خبر : أيهما يُعد “أبو الاقتصاد” بحق.. آدم سميث أم ابن خلدون؟! – تقرير

الثلاثاء 10 نوفمبر 2015 03:03 م / بتوقيت القدس +2GMT
أيهما يُعد “أبو الاقتصاد” بحق.. آدم سميث أم ابن خلدون؟! – تقرير



سما / وكالات / من أجل رائعته الشهيرة “التحقيق في طبيعة وأسباب ثروة الأمم” الذي تم نشره في عام 1776م، والذي يعتبر أول عمل كامل حول الاقتصاد الحديث، فقد جاء فيه بالكثير من النظريات والافكار الاقتصادية التي تُشكل حالياً حجر الزاوية في اقتصاد السوق الحر … أشتهر آدم سميث (1723 – 1790م) بـ “أبو الاقتصاد”.

الا أنه وبالنظر الى كتابات أحد اهم المفكريين والمؤرخين العرب، الذي ضارع عمالقة المفكرين بعبقريته العالمية، نجد انه قد تناول جُل ما جاء به آدم سميث، قبل أن يتناوله سميث بأربعة قرون. انه عبدالرحمن ابن خلدون (1332 – 1406م)،

حيث جاءت نظرياته وأفكاره في مقدمته الشهيرة التي ألفها كمقدمة لموسوعته الضخمة ” كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، وقد كُتبت المقدمه في عام 1377م، في أكثر من ألف صفحة، وقد حاز علم الاقتصاد على الاهتمام البالغ من جانب ابن خلدون في مقدمته.

ابن خلدون
لذا سوف نتطرق لبعض أهم ما جاء به سميث، ثم نعقب بإسهام ابن خلدون في هذه المواضع:

اقتصاد السوق، وتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية

يرى آدم سميث من خلال نظريته حول اقتصاد السوق أن الدولة لا ينبغي عليها أن تتدخل في النشاط الاقتصادي، وإنما يقتصر دورها حول مهام الدفاع والأمن والخدمات والتنظيم والرقابة، وبالتالي فقد أرسى سميث أحد قواعد الفكر الرأسمالي الأساسية وهو مبدأ الحرية الاقتصادية أو اقتصاد السوق.

ونجد أن ابن خلدون قد سبق آدم سميث بأربعة قرون في تأطيد مبدأ الحرية الاقتصادية، فهو يرفض تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لان تدخلها يؤدي في النهاية الى الإفساد والإحتكار والتسلط، فيقول: “أكثر الأحكام السلطانية جائرة في الغالب ….. فالسلطان والأمراء لا يتركون غنياً في البلاد إلا وزاحموه في ماله وأملاكه، مستظليين بحكم سلطاني جائر من صنعتهم”.

كما يرفض تدخل الدولة في الانتاج والتجارة بشكل مباشر أي بوصفها تاجراً أو منتجاً، لان ذلك يترتب عليه أضرار اقتصادية أهمها القضاء على المنافسة في السوق، وذلك من خلال أحتكار الدولة واعتمادها على نفوذها وسلطانها في البيع والشراء، وتستنزف المعروض النقدي السائل المخصص للتجار والمنتجين لانها تحرمهم من هذه الاموال وبالتالي فإن هذا الامر يُقعدهم عن السعي للكسب والمعاش ويؤدي في النهاية الى تقليص حجم المشروعات في القطاع الخاص ومن ثم انخفاض موارد الدولة من الضرائب التي تفرض على هذه المشروعات.

فيقول في ذلك: التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والاكراه في الشراء والبيع
ويقول انه بتكرار هذا الأمر فإنه يُدخل على الرعايا: “العنت والمضايقة وفساد الارباح وما يقبض آمالهم من السعي في ذلك جملة، ويؤدي الى فساد الجباية ……. فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملة، أو دخلها النقص المتفاحش”.

نظرية القيمة

تدور نظرية القيمة حول مفهوم تحديد قيمة الأشياء وأسعارها، سواء أكانت سلعاً أو خدمات أو عملاً. وقد بلورها آدم سميث بشكلها الحالي من خلال سرد أفكاره وتحليلاته بخصوص العمل، وإن كان ريكاردو قد قام بتنقيح وتشذيب هذه الافكار من الأخطاء التي وقع فيها سميث.

والفكرة الجوهرية لدى سميث وريكاردو حول القيمة هي أن قوانين السوق هي من تحدد وتنظم أثمان السلع وكذلك مقاديرها من خلال العرض والطلب على هذه السلعة.

وقد سبق ابن خلدون آدم سميث في وضع وتأطيد نظرية القيمة والأثمان حيث يقول: ” فالكسب كما قدمناه قيمة الأعمال، وانها متفاوتة بحسب الحاجة اليها، فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى به، كانت أعظم وكانت الحاجة اليها أشد”.

كما يوضح بشكل صريح دور العرض والطلب في تحديد قيمة السلع فيقول: ” إنه القوت لولا تخزين الناس له خوفاً من حدوث نقص في إنتاجه مستقبلاً لبذل دون ثمن ولا عوض”.

ويقول: وأعتبر غاشية الإناس بغاشية العجم من الحيوانات وقتات الموائد بفضلات الرزق والترف وسهولتها على من يبذلها لإستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالها لديهم
ويتبين من هاذين النصين وغيرهما أن ابن خلدون قد أشار بوضوح للمنفعة في تحديد قيم الأشياء، وانه كلما زاد المعروض من الشيء كلما أدى الى انخفاض قيمته الى أن لا يُبادل بأي سلعة أخرى وبالتالي تصل المنفعة الحدية لهذه السلعة الى صفر، ومنه نستنتجد ايضاً أن الرجل هو أول من أشار الى “قانون تناقص المنفعة الحدية” كما أشتُهر على تسميته في الادبيات الاقتصادية بصورته الحالية.

مصدر الثروة

يرى آدم سميث بأن العمل هو مصدر الثروة الحقيقي وليست قوى الطبيعة كما كان سائداً في الحِقبة التي سبقته والتي قادها انصار مدرسة الطبيعيين.

ولعل نظرية سميث في موضوع الثروة ومصدرها من الموضوعات التي رفعت من قدره، إذ انه أحدث تغييراً جذرياً في الفكر الاقتصادي السالف.

ولكننا نجد أن ابن خلدون قد سبق سميث في هذا الموضع ايضا، حيث يوضح بشكل لا لبس فيه أن العمل الانساني هو مصدر كل ثروة فيقول: ” أعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد من التحصيل، فلابد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله واقتنائه …… فلابد من الأعمال الانسانية في كل مكسوب ومتمول”.

تقسيم العمل والتجارة الدولية

يرى آدم سميث أن زيادة الإنتاجية لن يتآتى الا بتقسيم العمل والتعاون، وضرب المثال المشهور له وهو مصنع الدبابيس، وأرجع سبب زيادة الانتاجية في هذه الحالة لأن مهارة العامل سوف تزيد إذا قام بالتركيز على مهمة إنتاجية واحدة، كما أن ذلك يؤول في النهاية الى زيادة الاختراعات لأن إعادة نفس العمل مراراً وتكراراً سوف يُنمي حاسة الابداع عند العمال.

وأخذ سميث هذه الفكرة ليطبقها دولياً، حيث ذكر أن البلاد التي تمتلك موارد ولديها قدرات معينة في إنتاج سلعة محددة، يجب أن تتخصص في إنتاج هذه السلعة، وتقوم بمبادلتها بسلع أخرى لبلاد
أخرى تتميز بقدرات مختلفة عنها، ومن ثم يتحقق أقصى منفعة من خلال تخفيض أسعار السلع مع زيادة جودتها.

وهنا ايضا يدلو ابن خلدون بدلوه، تقريبا بنفس المعاني السابقة، بيد أنه سبق بأربعة قرون.

حيث يرى أن الانسان عاجز عن إشباع حاجاته بمفرده لقله إمكانياته، ويبين أن التعاون من خلال تقسيم العمل يؤدي الى زيادة الإنتاجية وتحصيل الثروة. فيقول: ” قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه، وأنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم ذلك …

والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً، فالقوت من الحنطة مثلاً لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه، وإذا أنتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح، وتوزعوا على تلك الأعمال أو أجتمعوا، وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات، فالاعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضرورياتهم …..”.

أما في مسألة التجارة الدولية فقد بين ابن خلدون أهمية الأسواق الخارجية، وربطها ايضاً بفكرة التخصص حيث يقول: ” فأهل المدينة أو الحصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفى فيها بالاقل من تلك الاعمال وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات، فتصرف في حالات الترف وعائده وما يحتاج إليهم غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمة فيكون لهم بذلك حظ من الغنى”.

اليد الخفية والحافز الاقتصادي

يرى آدم سميث أن هناك “يد خفية” تقود الفرد وتدفعه الى بذل الجهد لتعظيم الثروة، وتحقيق الرخاء له ولعائلته، وهذا هو الحافز الاقتصادي عند سميث. وتعتبر فكرة اليد الخفية من أهم الافكار التي كانت وراء نعت سميث بـ “أبو الاقتصاد”، و”مؤسس علم الاقتصاد”.

إلا أننا نجد مرة أخرى أن ابن خلدون قد أفرد مساحة كبيرة ليوضح فيها الحافز الاقتصادي وأهميته في النمو الاقتصادي، ويبين فيها ماهية اليد الخفية التي قال بها سميث بعده، فيقول: ” وإذا قلت الوزائع والضرائب على الرعايا نشطوا ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويزداد حصول الاغتباط بقلة الضرائب، وإذا كثر الاعتمار كثرت إعداد تلك الوظائف وكثرت الجباية التي هي من جملتها”.

وقد عبر ابن خلدون هنا عن الحافز الاقتصادي بإصطلاحه “الاغتباط”، وبين انه يزيد عندما تقل الضرائب، وأن زيادة هذا الحافز يؤدي الى زيادة النمو وزيادة المشروعات والتي عبر عنها بـ “الوظائف”، وكلما زادت المشروعات الإنتاجية زادت جباية الدولة وذلك رغم إنخفاض الضرائب.

كما يبين ابن خلدون أن ضعف الحافز الاقتصادي يؤدي الى الكساد في الأسواق، وذلك لضياع آمال الناس، وبالتالي إفساد المصلحة الذاتية أو “اليد الخفية” وفقاً لآدم سميث، ويبين ابن خلدون أن ضياع آمال الناس ربما يكون سببه الظلم الواقع عليهم من أصحاب الجاه والنفوذ والسلطان. فيقول في ذلك: ” …. يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك بإختلال العمران”.

ويتجلى لنا من خلال هذه القراءة اليسيرة في مقابلة ما جاء به سميث من أفكار ونظريات، بما سبقه به ابن خلدون في مقدمته مُذ أكثر من أربعة قرون، ليتضح لنا بصدق كيف أن الرجل كان له بصيرة نافذة تخطت الأزمان وتجاوزت الأفهام، لتقوم عليها قواعد الفكر الاقتصادي الحديث، وان لم يحُز شهرة آدم سميث في هذا الباب من العلم، لإسباب لا يتسع المقام لسردها والبحث فيها، الا أن فئة كبيرة من الاقتصاديين والباحثين في الغرب قبل الشرق قد اعترفوا لهذا الرجل بعبقريته الفذة في تأطيد الكثير من قواعد الاقتصاد الحديث،

ليستحق ابن خلدون بجدارة لقب ” أبو الاقتصاد”، و”مؤسس علم الاقتصاد الحديث”.