باريس / وكالات / "ألا تخافين؟" سألتها. فأجابت "طبعاً الكل يخاف لكن خوفي لا يمنعني من الدفاع عن أرضي. إرداتي أكبر من خوفي. لذلك أنا مصممة أن غداً سيكون أفضل ومستقبل كل فلسطيني سيكون أفضل. وطالما هناك من هم في مثل عمري يؤمنون أن فلسطين ستتحرر فهي ستتحرر".
قبل أيام اختارت وكالة الصحافة الفرنسية أجمل خمس صور التقطها مصوروها في العالم خلال عام 2015. إحدى هذه الصور من فلسطين لمجموعة نساء يحاولن إنقاذ فتى فلسطيني من بين يدي أحد الجنود الإسرائيليين.
تتأمل في الصورة، تنقّل عينيك بين وجوه أصحابها، فترصد في تعابيرها خوفاً وغضباً وقلقاً على مصير هذا الطفل. إحدى النساء تغرز أظافرها في وجه الجندي. أخرى تشده من قميصه، فيما الطفل يحاول بقبضته الصغيرة دفع الجسد الذي ألقى بكل ثقله عليه كما هي جاثمة دولته المزعومة على قلب فلسطين. أما هي، صاحبة الضفيرة الشقراء فبدت كمن يحبس دموعاً، كمن يكتم خوفاً مشروعاً لمن هم في مثل سنها، أمام جندي يعتقل ويشرد ويقتل من هم في مثل سنها وربما أصغر.
لكن صورة "أ ف ب" لا تخبر كل شيء. ربما اختارت الوكالة هذه اللقطة دون غيرها والتي تبقى عاجزة عن نقل مشهد ذلك اليوم بكل تفاصيله، ومن بينها حين انهالت تلك الطفلة على الجندي بالضرب أو حين عضته، فكيف بما وراء الصورة من حكاية نضال يومي، وما وراء العينين الزرقاوين من قصة تروى عن طفلة رغم أعوامها الأربعة عشر عرفت كيف تزرع الخوف في قلب من احتل أرضها لدرجة مطالبته باعتقالها وحتى قتلها.
هي عهد التميمي التي عاهدت نفسها أن تكون حاضرة في التظاهرات بين أبناء قريتها النبي صالح التي سرق الاحتلال نبعها وصادر زيتونها.
لم تكن قد تجاوزت الأعوام التسعة حين بدأت تخرج في المسيرات الشعبية في القرية الواقعة قرب رام الله. قامتها الصغيرة آنذاك كانت تساعدها على حشر نفسها بين المتظاهرين ولكن أيضاً بين جنود الاحتلال فتركل هذا وتضرب ذاك.
في تلك الفترة شهدت عهد اعتقال والدتها. ناريمان التميمي اعتادت أن تتقدم التظاهرات قبل أن يصيبها الاحتلال برصاصه الحي ثم يفرض عليها الإقامة الجبرية خلال المسيرات الشعبية. منذ ذلك الحين باتت تقف عند مدخل المنزل تراقب من بعيد عهد وإخوتها الذين لم يأخذوا منها فقط لون عينيها بل الشجاعة والجرأة والصمود والإيمان بحقهم في أرضهم.
لكن الطفلة الصغيرة لم تقو على تحمل مشهد الجنود وهم يجرون والدتها ويعتقلونها. تمسكت بفستانها وهي تصرخ "ماما.. ماما". صرخة ممزوجة بدموع كثيرة راحت ترددها وهي تركض وراء ذلك الجيب العسكري الذي أخذ والدتها. عدسات الصحافيين المتواجدين في المكان وثقت ذلك المشهد المؤثر لعهد وشقيقتها والذي جرى تناقله عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويوتيوب.
لكن العدسات نفسها وثقت بعد سنتين فقط مشهد طفلة أطول بسنتيمترات قليلة واقفة أمام جندي إسرائيلي تصرخ في وجهه وتقول له "أنا لا أخاف سلاحك". ثم عادت ورصدت الكاميرا مؤخراً فصلاً جديداً من فصول المواجهة بين عهد وعائلتها والجندي الإسرائيلي الذي حاول اعتقال شقيقها الأصغر محمد وهو يعاني من كسر في يده أصيب به في تظاهرة سابقة.
من يتابع عهد لا بد تستوقفه هذه المحطات الثلاث الموثقة، لكأنها تختصر حكاية تحول الفلسطيني إلى مقاوم. لكأنها تشرّح الأسباب التي تدفع بالفلسطيني إلى المواجهة منذ نعومة أظفاره. سؤال واحد ألح علي وأنا أتأمل صورتها الأخيرة. سؤال شاءت الصدف أن أطرحه عليها مباشرة على هامش الملتقى الدولي الثالث للتضامن في فلسطين المنعقد في بيروت والذي يكرمها مع والدتها إضافة إلى شخصيات أخرى.
"ألا تخافين؟" سألتها.. فأجابت "طبعاً الكل يخاف لكن خوفي لا يمنعني من الدفاع عن أرضي. إرداتي أكبر من خوفي. لذلك أنا مصممة أن غداً سيكون أفضل ومستقبل كل فلسطيني سيكون أفضل. وطالما هناك من هم في مثل عمري يؤمنون أن فلسطين ستتحرر فهي بالتأكيد ستتحرر".
ناريمان أيضاً لا تخفي مشاعرها كأي أم تخاف على أولادها لكن "إذا لم أربيهم لكي يكونوا جيل مقاومة وتحرير فمن سيفعل؟"، تضيف "الهنود يعطون أولادهم حين يولدون جرعة سم لكي يكتسبوا مناعة.. في روسيا ينزلون المواليد الجدد في الماء الباردة للغاية نفسها. أما أنا فأعطيهم حجراً".


