كتب يوسف الشايب:
نيراز سعيد، شاب فلسطيني كان صوت وصورة مخيم اليرموك للاجئين في دمشق، والذي يعاني من حصار مشدد، ورعب، وجوع، وخطر الموت اليومي، لا بل كل ساعة أو دقيقة .. رصد بكاميرته الفوتوغرافية، وكاميرا الفيديو خاصته، يوميات المخيم المحاصر، وأرسلها إلى المخرج رشيد مشهراوي، الذي خرج منها، ومن دردشاته معه وخطيبته لميس التي انتهى بها المطاف لاجئة إنسانية في ألمانيا، عبر «سكايبي»، إلى فيلم مؤثر يفضح مأساة ما يحدث لأهالي اليرموك، ويبقى الباب موارباً نحو شيء من الأمل.
الفيلم الذي حمل اسم «رسائل إلى اليرموك»، كان بمثابة رسائل إلى العالم حول ما يجري في مخيم اليرموك، ومقاومة الموت حتى بالموسيقى والغناء، فكان خياراً موفقاً وفق جمهور أسبوع الفيلم العربي في فلسطين، الذي شارك في حفل الافتتاح، مساء أول من أمس، في قاعة الجليل بمتحف محمود درويش، الذي ينظم و»شايب جروب»، هذا الأسبوع، بالاشتراك مع «سينا بال»، والهيئة الملكية الأردنية للأفلام، ومهرجان الإسكندرية السينمائي.
ويبدأ فيلم «رسائل من اليرموك» بتواصل المخرج بالصوت والصورة مع الفتاة الفلسطينية «لميس» التي تحكي عن مأساة المخيم وكيف أنها خرجت ووصلت إلى ألمانيا مع آخرين، وأنها ما زالت تنتظر الموافقة على طلبها لأنها كتبت في أوراقها أنها «فلسطينية» وتضحك لأنهم في ألمانيا «لا يجدون دولة بهذا الاسم» وما زالت تنتظر.
ثمّ يتّصل مشهرواي بخطيب لميس، الشاب نيراز سعيد، فيمدّه بصور فوتوغرافية ومقاطع فيديو يصوّرها للمخيم الذي يتعرّض للقصف في ظل الحرب في سوريا، وما يترتّب عليها من حصار وانقطاع المعونات الغذائية والمياه والكهرباء.
ولكن سكان المخيم، وسط الكارثة التي ربما تحصد روح أي منهم في أية لحظة، حيث قُتل شقيق نيراز فجأة، لا ينسون حقّهم في الحياة فيعيشون على أمل الخلاص حتى أن أيهم صديق نيراز يدفع البيانو الضخم على عربة حديدية يجرها مع أصدقائه ويقدم معزوفات في وسط الشارع ويتجمّع السكان فيغنون وينتظرون.
وفي مشهد له دلالة، يجيب نيراز عن سؤال المخرج: من أين؟ قائلاً: «من قرية عولم بقضاء طبرية» فتنتقل الكاميرا إلى هناك وتتجول من دون أن يعوقها بيت أو أي من معالم ما كان القرية سابقاً.
ويُعلّق المخرج قائلاً: إن قرية عولم لم تعد موجودة إذ «دُمّرت بالكامل» ولا يعرف نيراز هذه الحقيقة ومن الأفضل أن يظل حياً على أمل العودة إليها.
ومن الصور ومقاطع الفيديو التي صوّرها نيراز، يُقام معرض فني في متحف محمود درويش في رام الله يفتتحه وزير الثقافة الفلسطيني ورئيس البلدية ويحظى بحضور كبير يتأملون الصور التي يغلب عليها المعاناة على خلفية مقطع فيديو لدرويش يقول فيه: «سنلتقي غداً على أرض أختك فلسطين / هل نسينا شيئاً وراءنا؟ نعم.. نسينا تلفت القلب / وتركنا فيك خير ما فينا / تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيراً».
وطرح الفيلم قضية تتعلق في مرحلة عصر ما بعد الإنترنت، وإن لم يشر إليها مشهرواي في التعليق الصوتي، وهي حقيقة استحالة إخفاء كارثة إنسانية أو التستر عليها في ظل ثورة الاتصالات.
فالمخرج الذي لم يذهب إلى مخيم اليرموك في سورية، تمكن من صنع هذا الفيلم كما صنع عن المخيم أنشطة أخرى ثقافية دون أن يغادر مدينة رام الله حيث يقيم، وذلك، كما أسلفت، بتواصل مع نيراز الذي زوده بالصوت والصورة مقاطع فيديو وصوراً فوتوغرافية كشفت جوانب من كارثة إنسانية في مخيم كان يضم نحو 400 ألف فلسطيني.
ونيراز سعيد (٢٣ عاما) وحده حكاية، فهو يمثل جيلا من شباب اليرموك الذين أنضجتهم التجربة فأكسبتهم خبرة استثنائية، دلتهم على هوية وانتماء أكثر وضوحا، حيث يؤكد شرح نيراز سعيد للصور الفوتوغرافية التي التقطها حساسية خاصة لديه، كما تؤكد الصور نفسها ذلك، ومن بينها صورة «الملوك الثلاثة»، التي برزت في الفيلم، لثلاثة من الأطفال الأشقاء الذين اضطروا إلى تحليق رؤوسهم بسبب المرض الغريب الذي أصابهم في المخيم، وينتظرون دورهم للخروج من مخيم اليرموك من أجل تلقي العلاج خارجه، وقد بدت على ملامحهم علامات الإرهاق والخوف والترقب، وهي الصورة التي فاز بها سعيد، بالجائزة الأولى في مسابقة التصوير الفوتوغرافي السنوية التي تقيمها منظمة «الأونروا» للشباب اللاجئين الفلسطينيين.
«رسائل إلى اليرموك»، هي رسائل مخيم التُقطت في لحظات بالغة التعقيد، رسائل انحازت للحياة في مواجهة الموت، لحظات حب في زمن الحرب، وانشغالات اللاجئين بسؤال الوطن والمنفى.
هي حكاية في حكاية ما زالت تروى من خلال صور ثابتة وأخرى متحركة، مرّة محكية، ومرّة مرئية، مليئة بهم وعنهم، مرسومة بالأمل في حياة أفضل، رسائل يكتبها شريط سينمائي بلغة وثائقية تشبه الحياة.