خبر : يا أهل غزة.. هل للعيد غير الحُزن من طلة؟ د. أحمد يوسف

الأربعاء 23 سبتمبر 2015 09:33 م / بتوقيت القدس +2GMT
يا أهل غزة.. هل للعيد غير الحُزن من طلة؟ د. أحمد يوسف



نعم؛ منذ أن جاءنا المتنبي بذلك البيت من شعره: "عيدٌ بأي حال عدت يا عيدُ؟" قبل أكثر من عشرة قرون، ونحن لا ننفك عن تذكاره في كل عيد، واعتماده نصاً نردده كتعبير عن الحال الذي لم يتبدل ولم يتغير بالنسبة لنا نحن أهل فلسطين، فالمصائب جاورتنا منذ نكبة عام 1948م، وحتى قبل وقوعها بعقدين من الزمان كانت تلاحقنا، وها نحن كشعب مشرد نعيش في أحضانها ونكابد من اللأواء والشدة والضنك في مخيمات اللجوء والشتات منذ أكثر من خمسة وستين عاماً، نتقلب على جمر آلامها ومآسيها، ونحاول بصبرنا وصمودنا أن نصنع المعجزات، وقد نجحت مقاومتنا الباسلة من خنادقها وثكناتها على الحدود أن تردع المحتل وتُدميه، وتحفظ لأمتنا العربية والإسلامية شيئاً من الهيبة والكرامة.

عندما كنا صغاراً، كان الأهل في مناسبة العيد يتيحون لنا الكثير من الوقت لنلهو ونلعب، كانوا يريدون لنا ألا نعيش مأساتهم، بكل ما فيها من وجعٍ ودموع وأحزان، فكنا نفرح بما في أيدينا من مال العيدية، وهي حصيلة قروش معدودة كنا نجمعها بفرحة غامرة من الأهل والأقارب، وبالرغم من قلتها، إلا أنها كانت كافية لأن تجعل يومنا سعيداً، نعيش على ذكرياته ونشوة ما فيه إلى العيد القادم.


وإذا سألتني – اليوم - عن العيد في ذاك الزمان، تذكرت الطفولة والمراجيح والملابس الجديدة، تذكرت الرجولة التي كان أبي يحاول غرسها في أبنه البكر حين يكلفه بالذهاب إلى بيت عمته يحمل هدية العيد، ويوصيه بأن يعتذر لها لانشغاله بالمرور على باقي أخواته وبعض العمات والأقارب.. 

كان أبي (رحمه الله) وحيد والده، وكان يتيماً منذ أن وقعت الهجرة واحتضنتنا غزة في رحابها المباركة، حيث شبَّ عصامياً يعتمد على نفسه، وأراد لطفولتنا أن تكون بنكهة الرجولة وتحمل المسئولية.. كنت أنا أبنه البكر، وله أربعة أخوات متزوجات، فكان ينتدبني رغم صغري بالذهاب يوم العيد إلى بيت عمتي طرفة (رحمها الله رحمة واسعة)، والتي كانت تحبني كثيراً، وتفرح بقدومي يوم العيد لها، حيث كنت أشعر وأنا أرتدي هندام العيد الجديد ببالغ الفرحة والسرور، وأقدم لها – وأنا مبتسم - علبة الشكولاتة والعيدية؛ وهي 25 قرشاً، فتقوم بتقبيلي وأخذ علبة الحلوى، أما الفلوس فكانت تقول لي: "خلليها إلك، وما تقولش لحد".. كنت أتمنع للحظة، فتحتضنني وتعيد تقبيلي، وتلاطفني بكلماتها الطيبة، وتصر علىَّ بأخذها.. كانت عمتي تعيش مستوي من الحياة أفضل بكثير من حالنا، حيث كان زوجها شرطياً براتب محترم، لذلك كانت تؤثر في كل عيد أن تكرمني بالعيدية.

من هنا، وكلما جاء العيد، أجدني أتذكر تلك الأيام الخوالي، وأنا أتطلع في وجوه أولئك الأطفال من الأحفاد، ومن أبناء الإخوة والأخوات ودائرة الأهل المقربين، ممن اعتدنا على زيارتهم بالعيد، وأقرأ في عيونهم براءة تلك اللحظات، التي هم بانتظارها: العيدية، بغض النظر عن قيمتها، سواءً أكانت صغيرة أم كبيرة فهي لحظة إنجاز وفرحة.

اليوم، وفي ظل الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع غزة الحبيب، ربما أعيادنا تبدو مكلفة ومحرجة، فالكثير من الناس يودون أن يصلوا أرحامهم، ولكن البعض منهم ينطبق عليهم المثل القائل: "العين بصيرة واليد قصيرة"، فيؤثر للحفاظ على ماء وجهه، عدم الخروج من البيت في مثل هذه الأيام، متذرعاً بوعكة صحية أو نحو ذلك للتهرب من التزامات العيد، التي لم يعد يملكها.

إن الغالبية العظمى من إخواننا العاملين في القطاع الحكومي، وأغلبهم من موظفي حماس لا يتقاضون إلا الحد الأدنى من رواتبهم؛ "حدُّ الكفاف"، وأن الكثيرين منهم تجد أعينهم تفيض من الدمع ألا يجدوا ما ينفقون في مثل هذه المناسبات المكلفة، ومع ذلك ما تخلف أحدٌ منهم عن أداء عمله أو خذل أهله ووطنه، إننا نشعر بالفخر تجاه كل هؤلاء، فهم أهل النخوة والمروءة، وهم بحق حماة الوطن، وعنوان الأمن والاستقرار فيه.

القدس: لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى

يأتي العيد وحرائر القدس تدافع عن حرمات المسجد الأقصى، في مشهد لا تملك معه إلا القول: "وين الملايين؛ الشعب العربي وين؟!!، ألا يشاهد هذا المليار ونصف المليار من المسلمين ما يجري من مواجهات ساخنة، وهي أشبه بمعارك حمي فيها الوطيس في باحات المسجد الأقصى، وعلى ساحاته الخارجية وحول أبوابه وجدرانه العتيقة؟ أليس من العار أن تقف النساء وحيدات في الذود عن المقدسات؛ يدفعن جنود الاحتلال والمستوطنين بأيديهن وببعض الحجارة!! ونشهد صوراً حيَّة لمعنى "حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ".!

أين وا معتصماه؟ وأين وا صلاحاه؟ وأين يا خيل الله اركبي؟ وأين هبي يا ريح الجنة وكوني إعصارا؟ وأين كل المساجد طُهِّرتْ وأنا على شـرفي أُدنس؟ وأين يا قدس إنَّا قادمون؟ وأين جيش القدس؟ وأين العروبة؟ وأين وأين؟؟

إن مشهد اقتحام جنود الاحتلال والمستوطنين بكامل عتادهم العسكري للمسجد، وتدنيس طهارته بأحذيتهم، والعبث بكل حرماته، ليس فقط إهانة لكل العرب والمسلمين، بل هو شاهد على موت هذه الأمة وذهاب هيبتها.

كم أسعدتني، وكم آلمتني في الوقت نفسه، صور الشباب وبعض كبار السن وهم يتمددون للراحة داخل قاعات الصلاة بالمسجد الأقصى، وحولهم عتادهم من أكوام الحجارة بانتظار جولة أخرى من المواجهات مع غلاة المستوطنين وعسكر المحتلين، وكم شعرت بالأسى والعجز، وأنا أشاهدهم وهم يقاومون ببسالة، وحالهم يقول: "يا وحدنا.."!!

ها هو العيد يأتي، ونحن في بيت المقدس وأكنافه نكابد العدو المحتل، وملايين المسلمين في مكة والمدينة وجبل عرفات يؤدون مناسك الحج والعمرة، والأقصى على مرمى حجر منهم، وهم في غفلة ساهون؛ كبت جيادهم، وتثاقلت الهمم، وغاب المغيث من الأمم؛ لأن الفتاوى أبعدت أقدامهم عن القيام بواجب النصرة وشدِّ الرحال!!

عيدنا اليوم: أحزانٌ ومسغبة وشكوى

إن الذي يتفقد أحياء غزة وحواريها لا يلمس أثراً بأننا نعيش في أجواء عيد سعيد أو أننا نستقبل العيد، حيث مظاهر الفقر تكسو الوجوه، والكل يقلب كفيه، ويحصى ما يمكن أن يوفره ليقدمه لأولاده وبناته والأقربون بالمعروف من عائلته، وذلك في ظل أزمة مالية خانقة، لم ترحم أحداً، حتى الميسورين - لوقت قريب - أصبح الواحد منهم يشعر بالحرج وامتهان الكرامة، حيث يتطلع لهم كل قريب بنظرة الحاجة والأمل في أن يتفقدهم بهذه المناسبة، وأن يوسع عليهم ببعض ما أفاض الله عليه.

"نلاقيها من وين ولَّا وين"، من الكهرباء التي غدت كالموت تأتينا بغتة!! أو من معاناتنا من غياب وصول المياه بانتظام إلى بيوتنا، حيث نصحو في الصباح لنكتشف أن المياه ما تزال مقطوعة!! أو نقص السولار والبنزين في المحطات مما يشل حركة السيارات، ونشهد تكدس الناس في الطرقات، بانتظار من يحملهم إلى أماكن عملهم أو سكناهم!! وإذا أضفنا لذلك مشاكل الصرف الصحي، وأشكال القمامة التي تكتظ بها الحواري والطرقات، يصبح المشهد سريالياً، ولا نعجب كثيراً عندما يظهر لنا من حينٍ لآخر فقدان البعض لعقله، وتزايد أعداد من يُكلمون أنفسهم في الشوارع، حيث يبدأ الناس بالقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله؛ الراجل إمبارح كان عاقل، واليوم ضرب"!!

قطاع غزة: عثرة العيد وقرف السياسة

يأتي هذا العيد وتوترات الحالة السياسية مع السلطة الفلسطينية ما تزال قائمة، وأجواء التصعيد مع الاحتلال لا تبشر بأمنٍ واستقرار منظور، والخلاف مع الجارة العزيزة مصر لم تعد تصلحه أو تجدي معه لغة العطر والبخور، بعد أن شاهدنا ما فعلوه بقسوة متعمدة لقطع التواصل وتخريب الثغور.. اليوم كل الجبهات ساخنة، وأجواء الخوف والقلق تراود الجميع. بالتأكيد، نكهة العيد لن تكون مبعث فرحٍ لأحد، وهي كسابق الكثير من أعيادنا التي عشناها، حيث كانت الحرب دائرة، واقتصرت تنقلاتنا على بيوت العزاء، ووداع إخواننا الأحبة من الشهداء.


اليوم غدت المقابر هي محط رحال الجميع، للكل له فيها أباً أو ابناً أو أخاً شهيد، يذهب الناس لتفقد هؤلاء الأحبة الغوالي، واجترار ذكرياتهم العزيزة مع انسياب الدمع السخين، والذي يجد معه الجسد الموجوع بعض الراحة والشفاء من الحنين. المقبرة غدت اليوم أحد مكونات واقعنا المعاش، وصارت في كل أعيادنا هي جزءٌ من تراثنا وأحلامنا، وهي لأسر الشهداء مدفئة الألم وكبت الحزن والأنين.


يأتي العيد – للأسف - وليس لنا في السياسة من أمل، فالرئيس محمود عباس (أبو مازن) يتهيأ للمشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة بمدينة نيويورك، وقد بشَّرنا بأن لديه قنبلة سيفجرها هناك!! بالطبع لم يعد الشارع الفلسطيني يطرب لذلك العزف المنفرد من الألحان، إذ خذله السياسيون في كل وعودهم، وأن كل ما يمكن أن يتمخض عن تلك المقولات أو المبادرات هو "إبر تخدير" لإطالة عمر الحاكم والملأ من حوله، 

وهي لم تعد في وارد التصديق والقبول عند أحد.. إن المفاجأة التي نرغب بها هي تلك التي تسهم بتحريك الملف الفلسطيني، وتخرجنا من حالة التشرذم والتأزيم التي نحن فيها، هي أن يجتمع الشمل، ويتوحد الصف الوطني والإسلامي وينصر في بوتقة نضالية واحدة، حيث طال الانقسام وأوهى منا العظام، وتراجعت بسبب ذلك اهتمامات المجتمع الدولي بقضيتنا، وتغولت إسرائيل في عدوانها على الأرض الفلسطينية وتهويد مقدساتها.

صحيحٌ؛ أن الناس لم تعد تعول كثيراً على ما سوف يتحدث به الرئيس أبو مازن في المحفل الدولي، فهم محبطون بعد الذي سمعوه منه، حيث أشار بأنه كان خلف ما قام به الجيش المصري من تجريف لمنطقة الحدود، وشق ممر مائي لتدمير الأنفاق، والتأسيس لقطيعة قد تطول في العلاقة معهم.

كنا، وكما في كل مرة كان يغادرنا فيها الرئيس أبو مازن في نهاية شهر سبتمبر من كل عام، بهدف المشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة، كنا ندعو له، ونتمنى أن يجري المولى (سبحانه وتعالى) الخير على يديه، إلا أنه في هذه المرة قد خذلنا بأقواله، وأصابنا بشعور كبير من الخيبة والاحباط، ليضاعف بذلك من أحزاننا في هذا العيد وحسرتنا.
مشهد العيد والعدوان في قطاع غزة: أشجانٌ وأكفان وعزَّة

في مجموعة من السرديات القصصية القصيرة، التي جمعها الأديب الشاب محمود جودة في كتاب بعنوان: "غزة اليتيمة"، وهي تعكس أحداث الحرب العدوانية الأخيرة على قطاعنا الحبيب، تلقفت بعض السطور منها لملامستها واقع العيد ومشاعر الناس المصاحبة له.. وها هو الكاتب يروي (رفح.. يوم الخديعة) وكأني أعيش الحدث معه.. قال سأخبرك يا صديقي شيئاً مهماً: في ليلة العيد قطعت الكهرباء لبضع دقائق، خرجت كما كان أهل المخيم هارباً من الحر الذي يسكن المنازل كلها، جالستُ ابن الجيران على العتبة، وسألته مازحاً:

- هل ابتعت ملابس العيد؟
هذا السؤال كان من العيب التفوه به في هكذا ظروف.
قال لي وأقسم وهو يفتح الكيس الأسود الذي بيده:
- لدي ثلاث أبناء صغار، وها أنا اشتريت ثلاثة أكفان بيضاء، سيلبسونها صباح العيد، فربما نموت في أي لحظة، فيجب أن نكون على أهبة الاستعداد للقاء الله في ثياب جديدة ونظيفة.

وهذا ما حدث في نهار أول أيام العيد.. كان الأطفال يتساقطون كورق الحنون، مدرجين باللون الحمر.

وفي واقعة حيَّة أخرى يأخذنا الكاتب إلى المشهد الآخر، والموسوم: (عندما يكون البكاء ترفاً لا تستطيعه)، حيث يحدثنا بما اعتاد القيام به في أحد مراكز إيواء نازحي الحرب التي عمل بها في رفح، قائلاً: في أول أيام العيد وكما جرت العادة منذ أن عملت هناك أبعث بالضحكات وصباحات الخير في وجه من أراه من الناس، حتى أن زميلاً لي ظن أنني مخبول كنت أفعل كل ما أستطيع كي يضحك الحجر والبشر هناك.

في يوم عيد الأضحى، كنت حذراً جداً من أن أقول عبارة "كل عام وأنتم بخير"، كنت أخاف أن أقذفها في وجه أحد قبل أن أتأكد من أنها لن تسبب له غصة في القلب... مررت برجل في الخمسين من عمره وجلست إلى جانبه وصبحت عليه كما يفعل الابن مع أباه، وبعدما تمتم بكلمات لم أسمعها رداً على سؤالي عن الأحوال أخذ يتحدث:

- هذا يا بني أول عيد أضحى لا أقضيه في أرضي، ولا أذبح أضحيتي بيدي بين أطفالي هذا اليوم له طقوس خاصة عندي لا يكون إلا إذا مارستها بنظام مثل كل شخص في هذه البلاد، أما اليوم فهو ليس عيد بالمعنى المجازي حتى، بل هو حرب جديدة، أرادوها لنا كي نلفظ ما تبقى فينا من حياة وكرامة.

أطفالي يسألونني عن خروف العيد، يقولون إن "الوكالة" سوف توزع على الأسر النازحة لحوم الأضاحي.. هل تشعر بما أشعر به الآن؟ أنظر إلى أطفالي وأبكي القهر والظلم والعوز.

وفي كتاب الصحفي د. محمد المغير "من هول القصف"، الذي هو عبارة عن قصص ومشاهد ليوميات الحرب على غزة، حيث تتبع يوماً بيوم، وعلى مدار واحدٍ وخمسين يوماً واقع المأساة وسجلها بقلمه، وقد أحببت تناول بعضاً منها باختصار لما لها من دلالات ومعانٍ تعكس عظمة هذا الشعب الذي لا تلين له في مقاومته للمحتلين قناة.. شاهدنا خلال الحرب وفي أيام العيد منها عدداً من السيدات في أحد مراكز الإيواء التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) وهنَّ يقمنَّ بتجهيز كعك العيد، وحولهم الأطفال ينظرون ويلعبون. السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل من يتابع هذه المشاهد وأجواء القصف الدامي، هو: من يخطر بباله وسط حمم الموت التي تأتي من كل مكان أن يفكر بالكعك وبالعيد؟!


وعندما تقترب من النساء تسمع الجواب: إنها المقاومة، هذا الكعك هو مقاومتنا للمحتل، لن نخذل أطفالنا، وسنجعلهم يحتفلون بعيدهم، لن نستسلم، ولن نفزع!!


وفي قصة واقعية أخرى، مشاهدها في مقبرة الشهداء بالشيخ رضوان، حيث جلس الأب حول قبر ابنه، وأخذ يناجيه: قم يا محمد.. عد للبيت، فقد أحضرت أمك لك هدية العيد!! لا تدعها تبكي غيابك، انهض يا ولدي، الجميع في البيت بانتظارك.
وقصة أخرى، حيث كان الأهل قد غادروا منازلهم متفرقين، ثم غدوا محاصرين، وفي بعض ساعات الهدوء يوم العيد ذهبوا ليتفقدوا أين دفن شهداؤهم!!


وتمضى هذه القصص حول واقع العدوان وأحوال الشهداء في أكثر من مشهد في هذا الكتاب، والذي هو شهادة للتاريخ على حجم الجرائم الإسرائيلية بحق الإنسانية.


وتجدر الإشارة إلى أن عيد الفطر السعيد صادف اليوم الواحد والعشرون للعدوان على قطاع غزة، حيث استشهد خلال ذلك اليوم فقط أكثر من مائة شهيد وأصيب العشرات.

ختاماً: العيد وجدلية الموت والطفولة
نعم؛ قد يكون العيد ليس بالمشهد السعيد في الكثير من سنوات حياتنا، ولكن للطفولة براءتها، وهي تعرف كيف تجلب لنفسها السعادة والمرح، لن يفزعها مشاهدة الموت وتناثر الأشلاء، فهذه في ذاكرتها هي للمصطفين الأخيار، هي للشهداء، ولن ينسى هؤلاء الأطفال أن يأخذوا لهم بالثأر عندما يكبرون.. لن ينسى أطفالنا ما تفتحت عليه عيونهم، وما بلغ أسماعهم، من وقائع وأحداث، لن ينسوا مجزرة منتزه الشاطئ التي وقعت العام الماضي خلال معركة العصف المأكول، وتلك الجثث الملقاة إلى جانب الأرجوحة، حيث يتذكر الطفل مهند السيوطي؛ البالغ من العمر أحد عشر عاماً، مشهد استشهاد أصدقائه وأبناء جيرانه بجانب تلك الأرجوحة، حيث كانوا منتظرين أخذ أدوارهم للجلوس على كراسيها. يقول السيوطي لوكالة صفا: "مازالت رائحة الموت في المكان حتى بعد أشهر من المجزرة، كما أنني ما زالت أتذكر ذلك المشهد جيداً، بعدما رأيت جثث أصدقائي ودمائهم في كل مكان، وأصوات الاسعافات تملأ المكان".
حتى اليوم ما زال السويطي يتذكر أصدقاءه المصابين وهم ينزفون الدماء أمام عينيه، فيما كان البقية يصرخون من شدة الألم، مضيفا "لن ننسى ولن نغفر تلك الأيام والدماء، وسيأتي يوم ننتقم من العدو فيه، كما أننا لن ندع الاحتلال يمنعنا من اللعب والعيش بحرية".
هذه هي روح الفلسطيني، التي نعتز بها، حيث تنبت معه قيم الرجولة منذ نعومة أظافره؛ لن ينسى، ولن يغفر، وسيأتي يوم الانتقام.


يا أهل غزة..هل للعيد غير الحُزن من طلة؟د. أحمد يوسفنعم؛ منذ أن جاءنا المتنبي بذلك البيت من شعره: "عيدٌ بأي حال عدت يا عيدُ؟" قبل أكثر من عشرة قرون، ونحن لا ننفك عن تذكاره في كل عيد، واعتماده نصاً نردده كتعبير عن الحال الذي لم يتبدل ولم يتغير بالنسبة لنا نحن أهل فلسطين، فالمصائب جاورتنا منذ نكبة عام 1948م، وحتى قبل وقوعها بعقدين من الزمان كانت تلاحقنا، وها نحن كشعب مشرد نعيش في أحضانها ونكابد من اللأواء والشدة والضنك في مخيمات اللجوء والشتات منذ أكثر من خمسة وستين عاماً، نتقلب على جمر آلامها ومآسيها، ونحاول بصبرنا وصمودنا أن نصنع المعجزات، وقد نجحت مقاومتنا الباسلة من خنادقها وثكناتها على الحدود أن تردع المحتل وتُدميه، وتحفظ لأمتنا العربية والإسلامية شيئاً من الهيبة والكرامة. عندما كنا صغاراً، كان الأهل في مناسبة العيد يتيحون لنا الكثير من الوقت لنلهو ونلعب، كانوا يريدون لنا ألا نعيش مأساتهم، بكل ما فيها من وجعٍ ودموع وأحزان، فكنا نفرح بما في أيدينا من مال العيدية، وهي حصيلة قروش معدودة كنا نجمعها بفرحة غامرة من الأهل والأقارب، وبالرغم من قلتها، إلا أنها كانت كافية لأن تجعل يومنا سعيداً، نعيش على ذكرياته ونشوة ما فيه إلى العيد القادم.وإذا سألتني – اليوم - عن العيد في ذاك الزمان، تذكرت الطفولة والمراجيح والملابس الجديدة، تذكرت الرجولة التي كان أبي يحاول غرسها في أبنه البكر حين يكلفه بالذهاب إلى بيت عمته يحمل هدية العيد، ويوصيه بأن يعتذر لها لانشغاله بالمرور على باقي أخواته وبعض العمات والأقارب.. كان أبي (رحمه الله) وحيد والده، وكان يتيماً منذ أن وقعت الهجرة واحتضنتنا غزة في رحابها المباركة، حيث شبَّ عصامياً يعتمد على نفسه، وأراد لطفولتنا أن تكون بنكهة الرجولة وتحمل المسئولية.. كنت أنا أبنه البكر، وله أربعة أخوات متزوجات، فكان ينتدبني رغم صغري بالذهاب يوم العيد إلى بيت عمتي طرفة (رحمها الله رحمة واسعة)، والتي كانت تحبني كثيراً، وتفرح بقدومي يوم العيد لها، حيث كنت أشعر وأنا أرتدي هندام العيد الجديد ببالغ الفرحة والسرور، وأقدم لها – وأنا مبتسم - علبة الشكولاتة والعيدية؛ وهي 25 قرشاً، فتقوم بتقبيلي وأخذ علبة الحلوى، أما الفلوس فكانت تقول لي: "خلليها إلك، وما تقولش لحد".. كنت أتمنع للحظة، فتحتضنني وتعيد تقبيلي، وتلاطفني بكلماتها الطيبة، وتصر علىَّ بأخذها.. كانت عمتي تعيش مستوي من الحياة أفضل بكثير من حالنا، حيث كان زوجها شرطياً براتب محترم، لذلك كانت تؤثر في كل عيد أن تكرمني بالعيدية.من هنا، وكلما جاء العيد، أجدني أتذكر تلك الأيام الخوالي، وأنا أتطلع في وجوه أولئك الأطفال من الأحفاد، ومن أبناء الإخوة والأخوات ودائرة الأهل المقربين، ممن اعتدنا على زيارتهم بالعيد، وأقرأ في عيونهم براءة تلك اللحظات، التي هم بانتظارها: العيدية، بغض النظر عن قيمتها، سواءً أكانت صغيرة أم كبيرة فهي لحظة إنجاز وفرحة.اليوم، وفي ظل الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع غزة الحبيب، ربما أعيادنا تبدو مكلفة ومحرجة، فالكثير من الناس يودون أن يصلوا أرحامهم، ولكن البعض منهم ينطبق عليهم المثل القائل: "العين بصيرة واليد قصيرة"، فيؤثر للحفاظ على ماء وجهه، عدم الخروج من البيت في مثل هذه الأيام، متذرعاً بوعكة صحية أو نحو ذلك للتهرب من التزامات العيد، التي لم يعد يملكها.إن الغالبية العظمى من إخواننا العاملين في القطاع الحكومي، وأغلبهم من موظفي حماس لا يتقاضون إلا الحد الأدنى من رواتبهم؛ "حدُّ الكفاف"، وأن الكثيرين منهم تجد أعينهم تفيض من الدمع ألا يجدوا ما ينفقون في مثل هذه المناسبات المكلفة، ومع ذلك ما تخلف أحدٌ منهم عن أداء عمله أو خذل أهله ووطنه، إننا نشعر بالفخر تجاه كل هؤلاء، فهم أهل النخوة والمروءة، وهم بحق حماة الوطن، وعنوان الأمن والاستقرار فيه.القدس: لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى يأتي العيد وحرائر القدس تدافع عن حرمات المسجد الأقصى، في مشهد لا تملك معه إلا القول: "وين الملايين؛ الشعب العربي وين؟!!، ألا يشاهد هذا المليار ونصف المليار من المسلمين ما يجري من مواجهات ساخنة، وهي أشبه بمعارك حمي فيها الوطيس في باحات المسجد الأقصى، وعلى ساحاته الخارجية وحول أبوابه وجدرانه العتيقة؟ أليس من العار أن تقف النساء وحيدات في الذود عن المقدسات؛ يدفعن جنود الاحتلال والمستوطنين بأيديهن وببعض الحجارة!! ونشهد صوراً حيَّة لمعنى "حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ".!أين وا معتصماه؟ وأين وا صلاحاه؟ وأين يا خيل الله اركبي؟ وأين هبي يا ريح الجنة وكوني إعصارا؟ وأين كل المساجد طُهِّرتْ وأنا على شـرفي أُدنس؟ وأين يا قدس إنَّا قادمون؟ وأين جيش القدس؟ وأين العروبة؟ وأين وأين؟؟إن مشهد اقتحام جنود الاحتلال والمستوطنين بكامل عتادهم العسكري للمسجد، وتدنيس طهارته بأحذيتهم، والعبث بكل حرماته، ليس فقط إهانة لكل العرب والمسلمين، بل هو شاهد على موت هذه الأمة وذهاب هيبتها.كم أسعدتني، وكم آلمتني في الوقت نفسه، صور الشباب وبعض كبار السن وهم يتمددون للراحة داخل قاعات الصلاة بالمسجد الأقصى، وحولهم عتادهم من أكوام الحجارة بانتظار جولة أخرى من المواجهات مع غلاة المستوطنين وعسكر المحتلين، وكم شعرت بالأسى والعجز، وأنا أشاهدهم وهم يقاومون ببسالة، وحالهم يقول: "يا وحدنا.."!!ها هو العيد يأتي، ونحن في بيت المقدس وأكنافه نكابد العدو المحتل، وملايين المسلمين في مكة والمدينة وجبل عرفات يؤدون مناسك الحج والعمرة، والأقصى على مرمى حجر منهم، وهم في غفلة ساهون؛ كبت جيادهم، وتثاقلت الهمم، وغاب المغيث من الأمم؛ لأن الفتاوى أبعدت أقدامهم عن القيام بواجب النصرة وشدِّ الرحال!!عيدنا اليوم: أحزانٌ ومسغبة وشكوىإن الذي يتفقد أحياء غزة وحواريها لا يلمس أثراً بأننا نعيش في أجواء عيد سعيد أو أننا نستقبل العيد، حيث مظاهر الفقر تكسو الوجوه، والكل يقلب كفيه، ويحصى ما يمكن أن يوفره ليقدمه لأولاده وبناته والأقربون بالمعروف من عائلته، وذلك في ظل أزمة مالية خانقة، لم ترحم أحداً، حتى الميسورين - لوقت قريب - أصبح الواحد منهم يشعر بالحرج وامتهان الكرامة، حيث يتطلع لهم كل قريب بنظرة الحاجة والأمل في أن يتفقدهم بهذه المناسبة، وأن يوسع عليهم ببعض ما أفاض الله عليه."نلاقيها من وين ولَّا وين"، من الكهرباء التي غدت كالموت تأتينا بغتة!! أو من معاناتنا من غياب وصول المياه بانتظام إلى بيوتنا، حيث نصحو في الصباح لنكتشف أن المياه ما تزال مقطوعة!! أو نقص السولار والبنزين في المحطات مما يشل حركة السيارات، ونشهد تكدس الناس في الطرقات، بانتظار من يحملهم إلى أماكن عملهم أو سكناهم!! وإذا أضفنا لذلك مشاكل الصرف الصحي، وأشكال القمامة التي تكتظ بها الحواري والطرقات، يصبح المشهد سريالياً، ولا نعجب كثيراً عندما يظهر لنا من حينٍ لآخر فقدان البعض لعقله، وتزايد أعداد من يُكلمون أنفسهم في الشوارع، حيث يبدأ الناس بالقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله؛ الراجل إمبارح كان عاقل، واليوم ضرب"!!قطاع غزة: عثرة العيد وقرف السياسة يأتي هذا العيد وتوترات الحالة السياسية مع السلطة الفلسطينية ما تزال قائمة، وأجواء التصعيد مع الاحتلال لا تبشر بأمنٍ واستقرار منظور، والخلاف مع الجارة العزيزة مصر لم تعد تصلحه أو تجدي معه لغة العطر والبخور، بعد أن شاهدنا ما فعلوه بقسوة متعمدة لقطع التواصل وتخريب الثغور.. اليوم كل الجبهات ساخنة، وأجواء الخوف والقلق تراود الجميع. بالتأكيد، نكهة العيد لن تكون مبعث فرحٍ لأحد، وهي كسابق الكثير من أعيادنا التي عشناها، حيث كانت الحرب دائرة، واقتصرت تنقلاتنا على بيوت العزاء، ووداع إخواننا الأحبة من الشهداء.اليوم غدت المقابر هي محط رحال الجميع، للكل له فيها أباً أو ابناً أو أخاً شهيد، يذهب الناس لتفقد هؤلاء الأحبة الغوالي، واجترار ذكرياتهم العزيزة مع انسياب الدمع السخين، والذي يجد معه الجسد الموجوع بعض الراحة والشفاء من الحنين. المقبرة غدت اليوم أحد مكونات واقعنا المعاش، وصارت في كل أعيادنا هي جزءٌ من تراثنا وأحلامنا، وهي لأسر الشهداء مدفئة الألم وكبت الحزن والأنين. يأتي العيد – للأسف - وليس لنا في السياسة من أمل، فالرئيس محمود عباس (أبو مازن) يتهيأ للمشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة بمدينة نيويورك، وقد بشَّرنا بأن لديه قنبلة سيفجرها هناك!! بالطبع لم يعد الشارع الفلسطيني يطرب لذلك العزف المنفرد من الألحان، إذ خذله السياسيون في كل وعودهم، وأن كل ما يمكن أن يتمخض عن تلك المقولات أو المبادرات هو "إبر تخدير" لإطالة عمر الحاكم والملأ من حوله، وهي لم تعد في وارد التصديق والقبول عند أحد.. إن المفاجأة التي نرغب بها هي تلك التي تسهم بتحريك الملف الفلسطيني، وتخرجنا من حالة التشرذم والتأزيم التي نحن فيها، هي أن يجتمع الشمل، ويتوحد الصف الوطني والإسلامي وينصر في بوتقة نضالية واحدة، حيث طال الانقسام وأوهى منا العظام، وتراجعت بسبب ذلك اهتمامات المجتمع الدولي بقضيتنا، وتغولت إسرائيل في عدوانها على الأرض الفلسطينية وتهويد مقدساتها.صحيحٌ؛ أن الناس لم تعد تعول كثيراً على ما سوف يتحدث به الرئيس أبو مازن في المحفل الدولي، فهم محبطون بعد الذي سمعوه منه، حيث أشار بأنه كان خلف ما قام به الجيش المصري من تجريف لمنطقة الحدود، وشق ممر مائي لتدمير الأنفاق، والتأسيس لقطيعة قد تطول في العلاقة معهم.كنا، وكما في كل مرة كان يغادرنا فيها الرئيس أبو مازن في نهاية شهر سبتمبر من كل عام، بهدف المشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة، كنا ندعو له، ونتمنى أن يجري المولى (سبحانه وتعالى) الخير على يديه، إلا أنه في هذه المرة قد خذلنا بأقواله، وأصابنا بشعور كبير من الخيبة والاحباط، ليضاعف بذلك من أحزاننا في هذا العيد وحسرتنا. مشهد العيد والعدوان في قطاع غزة: أشجانٌ وأكفان وعزَّةفي مجموعة من السرديات القصصية القصيرة، التي جمعها الأديب الشاب محمود جودة في كتاب بعنوان: "غزة اليتيمة"، وهي تعكس أحداث الحرب العدوانية الأخيرة على قطاعنا الحبيب، تلقفت بعض السطور منها لملامستها واقع العيد ومشاعر الناس المصاحبة له.. وها هو الكاتب يروي (رفح.. يوم الخديعة) وكأني أعيش الحدث معه.. قال سأخبرك يا صديقي شيئاً مهماً: في ليلة العيد قطعت الكهرباء لبضع دقائق، خرجت كما كان أهل المخيم هارباً من الحر الذي يسكن المنازل كلها، جالستُ ابن الجيران على العتبة، وسألته مازحاً:- هل ابتعت ملابس العيد؟هذا السؤال كان من العيب التفوه به في هكذا ظروف.قال لي وأقسم وهو يفتح الكيس الأسود الذي بيده:- لدي ثلاث أبناء صغار، وها أنا اشتريت ثلاثة أكفان بيضاء، سيلبسونها صباح العيد، فربما نموت في أي لحظة، فيجب أن نكون على أهبة الاستعداد للقاء الله في ثياب جديدة ونظيفة.وهذا ما حدث في نهار أول أيام العيد.. كان الأطفال يتساقطون كورق الحنون، مدرجين باللون الحمر.وفي واقعة حيَّة أخرى يأخذنا الكاتب إلى المشهد الآخر، والموسوم: (عندما يكون البكاء ترفاً لا تستطيعه)، حيث يحدثنا بما اعتاد القيام به في أحد مراكز إيواء نازحي الحرب التي عمل بها في رفح، قائلاً: في أول أيام العيد وكما جرت العادة منذ أن عملت هناك أبعث بالضحكات وصباحات الخير في وجه من أراه من الناس، حتى أن زميلاً لي ظن أنني مخبول كنت أفعل كل ما أستطيع كي يضحك الحجر والبشر هناك.في يوم عيد الأضحى، كنت حذراً جداً من أن أقول عبارة "كل عام وأنتم بخير"، كنت أخاف أن أقذفها في وجه أحد قبل أن أتأكد من أنها لن تسبب له غصة في القلب... مررت برجل في الخمسين من عمره وجلست إلى جانبه وصبحت عليه كما يفعل الابن مع أباه، وبعدما تمتم بكلمات لم أسمعها رداً على سؤالي عن الأحوال أخذ يتحدث:- هذا يا بني أول عيد أضحى لا أقضيه في أرضي، ولا أذبح أضحيتي بيدي بين أطفالي هذا اليوم له طقوس خاصة عندي لا يكون إلا إذا مارستها بنظام مثل كل شخص في هذه البلاد، أما اليوم فهو ليس عيد بالمعنى المجازي حتى، بل هو حرب جديدة، أرادوها لنا كي نلفظ ما تبقى فينا من حياة وكرامة.أطفالي يسألونني عن خروف العيد، يقولون إن "الوكالة" سوف توزع على الأسر النازحة لحوم الأضاحي.. هل تشعر بما أشعر به الآن؟ أنظر إلى أطفالي وأبكي القهر والظلم والعوز. وفي كتاب الصحفي د. محمد المغير "من هول القصف"، الذي هو عبارة عن قصص ومشاهد ليوميات الحرب على غزة، حيث تتبع يوماً بيوم، وعلى مدار واحدٍ وخمسين يوماً واقع المأساة وسجلها بقلمه، وقد أحببت تناول بعضاً منها باختصار لما لها من دلالات ومعانٍ تعكس عظمة هذا الشعب الذي لا تلين له في مقاومته للمحتلين قناة..  شاهدنا خلال الحرب وفي أيام العيد منها عدداً من السيدات في أحد مراكز الإيواء التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) وهنَّ يقمنَّ بتجهيز كعك العيد، وحولهم الأطفال ينظرون ويلعبون. السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل من يتابع هذه المشاهد وأجواء القصف الدامي، هو: من يخطر بباله وسط حمم الموت التي تأتي من كل مكان أن يفكر بالكعك وبالعيد؟! وعندما تقترب من النساء تسمع الجواب: إنها المقاومة، هذا الكعك هو مقاومتنا للمحتل، لن نخذل أطفالنا، وسنجعلهم يحتفلون بعيدهم، لن نستسلم، ولن نفزع!!وفي قصة واقعية أخرى، مشاهدها في مقبرة الشهداء بالشيخ رضوان، حيث جلس الأب حول قبر ابنه، وأخذ يناجيه: قم يا محمد.. عد للبيت، فقد أحضرت أمك لك هدية العيد!! لا تدعها تبكي غيابك، انهض يا ولدي، الجميع في البيت بانتظارك. وقصة أخرى، حيث كان الأهل قد غادروا منازلهم متفرقين، ثم غدوا محاصرين، وفي بعض ساعات الهدوء يوم العيد ذهبوا ليتفقدوا أين دفن شهداؤهم!!وتمضى هذه القصص حول واقع العدوان وأحوال الشهداء في أكثر من مشهد في هذا الكتاب، والذي هو شهادة للتاريخ على حجم الجرائم الإسرائيلية بحق الإنسانية.وتجدر الإشارة إلى أن عيد الفطر السعيد صادف اليوم الواحد والعشرون للعدوان على قطاع غزة، حيث استشهد خلال ذلك اليوم فقط أكثر من مائة شهيد وأصيب العشرات.
ختاماً: العيد وجدلية الموت والطفولة نعم؛ قد يكون العيد ليس بالمشهد السعيد في الكثير من سنوات حياتنا، ولكن للطفولة براءتها، وهي تعرف كيف تجلب لنفسها السعادة والمرح، لن يفزعها مشاهدة الموت وتناثر الأشلاء، فهذه في ذاكرتها هي للمصطفين الأخيار، هي للشهداء، ولن ينسى هؤلاء الأطفال أن يأخذوا لهم بالثأر عندما يكبرون.. لن ينسى أطفالنا ما تفتحت عليه عيونهم، وما بلغ أسماعهم، من وقائع وأحداث، لن ينسوا مجزرة منتزه الشاطئ التي وقعت العام الماضي خلال معركة العصف المأكول، وتلك الجثث الملقاة إلى جانب الأرجوحة، حيث يتذكر الطفل مهند السيوطي؛ البالغ من العمر أحد عشر عاماً، مشهد استشهاد أصدقائه وأبناء جيرانه بجانب تلك الأرجوحة، حيث كانوا منتظرين أخذ أدوارهم للجلوس على كراسيها. يقول السيوطي لوكالة صفا: "مازالت رائحة الموت في المكان حتى بعد أشهر من المجزرة، كما أنني ما زالت أتذكر ذلك المشهد جيداً، بعدما رأيت جثث أصدقائي ودمائهم في كل مكان، وأصوات الاسعافات تملأ المكان".حتى اليوم ما زال السويطي يتذكر أصدقاءه المصابين وهم ينزفون الدماء أمام عينيه، فيما كان البقية يصرخون من شدة الألم، مضيفا "لن ننسى ولن نغفر تلك الأيام والدماء، وسيأتي يوم ننتقم من العدو فيه، كما أننا لن ندع الاحتلال يمنعنا من اللعب والعيش بحرية".هذه هي روح الفلسطيني، التي نعتز بها، حيث تنبت معه قيم الرجولة منذ نعومة أظافره؛ لن ينسى، ولن يغفر، وسيأتي يوم الانتقام.