خبر : جنازة دوما الثالثة \ بقلم: جدعون ليفي واليكس ليباك \ هآرتس

الثلاثاء 08 سبتمبر 2015 06:42 م / بتوقيت القدس +2GMT



          يبدو أن هذه هي المدرسة الوحيدة في العالم التي تحمل اسم طفل عمره عام ونصف. أمس خرجت منها الجنازة الثالثة خلال ستة اسابيع، هذه المرة جنازة أم الرضيع الذي سميت المدرسة على اسمه. ساحة المدرسة على اسم الشهيد علي دوابشة، التي منحت الاسم قبل بضعة ايام، ولافتة التخليد معلقة على حائطها، امتلأت أمس بالمعزين في حين قاموا بتشريح الجثة في معهد الطب الشرعي في نابلس. في ساعات الظهيرة المتأخرة وصلت سيارة الاسعاف للهلال الاحمر وفيها الجثة المحروقة لرهام دوابشة – الزوجة، الأم والمعلمة، التي بقي من عائلتها ناجٍ واحد هو أحمد إبن الرابعة الذي ما زال يعالج بوضع صعب في مستشفى شيبا. توفيت رهام متأثرة بحروقها في يوم ميلادها الـ 27؛ زوجها سعد لفظ أنفاسه قبل ذلك بأربعة اسابيع في الذكرى السنوية للزواج، وابنهما علي البالغ العام والنصف مات بعد أن طالته النار التي أشعلها المجرمون في بيتهم.

          رائحة قوية للدخان ما زالت تلف البيت الذي يبعد خطوات عن مدرسة علي، وكأن النار ما زالت تهدد بالانفجار من جديد. إنه منزل مربع بسيط وغير كبير، جدرانه الخارجية مقصورة باللون الرمادي وتغطيها الآن البقع السوداء بسبب النار التي اندلعت في غرفه. صالون، مطبخ وغرفة للاولاد، حيث ربى الزوجين الولدين الصغيرين وحلموا بالحياة. زجاجة الموت الحارقة التي ألقيت من بين القضبان الى داخل غرفة الاولاد النائمين، اقتلعت الحلم العائلي الصغير الذي بقي منه الآن الرماد – وثلاثة قبور.

          في وسط غرفة الاولاد ما زالت عربة علي وهي مغطاة بالعلم الفلسطيني، أما الباقي فمحروق تماما: التلفاز، الميكرو المتفحم، الستائر الممزقة، النوافذ المحطمة والأرائك المتفككة، بل وكيس مسحوق الغسيل وزجاجة صابون غسل الأواني، كل شيء بقي هنا كذكرى لأبناء عائلة دوابشة.

          "مغارة غابة – مُحكمة الاغلاق/ فراغها – مُهتك/ دائرتها – مختومة/ ترابها – محروق/ لا يوجد حجر على حجر/ لا يوجد خبز/ لا توجد نار/ لا يوجد ماء/ فيها الرماد فقط" (موشيه تبنكين).

          البيت معتم لا توجد فيه كهرباء بالطبع. والارض مغطاة بطبقة سميكة من الرماد. هدوء مزعج وصعب يقف في هذا الفراغ. يصعب البقاء بتوازن نفسي، يصعب البقاء أكثر من بضع دقائق. يمكن أن يتحول هذا البيت الى مكان لحجيج الكثير من الاسرائيليين، ولكن أمس لم يُشاهد الاسرائيليون اليهود أبدا باستثناء صحفي أو اثنين. بعض الشباب الفلسطينيين جلسوا على مدخل البيت وكأنهم يدافعون عنه من كارثة أخرى. الرسومات على الجدار في الممر جديدة: يد عليها نجمة داود تحرق سرير الطفل المحاط بالجماجم السوداء. بعد قليل، عندما ستنطلق الجنازة، سيهتف الشباب ويكررون: "اسرائيل دولة ارهاب، اسرائيل دولة ارهاب"، وكأن الصدى سيرتد من بيوت القرية.

          فوق عربة علي المحترقة علقت صورة للعائلة: أم وأب وطفل، بالاسود والابيض. صورة عادية يوجد مثلها في كل بيت تقريبا وعلى كل ثلاجة. الآن كل من هم في الصورة أموات. يصعد صوت طفل يبكي من المنزل المجاور. دوما تنتظر بتوتر واضح الميتة الجديدة. السكان يتجمعون على أسطح المنازل وعلى النوافذ. قرية فلسطينية نائية، توجد في خط هوائي مستقيم مع تل ابيب.

          في ساعات الظهيرة وقف عشرات الشباب أمس وملامح الغضب واليأس واضحة على وجوههم، وقد توزعوا على الزوايا والشوارع وعلى الطريق المؤدية الى المدرسة. حاجز طيار للجيش الاسرائيلي وفيه قوات معززة وضع على الشارع الرئيسي ومنع الجنود الاسرائيليون استمرار السفر بحجة وجود رشق للحجارة في الطريق. نحن لم نشاهد شيئا كهذا، ومع ذلك فان الأجواء في القرية كانت متوترة ومتأهبة. اثنان من أقارب القتيلة انتظرانا في المدخل ورافقانا الى المدرسة، وهناك على احد التلال البعيدة عن القرية يمكن أن يكون قتلة عائلة دوابشة قد جلسوا وضحكوا في تلك اللحظة. لم يتم اعتقالهم بعد، ويمكن أنه لن يتم. حينما تم خطف الفتيان الثلاثة جلعاد شاعر ونفتالي فرنكل وايال يفراح، تصرفت الاذرع الامنية بطريقة مختلفة تماما: "عملية عودوا أيها الاخوة" انطلقت. أحد المعتقلين في حينه، الشيخ حسن يوسف خليل، جاء أمس الى جنازة رهام دوابشة.

          الشيخ حسن هو من قادة حماس في الضفة، والد "الأمير الاخضر" (عميل "الشباك" الاسرائيلي الذي اعتنق المسيحية وهاجر)، جلس في الصفوف الاولى في ساحة المدرسة وأكثر من المقابلات مع وسائل الاعلام الفلسطينية. قتلة الفتيان الثلاثة تم كشفهم وقتلهم. أمس في دوما أرادوا رؤية نتيجة مشابهة لقتلة أبناء القرية الثلاثة.

          هناك لافتة في ساحة المدرسة كتب عليها "الاحتلال هو الجريمة الأبشع". في دوما ايضا يخطو العزاء مع التطور، يد بيد. الطلاب والطالبات في المدرسة المختلطة سيتذكرون منذ الآن هذه اللافتة كل يوم عندما يأتون ويذهبون. آيات قرآنية سُمعت طول الوقت من سماعات مسجد القرية. يلفون الحدث بأجواء الحزب. أعلام فتح من منطقة نابلس، و2 – 3 أعلام لحماس وعلم احمر واحد للجبهة الشعبية، جميعها رفعت هنا. فلسطين موحدة للحظة. البيان أعلن أن الجثة خرجت من نابلس وهي في طريقها الى دوما.

          وبعد ذلك بنصف ساعة وصلت سيارة الاسعاف وهتاف الشباب زاد ومعه ازداد الغضب: "بالروح، بالدم نفديك يا شهيد". جثة رهام أُخذت أولا الى منزل والديها وهناك أقيمت صلاة قصيرة ومن هناك أحضرت الى ساحة المدرسة التي سميت باسم ابنها. وقد علمت رهام في القرية المجاورة جوريش. ومن زارها في العناية المركزة في مستشفى شيبا عندما كانت مخدرة وتتنفس اصطناعيا قال إن وجهها لم يتضرر وكانت ملامحه مستقرة. 90 بالمئة من جسمها احترق بأعلى درجات الحروق.

          ستة جنود فلسطينيين مسلحين ببنادق قديمة حملوا جثتها وهي مغطاة بحرام من الحرير باللون البني، وبسرعة تمت تغطيتها بالعلم ووضعت على ارضية ملعب كرة السلة في المدرسة، دقيقة صمت، صلاة الجنازة وبعد ذلك أخذت الى المقبرة المهملة في القرية الغير بعيدة. بين منازل لم ينته بناؤها بعد، الطريق الى المقبرة تمر بحقول من الاشواك، واغلبية القبور مهملة. بعد بضع دقائق ستُدفن رهام الى جانب زوجها وابنها، في القبر العائلي الذي لم يخطط له أحد في القرية.

          مئات الاشخاص التفوا حول القبر والكثيرين نظروا من المباني القريبة في الوقت الذي تحدث فيه ممثلو السلطة الفلسطينية. رغم الغضب، ورغم أن هذه هي الجنازة الثالثة، ورغم أن اسرائيل لم تعتقل القتلة، فقد حافظوا هنا على ضبط النفس ولم يبدُ للحظة أن هذا الغضب يخرج عن السيطرة.

          الجد حسين جلس على كرسي بلاستيكي، وهو والد المقتولة، لحيته طويلة ولغته العبرية جيدة، وقد تحول الى شخصية معروفة في اسرائيل، وهو لم يغادر سرير ابنته وحفيده في شيبا. ملامح الاسابيع الاخيرة بدت واضحة على وجهه وقد ظهر أمس متعبا ومستنزفا، يشرب الماء ويصمت. موت ابنته التي كان وضعها الصحي حرجا منذ البداية، كان متوقعا، ومع ذلك فقد ظهر أمس وكأن هذا الرجل القوي قد يتحطم الى شظايا. هذه هي الجنازة الثالثة لأيوب عصرنا، في البدء حفيده وبعد ذلك صهره والآن ابنته. كان عليه الاسراع بالعودة الى سرير حفيده الثاني، احمد (4 سنوات)، وهو طفل محروق، جده هو كل ما بقي له من الحياة. أمس كان على قناعة أن أحمد قد فهم من أعماق نفسه أن أمه قد ماتت.