المعتصم خلف
“الجزء الأول”
كيف كان يومك الأول في الحرب ؟
لا أحب البدء من نهاية الحكاية, لأن للبداية في هذه المدينة طعم أجمل, وأنتَ الآن لا تفكر بما قد فعلتُهُ قبل يومي الأول من الحرب, بل تريد أن تبدأ من حيث انتهينا كشعب و كوطن, وهذه هي غلطتكم الإعلامية, أنكم تركزون على موتنا الآن على أصواتنا الآن, مع أن قبل الآن كانت أسباب الموت قليلة وأسباب الحياة أقل, ولم ينتبه إلينا أحد ولم تزُرنا كاميرا واحدة, أما الآن فالحياة أصبحت مستحيلة بعد أن خسرنا بيوتنا وأبناءنا وأعمالنا وأصبح الموت الطبيعي مستحيلاً, هل ترى هذا التناقض الذي قد يكون غير مهم بالنسبة لك ولكنهُ في نفس الوقت مركز وجداني لي “أنا” ووجداني لكل الشعب السوري. ولو سألتك الآن كاميرات اليوم إلى أين موجهة ؟؟ ستقول لي فوراً نحو مركز الحركة وغبار المعركة وهدير الطائرة و صخب العاصفة وستكون رومنسي الجواب وتقول نحو الجثة المفتتة والمهجّرين على الحدود… وأنا سأقول لك بعد كل هذا الجواب لماذا لا توجّهونها نحو من يريد أن يقول لا ولكنهُ لا يستطيع أن يقول.
أتذكر شيئاً عن البداية ؟
لن ينفع الجواب الآن ولكن يمكن أن أقول لكَ أن دمشق كانت تهبُني هوساً صعباً يدفعني دائماً للبحث عن شيء مفقود, ولا دليل على شيءٍ كاملٍ لكي تبحث لهُ عن تتمة, ولا تشعر بنقص الهواء لكي تتنهد أكثر, وكل شيء شاعري بطريقة محددة, والمشكلة أن الشاعرية المحددة تمنحك مرضاً خطيراً يجعلك ترى طفلاً متوسلاً حولك طلباً للنجاة من شيء غامض لا أنت تفهمه ولا أحد, والطفل أبكم لن يتكلم. وهناك دائماً يوجد خوف من شيء ما, خوف من لفظ ما من لون ما من فكر ما…
لماذا تحدثنا عن الأيام القديمة, هل تفرح بما مضى ؟
الفرح النسبي الذي يولد من ماضٍ قريب لا يمكن أن نراه من صفاتنا المعيبة بل هو تتمة لنا, ونحن لا نشتاق إلى شجرة بل إلى مزارع ولا إلى بيت بل إلى أحياء كاملة وليس إلى طريق واحد بل إلى مدن مُسحت بكاملها, مأساتنا لم تعد مع جحم الخسارة بل مع مضمونها الذي يأخذ شكل سعادة ماضية, أنا الآن أعيش قصة حبٍّ عنيفة مع حيٍّ لم أكن أراه عندما كنتُ فيه, هل تمنيت يوماً أن تحضن مدينة بكاملها ؟ .. هذا ما أحدثك عنهُ, هوس التقاط الذكرى في وقتها غير المناسب لكي تلعب دور الناجي من ذاكرة مبعثرة, ولم ينجُ أحد حتى الآن, فكل أعراض أمراضنا التي كانت سببها الذاكرة ستبقى معنا حتى لو عدنا, ستبقى معنا إلى الأبد. هذا الكلام يمكن أن تعتبرهُ دارمياً. وصراحةً أنا أقول لك لأنك لم تعرف من أسباب الهجرة ما سيدفعكَ لكره تتمة هذه الحياة, ليست النجاة هي الطريق للنجاة بل هناك ما هو أدق تفصيلاً وبمعنى آخر نحن الآن نبحث عن مكان نمارس فيه إنسانيتنا بكل حرية.
مدن مفقودة .. !
هذا مصطلح مهين لي ولكَ. لأن المفقود بالمعنى الكامل يعني استحالة الوجود, ولكننا سنبحث بكل طاقاتنا عن مدننا, والمشكلة أننا لا نملك منهجية للبحث عن ما فقدناه ولا نستطيع أن نبحث الآن, فالخسارة أخت الفوز وهي دليل الرجوع نحو عاطفة سابقة, والحماس الذي يقودكَ إلى الفرح لأنك ستجد بيتك يوماً ما معدوماً تماماً… وهذا أشد أمراض الحواس الخمس الآن. فلا يمكن أن تسور حنينكَ بالأسلاك الشائكة وتحصنه بالكاميرات المراقِبة لكي تحميه من أثر الواقفين حولهُ لكي يقتلو كل أسباب العودة إلى ذات البيوت, ولكن يمكنكَ أن تحفز هذا الحنين ليصبح دافعاً للوقوف أمام الجرح لتراه بكل طاقاته وتواجهه بكل قواك.
ماذا يمكن أن تُسمّي ما حصل منذ أول الحرب حتى الآن ؟
لا يمكن حصر الواقع باسم أو معنى ولا حتى بمعجم كامل, والمشكلة الكبيرة جداً بالنسبة لنا هي أننا غير قادرين على جمع نقاط التلاقي بين قصتنا وقصة شعب ما, ولا مدينة ما, ما حدث معنا كان جديداً بشكل متناقض جداً, لا أنتَ في سلم ولا في حرب, في المساء تلعب النرد كأنَ شيئاً لم يكن وفي الفجر تلعب لعبة الاختباء تحت الدرج لكي تنجوَ, الموضوع ملتبس وسلس بشكل لن تراه في أي حرب أخرى, هناك قنوات تريك أن هذه هي جدارة الحياة لكن صدقني لا هم يعرفون ولا نحن نعرف كيف يتحول الياسمين إلى مقبرة. وإذا كنتَ تبحث عن جوابٍ رسميّ فأنا أقول لك لم يكن لما حصل هنا أساسٌ فكري, انظر إلى الثورة الفرنسية كم مفكراً أسس لها وكم كاتباً وموسيقياً كان يهيّئ لها, وهذا ما كان ينقصنا لاكتمال الأساس الفكري.