدير، وقد لاقت المبادرة قبولاً من الجميع ومن الإخوة في حركة حماس، التي قامت بدراستها وعرضت ما تراه مناسباً من وجهة نظرها. صحيحٌ، أن مقترحات الحركة لم تلقَ كل القبول المطلوب، ولكنها رؤية قائمة على أرضية أن الطرف الأهم؛ وهو الجانب المصري، لم يقل كلمته بعد، وهذا ما يجعل حركة حماس تتحفظ بعض الشيء، وإن كانت تتفهم مشكلة المعبر بأبعادها الإنسانية والأمنية، وقد عبرت من خلال القيادي د. موسى أبو مرزوق أنها مع أي حلٍّ يعجل بفتحه.
نرجو من الجميع مواصلة العمل من خلال الحوار الهادئ والهادف؛ لاستكمال المساعي وتذليل ما تبقى من العقبات.. نحن سعداء أن الفصائل بدأت تنال ثقة الكل الوطني والإسلامي، وأصبح الكل يستمع لها ويتعاطى بأخوية عالية معها.
لا شكَّ بأن هناك من يتربص بنا الدوائر، ويمكر للإيقاع بالمقاومة لكسر شوكتها، وحرف بوصلتها، ولذلك ننصح الجميع بأخذ الحيطة والحذر، وعدم إعطاء الذريعة للاحتلال لتوسعة شقة الخلاف والتوتر القائمة بيننا.
لذلك نقول للجميع: إن قطاع غزة هو اليوم برميل بارود، فلا تلعبوا بالنار حوله، والعاقل من اتعظ بغيره.. إن علينا أن نوطن أنفسنا على إدارة مشاكلنا بالحوار؛ لأن هناك أكثر من طرف يمكر بليل ليخرق السفينة ويحرق البلاد.
لذلك، على الجميع توخي أقصى درجات الحيطة والحذر.
قطاع غزة: تحركات تستدعي الحذر
لا شكَّ أن قطاع غزة يمر بظروف عصيبة، ويعاني من قسوة الاحتلال والحصار، كما أنه يتلوى ألماً من ظلم ذوي القربى، ولكنه مع كل ذلك يمتلك هامةً مرفوعة بشبابه وسواعد مقاتليه.
ومن الجدير ذكره القول: إن ما يجري في قطاع غزة يستدعي الحوار، والمزيد من لغة الحوار وليس التمرد، كما يطالب بعض المرجفين في المدينة.. نعم؛ أحوال القطاع تبعث على الخوف والقلق، ومؤشرات التوتر تستدعي أن تكون بيننا حوارات وطنية، والتوصل إلى تفاهمات وموقف جامع يلتقي عليه الكل الوطني والإسلامي، وهو مطلب الصغير والكبير، حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة، التي يريدها البعض، وفي سياق غير ما يرغب به المخلصون من أهل هذا البلد ويخططون له.
صحيحٌ، قد أطبق الحصار على أهلنا في قطاع غزة، وهناك من أوجعته حالة الفقر والمسغبة، وجرحت كبرياء كرامته، وأن من حقه مسائلة من بيده مقاليد الأمور وزمامها، وباعتبار أن من حقنا مسائلة الجميع؛ "وقفوهم أنهم مسئولون".. ولكن كل شيء يجب أن يجري بحكمة وقدر، وتوخي الحذر، حيث إن عين البصير لا تجهل الخطر، وهي مدركة له.. إذ ليس كل من ينادي بالتحرك هو طاهر الذيل والأثر.
دعونا نجري حواراتنا الوطنية والإسلامية لتقدير الموقف، وبهدف تبادل الرأي والمشورة، وأن تتم جولات الحوار بين كافة شرائح المجتمع، من نخب فكرية، ونقابات واتحادات طلابية وتجمعات شعبية، ولقاءات مع المخاتير ورجال الإصلاح، وندوات مع النواب والكتل البرلمانية، والتوصل إلى حالة إجماع وطني يتوافق عليه الجميع، باعتباره الموقف الذي سنراود عليه قادتنا وسادتنا في هذا الوطن، والذي سنضغط به كذلك على كل ما بأيدهم إمكانيات الإصلاح والتغيير والتجديد.
وتأسيساً على ما سبق، فإن علينا التنبيه والتحذير مما يخطط بليل، حيث خرجت بعض الجهات المدسوسة تحت ما يسمى بـ"حملة تمرد"، تطل علينا بأجندتها المشبوهة في لغتها ودعواتها التحريضية، والتي هي بعيدة عن ثقافة شعبنا في قطاع غزة، إذ ليس من بيننا من يفكر بغير الكلمة الطيبة والحوار الهادف والتعبير الاحتجاجي المسالم، في إيصال مظلوميتنا لمن هم في موقع صاحب المقام، والقادرين على التمام.
قبل أيام وصلني إيميل باسم "حملة تمرد"، وكان الواضح من لغة التشهير وأسلوب التحريض فيه أنه يبغي خلق فتنة، وافتعال مشاكل داخلية نحن في غنى عنها، حيث إن الآذان هنا في غزة مفتَّحة لسماع رأي الجميع، والتفكير بروح الوطن، والغيرة على مكتسباتنا الوطنية للتوافق على كل ما ينزع فتيل التوتر والقلق القائم، والذي لا يخطئ بفهمه من هم على دراية ووعي بأوضاعنا السياسية، كما لا يغيب أيضاً عن عقل البصير دوافعه ودواعيه.
نعم؛ قد تكون هناك نوايا وتوجهات أخوية مخلصة لدى بعض شرفاء هذا الوطن، تطالب الجميع في رام الله وغزة، بالتعجيل لإنهاء الانقسام، ولملمة الشمل، والذهاب لانتخابات على قاعدة الشراكة السياسية والتوافق الوطني، باعتبارها المخرج الآمن من المأزق القائم جراء الاحتلال والحصار وتشرذم حالتنا السياسية، ولكن علينا اليقظة من أي جهات مشبوهة قد تتخفى تحت نيَّات البعض للعبث وإشعال نار الفتنة.
باختصار: "حملة تمرد" وكما قلت سابقاً لا تمثل أحداً في ساحتنا، وتحركاتها تقع في دائرة الشبهة، وعلى الجميع توخي الحيطة والحذر، وعلى فصائلنا الوطنية أن تحدد مواقفها من مثل هذه النداءات والتحركات.
قطاع غزة: الجدل وبيت القصيد
إن واحدة من الرسائل التي تريد إسرائيل إيصالها إلى أهلنا في الضفة الغربية، هي أن الاحتلال بالنسبة لهم هو نعمة وليس نقمة، وأن الذي لديه شكوك في ذلك فعليه إلقاء نظرة إلى الحالة البائسة التي عليها قطاع غزة، حيث تحمل مؤشرات الفقر والبطالة، وتدني مستويات المعيشة فيه، ووضعية الحصار وتقييد التحرك من خلال معابره البرية؛ شريانه الوحيد للتواصل مع عمقه العربي والإسلامي، أرقاماً صادمة، وهي لا تبعث على التفاؤل والاطمئنان.
فبحسب تقرير للبنك الدولي صدر في أكتوبر الماضي، ارتفعت معدلات الفقر عند الفلسطينيين للعام الثالث على التوالي، وتبلغ نسبة الفلسطينيين الذين يرزحون تحت خط الفقر حالياً، حوالي 25% من السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالطبع فإن من يساهم في ازدياد وبقاء معدلات الفقر مرتفعة هو تصاعد بل وتفاقم أزمة البطالة، وخاصة عند الشباب. وقد بينت إحصائية المرصد الأورومتوسطي (مؤسسة أوروبية حقوقية مقرها جنيف)، أنه ونتيجةً للحصار الإسرائيلي المستمر منذ عشرة أعوام، فإن 40% من سكان القطاع البالغ عددهم قرابة المليونين نسمة يقعون تحت خط الفقر، فيما يتلقى 80% منهم مساعدات إغاثية، وتواجه 73% من العائلات ارتفاعاً في حوادث العنف القائم على النوع الاجتماعي.
وأوضح الأورومتوسطي أن أكثر من 50% من الأطفال الفلسطينيين بحاجة لدعم نفسي، فيما يعاني 55% من سكان قطاع غزة من الاكتئاب.
وأشارت الإحصائية إلى أنه ونتيجة للحصار الإسرائيلي المشدد فإن 922 ألف لاجئ في القطاع أصبحوا بحاجة للمساعدات، إلى جانب حاجتهم الملحة للرعاية الصحية والمأوى والتعليم والحماية الأساسية والأمن.
أما فيما يتعلق بالخدمات الأساسية لسكان القطاع، فقد أوضحت الإحصائية إلى أن الوضع الإنساني يتفاقم في ظل أزمة الوقود الحادة، التي تتسبب في انقطاع شبه مستمر للتيار الكهربائي، مما يؤثر على الحياة اليومية ويحول دون تقديم الخدمات الأساسية للأفراد، حيث وصلت ساعات قطع الكهرباء في القطاع إلى 12-16 ساعة قطع يومياً.
نعم؛ هذه هي الرسالة التي تريد إسرائيل وحكومة نتنياهو توصيلها لأهلنا في الضفة الغربية، أن هذا هو ما ينتظركم كبديل عنَّا، وأن استمرار الاحتلال هو المُخلِّص!!
حوارات الدوحة مجدداً: هل هناك أمل؟
في أكثر من حوار مع الأخ خالد مشعل؛ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، تحدث الرجل بلغة تعكس الحرص على سرعة تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، وأشار لكل ما سبق من مواقف أظهرت فيها حركة حماس مرونتها وتعاطيها الإيجابي مع كل ما تمَّ تقديمه من مبادرات؛ لإثبات صدقيتها، ورغبتها الحقيقية في تجاوز المأزق القائم على قاعدة الشراكة السياسية والتوافق الوطني.. وفي اتصال هاتفي للاطمئنان على أجواء ما يجري من حوارات في الدوحة مع الإخوة في حركة فتح، أبدى الرجل استعداد حركته وجهوزيتها لتقديم كل ما تتطلبه المصالحة من خطوات كي يلتئم الشمل ويتوحد الصف، ونكون عصبة واحدة لمواجهة مخططات الاحتلال، فالإرادة السياسية متوفرة لدينا، وليس هناك ما يمنع التلاقي والوفاق والتفاهم لتشكيل حكومة وحدة وطنية، يشارك فيها الكل الوطني والإسلامي في إطار رؤية سياسية ونضالية يتوافق عليها الجميع. ولعل هذه المعاني قد جدت عليها أيضاً توافقاً عند كل من تحدثت معهم من قيادات حركة فتح وبعض الشخصيات الاعتبارية في الحركة الوطنية.
ومن الجدير ذكره، أن ما جاء على لسان د. موسى أبو مرزوق؛ نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، من تأكيدات حول استعداد الحركة لأن تقدم كل ما من شأنه أن يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني، داعياً الجميع إلى عدم تشخيص الواقع فقط؛ بل كيف يمكن الخروج من المأزق.
وقال د. أبو مرزوق في تصريح صحفي يوم 22 يناير الماضي: إن ذلك يجب أن يكون في إطار الشراكة السياسية، وعدم تهميش طرف دون الآخر.. مضيفاً: لذلك نحن في حماس نضع أيدينا في أيدي إخواننا في فتح للنهوض بهذه الانتفاضة لتفعيل المشاركة الشعبية فيها.
وشدد على جاهزية الحركة للمصالحة وفق الاتفاقات الموقعة سابقاً، وكذلك جاهزيتها لحكومة وحدة وطنية فصائلية.
وأوضح د. أبو مرزوق أن اجتماع الإطار القيادي إن لم يتم القدرة على عقده لظرف من الظروف الآن، فلا بأس أن يكون هناك اجتماع فصائلي أو على أي مستوى يتفق عليه، مطالباً بوثيقة وطنية متفق عليها.
ختاماً: نتطلع إلى أفق؛ فمرجل الشباب يغلي
يتطلع الشارع الفلسطيني - اليوم - بقلق وأمل إلى جلسات الحوار القادمة بين فتح وحماس في العاصمة القطرية الدوحة خلال الأسبوع الأول من شهر فبراير القادم، ومبعث حالة التشاؤل؛ وهي وضعية نفسية لا تفرط في التفاؤل أو التشاؤم ولكنها بين الاثنين؛ أي محبطة ولكنها لا تفقد الأمل.
من خلال مشاركاتي في الكثير من الفعاليات الشبابية ذات العلاقة بمحاولات قراءة المشهد السياسي وجس نبض التوترات الواقعة فيه، ألمس حجم القلق بين الشباب ورغباتهم بضرورة التحرك لعمل شيء لإنهاء الانقسام واجتماع الصف، فحالة "استمرار الوضع على ما هو عليه" لم تعد ضمن أجندة هذا الجيل، الذي يرى أن مستقبله يضيع من بين يديه، وهو يسعى لتأطير نفسه في صياغة وطنية، تجمع تكتلاته المختلفة لتشكيل ورقة ضغط على طرفي الأزمة؛ فتح وحماس، من أجل سرعة تحقيق المصالحة وتشكيل حكومة قادرة على استنقاذ الحالة السياسية والمجتمعية من الغرق. إن الشباب - اليوم - وفي ظل ما قائم من أزمات تحاصرهم من كل جانب أشبه بالمرجل الذي يغلي، وأن استمرار العبث من حوله سيؤدي إلى الانفجار.
الكل اليوم يرنو إلى أن تثمر التحركات الجارية بين فتح وحماس في الدوحة واستانبول إلى الفرج والخلاص، وأن تشكل طوق نجاة للجميع؛ فتح وحماس وكل من لديه القلق على حاضر الوطن ومستقبله.
ما تزال الساحة السياسية بفصائلها وتياراتها المختلفة لها وجهات نظر متباينة تجاه ما يجري الحديث عنه حول حوارات الدوحة، واللقاءات التشاورية التي تتم بشكل غير رسمي بين قيادات وازنة من فتح وحماس، بهدف تطبيق آليات المصالحة وتفعيل الاتفاقات السابقة، ودعم انتفاضة القدس، وتنسيق المواقف في مواجهة الاحتلال ومقاومته، وهي تحركات ستأخذ طابعاً رسمياً خلال الأيام القادمة. السؤال: هل هناك أمل؟ وهل هي مغايرة عما سبق من لقاءات واتفاقات انتهت معظمها بالإخفاق بعد حين من التوقيع عليها!!
قد يكون الأمر مختلفاً هذه المرة؛ لاعتبارات يدركها الصغير قبل الكبير، ولعلي اتفق - ولو جزئياً - مع الصديق القيادي الفتحاوي د. عاطف أبو سيف فيما كتبه بخصوص المصالحة، وتحت عنوان: "هل حكومة الوحدة الوطنية ممكنة؟"، حيث أشار إنها بمنطق الاحتمال إنها ممكنة في ظل الظروف والسياقات الآنية لأكثر من سبب. فـ"حماس" تبحث عن طريقة تخفف عنها أعباء الحكم في غزة دون أن تتنازل عن الحكم، حيث إنها لم تجنِ شيئاً من حكومة الوفاق. والقيادة الفلسطينية بحاجة لأن تبدو أكثر قوة متسلحة بحكومة تضم التنظيمات في ظل مواجهتها مع الاحتلال. وقد يكون مشجعاً لحماس أن الرئيس (أبو مازن) ثبت بشكل قاطع على مواقفه السابقة بشأن المفاوضات، ولم يرضخ لكل الضغوطات التي مورست عليه. وهي ممكنة؛ لأن التنظيمين الكبيرين بحاجة لقوة دفع جديدة في ظل حالة الإحباط العام التي تسود الشارع. بالنسبة لحماس فإن عدم مقدرتها على دفع الرواتب، وأزمات الكهرباء والغاز والخدمات العامة تجعل الحكم مجرد حكماً أمنياً، وعليه فإن حكومة الوحدة ستخفف عنها ثقل المهمة. وبالنسبة لفتح فإن انغلاق الأفق السياسي وتعثر الوضع الإقليمي وتعقيدات تطوير السلطة إلى دولة يجعل الطريق الحتمي الوحيد هو البحث عن القوة الداخلية المتمثلة في المصالحة الوطنية، تحت شعار تعزيز الصمود الداخلي وتمكين الجبهة الداخلية استعداداً للمعركة القادمة.
كلنا في الساحة الفلسطينية ننتظر اللحظة التي نبارك فيها اجتماع الشمل، واللقاء على شراكة سياسية وتوافق وطني في ظل حكومة وحدة وطنية، حيث يضع الكل فيها ثقله السياسي والتنظيمي لتمكينها من النجاح، والمضي قدماً باتجاه الانتخابات، التي تعيد التأكيد على كل ما هو مطلوب من شرعيات للرئاسة والبرلمان.


