أبوظبي- احمد جمال المجايدة / نبتت "إمارة البئر"، وهي رواية جديدة للإعلامي المغربي الدكتور محمد سالم الشرقاوي في تربة صحراوية، وترعرت، حسب صاحبها، بين متون العالم السردي الأخاذ لكبار المبدعين الذين اشتغلوا على تيمة "الصحراء" والبادية في امتدادتها التي تملأ الآفاق، علما وأدبا، وفقها، وسماحة، وسُمُوّا، وتجليا.
ولا شك أن منشأ الكاتب نفسه في عوالم البادية الصحراوية، ونهله من معينها، جعل عمله السردي الطويل - الذي يمثل الجزء الأول من ثنائية "السيرة والإخلاص" - يشكل انطلاقة واعدة لمشروع أدبي يأخذ لنفسه زاوية مرئية في "أدب الصحراء"، ل يعزز ما تزخر به المكتبة المغربية تعزز من أعمال في هذا المجال، في انتظار صدور الجزء الثاني من هذا العمل الموسوم بـ"قِدر الحساء"، لتكتمل فصول الحكاية التي تدور أحداثها في بلدة "بئر السبع" الصحراوية، ذات صيف من عام 1975.
ومع حركة الشخصيات يكتشف القارئ سحر الصحراء من خلال عائلة آل السيود، التي تعاقبت أجيالها على "إمارة" بئر البلدة من الجد الأكبر "سيدي العالم" إلى الحفيد "الشَّراد"، لما لهذه العائلة من اعتبار وتقدير لدى مؤسس بلدة "بئر السبع"، مسرح أحداث الرواية، "سيدي المختار لعريبي" باعتباره "كبير قبيلة أعرابات وأميرها، عرفه الناس بعد وفاته باسم دفين "الرقيبة"، أو صاحب "الرقيبة"، وهي تصغير لكلمة "الرقبة" وتدل على المرتفع المواجه للتّلة المطلة على البئر".
تأصيل الحكاية في فصلها لأول ينطلق من الصورة الموسعة التي رسمها الكاتب للبلدة بأيامها ولياليها الهادئة "إلا من تقاطع نباح الكلاب، الذي يُسمع بين أطرافها بوتيرة متناغمة، يتخللها ثغاء الماعز، وبين الفينة والأخرى، يتعالى نهيق الحمير، قبل أن يرتفع، في أوقات الصباح الأولى صياح الديكة، مؤذنا بحلول الفجر". ولا يكسر سكون البلدة سوى حركة الحياة التي تدب في أوصالها كل صباح مع خروج المواشي إلى المراعي بِهِمة الراعي "لمغيفري"، الذي سيكون الشخصية المحورية الثانية في الرواية بعد القُبطان (رتبة عسكرية) منصور السيود، المسؤول الأول عن الحامية العسكرية بالبلدة بوصفه الأعلى رتبة بين زملائه الضباط.
ويعرف الضابط منصور، والد الفتى الشراد آمر البئر، وكان يمكن أن تنتقل إليه "إمارة" البئر بعد والده لولا وظيفته العسكرية، "أن البئر، بالنسبة إليه، ليست فقط مصدرا للعيش، أقيمت حولها حركة اقتصادية تؤمن دخلا قارا لعدد من الأسر، بمزاولة أنشطة الزراعة، وتربية الماشية، وتسويق المياه لأصحاب أوراش البناء، بواسطة عربات خاصة تحمل براميل تجرها الدواب، بل هي أكثر من ذلك بكثير، باعتبارها تشكل مركز الحياة في البلدة، ورمز عزتها وكرامتها، واستقرارها، وسبيل ضمان استقلالية قرارها.
في الفصل الثاني نعبر إلى متن الحكاية ونقرأ عن القيم التي تحاول ترسيخها الرواية في ذهن القارئ عن الصحراء وعن نسائها ورجالاتها، فقد "كان منصور يحب دائما أن يحكي لزملائه الضباط عن عظمة هؤلاء الرجال، وكان يُبدع في سرد القصص عن سيرة شيخ قبيلة أعرابات سيدي المختار لعريبي، وجدّه محمد العالم، وكيف كان الناس يستظلون في وافر حكمتهما وحُسن تدبرهما. أنظروا، يردد منصور دائما، إلى هذه الحياة التي نعيشها اليوم في بيوت شيّدناها بأنفسنا لنلازمها، ومنها ننطلق لنقضي مآربنا، ثم نروح إليها عند العشي لننعم فيها بالدفء والهدوء والسكينة، كما الأغنام، تماما، التي تروح في المساء إلى زرائبها".
وحين بلغت حبكة الحكاية قمتها مع اختلاف الناس على تدبير نضوب مياه البئر وتلوثها، وهي التي يرتبط مصيرهم بها، لم يتردد البعض، بقيادة الراعي "لمغيفري" في تشجيع النزوح إلى "الرقيبة" للاستعانة بكرامات دفينها، شيخ القبيلة "سيدي المختار"، وبين من دفع بعكس ذلك تماما، ودعا للبقاء في الديار، وطلب المساعدة من الجهات التي عليها تقديم المساعدة في مثل هذه الظروف، فتحضر في هذه الحالة صورة زعيم البلاد، بصفته المُؤتمن على استمرار الحياة في البلدة وتوفير شروط استقرار السكان فيها، حيث "تَعَوَّد الناس على الاستئناس بالحضور الرمزي لقائدهم، عزّ أمره، إلى جانبهم في مباني الإدارات الرسمية، المدنية والعسكرية، وبات وجهه مألوفا لدى التلاميذ والطلاب، من خلال الصور المثبتة أعلى السبورة، في جميع الفصول الدراسية، بينما يستطيع الجميع التعرف على صوته، بنبرته الخاصة المُميزة التي تصلهم عن طريق أمواج الإذاعة".
تقول الرواية: "في حقيقة الأمر، لا يقبل أهل بلدة "بئر السبع" أي حديث سيء عن بئرهم. ومنهم من لا يُصدق ما يقال عن تلوث المياه. حتى أن بعضهم كان يسأل الفقيه باحسين عن حُكم من "يكفُر بالنِّعم". فالبئر بالنسبة للسكان هو المصدر الوحيد للمياه، ومصدر الرزق لديهم. فكيف يُسمح بتداول الإشاعات المغرضة التي تمس سمعته الطيبة التي ترسخت على مدى عقود طويلة".
وعندما يشد الخلاف بين الناس، يظهر دور رجل الدين "الفقيه باحسين" ليدلي برأيه، وإن كان لا يميل إلى لحسم في المسائل الخلافية "ذلك أنه عندما كان الناس يسألون الفقيه باحسين عن حكم (الكافر بالنعم)، يجيب بكيفية عامة عن "فضل أمريء تُقضى على يديه حوائج الناس"، وعن أحكام زيارة الأضرحة في الدين والتمسح بأصحابها، وفي نفس الوقت عن سير الأولياء والصالحين، الذين لا يشك أحد في صلاحهم وتقواهم".
وإذا كان الفقيه باحسين يترك الباب مواربا، هكذا، للاجتهادات، من دون رأي قاطع، فإن ذلك لا يُساعد، في الواقع، على حل الإشكال المركزي، المتعلق بمصير البئر، لأن الناس سينصرفون إلى استقصاء الرأي الشرعي في زيارة الولي الصالح وإقامة الموسم له، بدل اهتمامهم بما قد يكون لجودة المياه من آثار وانعكاسات سيئة على صحة البشر والمواشي والأنعام وكذا على المزروعات.
هذا هو الإشكال الحقيقي الذي يُحاول محمد الشيخ الشّراد، آمر البئر، التنبيه إليه منذ مدة، عندما انتبه للمسألة وطرحها أولا على أحمد الجبلي، مساعد "الخليفة" الصافي (رجل السلطة) في "البيرو" (الإدارة)، ثم على "الخليفة" نفسه، وسمع بعد ذلك عن نقاشات الرجال في المسجد مع "الفقيه باحسين"، وعن المواقف المختلفة من مسألة تراجع جودة مياه البئر، وفيما إذا كان يتعين إقفال البئر في وجه العامة.
تتوالى أحداث الرواية وتتقاطع المصالح بين شخصياتها بعد قرار الراعي "لمغيفري" الارتباط ببنت الضابط "منصور"، فيترك الكاتب لقلمه العنان ليغوص في التاريخ إلى مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، ثم يعود ليتقدم في إطلالة خفيفة على واقع الناس الحالي، بعد هبوب رياح ما يُعرف بالربيع العربي بقوله: "هكذا أحب كل من في المدرسة الإعدادية أستاذ اللغة العربية، ونَقَل التلاميذ لأقرانهم صورة عن الأستاذ الملتزم، الوفي لقميصه ذي الياقة الطويلة، الذي يحب أن يسرح شعره إلى الجانب الأيمن، وإن كان صاحبه يساري الهوى والميول، لا يَمَل من تمجيد الثورات وإن خابت، ويؤكد باستمرار ثقته في أن يظهر، يوما، جيل من الشباب يصححون مساراتها، ويصنعون ربيعهم بأيديهم".
رواية "إمارة البئر" للكاتب المغربي الدكتور محمد سالم الشرقاوي صدرت عن درا أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط في 300 صفحة.