سما / وكالات / صحفي مجهول، يختفي خلف اسم “أنس”. أفضل الأخبار عنه أنه من مواليد السبعينات. وتعرض اسمه للاحتيال أكثر من مرة. وقلة فقط من فريقه الضخم العامل معه من يعلم حقيقة شخصيته. ورغم أنه “غير معلوم”، فإن ذلك لم يمنعه من حصد نحو ثماني جوائز صحفية عالمية، وأن ينال نصيباً من حديث الرؤساء في العالم، وعلى رأسهم “باراك أوباما” الذي قال عنه (رجل يخاطر بحياته، ليخبرنا الحقيقة). و من غير رجال السياسة كـ”بيل جيتس” الذي وصف عمله بأنه “يدعم العدالة المجتمعية في إفريقيا”.
“أنس” الذي يتحدث أن أول أعماله كانت تقريراً صحفياً بسيطاً عن “الرشاوي” التي يفرضها رجال الشرطة على أطفال الشوارع. ويتحدث أنه كان يظن أن الأمر بسيط، لأن الكل يعلم بشأن تلك التجاوزات. لكنه لم يكن يعلم أن الدليل القاطع الذي قدمه في التقرير قد أحدث كل تلك الضجة.
وهنا اكتشف الأمر ببساطة. المجتمع يحتاج إلى دليل قاطع، يضعه في وجه الحقيقة التي يهرب منها. ومن هنا كانت انطلاقته في عالم الصحافة الاستقصائية “الخفية”، في ضوء مبادئ ثلاثة.. كان حريصاً طوال سنوات، أن لا يغفل واحدة منها.
برامج حوارية عربية انتهت بمعارك عنيفة مباشرة !
المبادئ الثلاثة
AnasReadingPaper_still
يقوم عمل “أنس” على ثلاثة مبادئ أساسية. ويرى إن إغفال واحدة من تلك المبادئ، كفيل أن يهدم كل الجهد الرامي إليه، وهو إصلاح المجتمع.
التسمية: وهي أن لا تتحدث عن فساد ما بصورة عامة. فلا تصنع تقريراً عن المخدرات بشكل عام، بل تختار أحد رجال المخدرات باسم واضح، وتبني القصة حوله، على أحدهم أن يقع بالنهاية.
التشهير: وهو أن تضمن أن تكن قصتك قوية جداً، لا تقبل الشك. ولو كانت هنالك شكوك في الأدلة، فمن الأفضل أن تغلق القضية بالكامل. أفضل من أن تثير قضية ينجو منها الرجال المفسدون بسهولة. وكما عليك أن تضمن أن يتم نشر كل أدلتك في أكبر عدد من الوسائل الإعلامية الموجهة للمجتمع لتضمن انتشاراً واسعاً.
الحبس: ماذا لو أنك فضحت رجل أعمال فاسد، بدليل قوي، ثم لم يتم القبض عليه؟! بالتأكيد سيعطي هذا تأثيراً عكسياً للغاية، وسيزيد الرجل الفاسد فساداً، وسيشجع ذلك الأمر رجالاً فاسدين أكثر في المرات القادمة. لذا عليك أن تضمن أن تُحرك قضية كاملة ضد هذا الرجل الفاسد تنتهي بالعقاب، حتى يكون عبرة للجميع.
الدليل القاطع
maxresdefault (1)
يختفي “أنس” لشهور طويلة حتى يخرج بقصة ذات دليل قاطع. فهو ذات مرة يتنكر في صورة أب لابن مولود بتشوهات. ويذهب لدجالين يقومون بقتل الأطفال المشوهة واستخدام أعضائهم في أعمال السحر. وتنتهي المغامرة التي كان من الممكن أن تودي بحياته، إلى سجن كل أولئك الدجالين.
ثم نراه ذات مرة يريد كشف ما يحدث بسجون “غانا” من قمة الأهمال والفساد. فيتفق مع رجال ليتهموه في قضية، ويتم حبسه احتياطياً أياماً على ذمة القضية. وهناك يصور فظائع من الإهمال الإنساني، لن تصدقوها، حتى تروها في الفيديو لمحاضرته الشهيرة في TED نهاية المقال.
وذات مرة، وبالاشتراك مع شبكة “الجزيرة الإنجليزية” يخوض عالم رجال البنوك الكبار، ليصور فيلمه الوثائقي الشهير، الذي أطاح برجال دولة كثر، “كيف تسرق إفريقيا“.
ولكن لربما أشهر قصة صنعها بدليل قاطع، هي تلك عن فساد رجال الجمارك في إفريقيا، وتورطهم بتهريب المخدرات. وهو أمر يعلمه الجميع هناك، لكن أين الدليل؟
الدليل ظهر في صورة فيديو رديء التصوير، يظهر فيه فقط رجلي أمن جمارك، وبجانبهم النقود. وصور متفرقة لشحنة مخدرات. لقد كان الفيديو مثيراً للشك بشكل كبير، حتى خرج رجلا الأمن، يكذبان الأمر برمته. ويدعون أنها مجرد اتهامات باطلة. وهو الأمر الذي جعل أغلب الناس تتعاطف مع رجلي الأمن، بحجة أنهما وقعا فريسة اتهام باطل من “أنس”.
ولكن يعود “أنس” بعدها بفيديو كامل لرجلي الأمن وهما يعدان الأموال ويتفقان مع أصحاب شحنة المخدرات على السعر! لقد كان دليلاً قاطعاً، فلماذا أجله “أنس” كل هذا الوقت؟! ببساطة، “أنس” كان يريد منهم الحديث على العلن، لأن جزءاً كبيراً من الدليل كان بلسان رجلي الأمن اللذبن ظهرا يدحضان الفيديو الأول، لتظهر الكثير من التناقضات بين حديثهما و ما ظهر في الفيديو الثاني. حقاً، لقد كانت واحدة من أقوى أعمال “أنس” التي انتهت بحملة تطهير شاملة في قطاع الجمارك بـغانا.
5 وظائف تعرّضك للخطر في العالم العربي!
لماذا نحتاج الكثير من “أنس” في عالمنا العربي؟
maxresdefault (2)
بعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، ظهر على الساحة عدد ليس بالقليل من تلك الفيديوهات التي تفضح إهمالاً حكومياً في مؤسسة ما، أو قضية فساد. ولربما كان دليل الفساد مجرد شهادة لتجربة أحدهم، كتبها عن فساد تعرض له في قطاع حوله سواء كان مؤسسياً أو مجتمعياً.
ثم تكفلت شبكات التواصل بعدها بنشر الأمر. وكثيراً ما ضغط ذلك على المسؤولين لمحاولة تدارك العواقب. ولكن في أغلب الحالات، لا يتم الأمر على صورة جيدة لأسباب عدة. فإما يتواجد “الدليل” الضعيف، أو لا يتم إشهار “الدليل القاطع”، أو حتى يتم “إشهار الدليل القاطع”، لكن بدون محاسبة للفاسد، أو حتى محاولة جادة للتغيير !!
ومن هنا يحدث الأثر العكسي الذي تكلمنا عنه، ويزداد الإهمال في المستشفيات، وتستوحش تجارة المخدرات وقطع الطريق، وغيره من الفساد الذي نعلمه ولا نملك الدليل لمحاربته.
لا شك أننا في عالمنا نبتغي أكثر من نموذج لـ “أنس”، يحمل كل منهم هم قطاع من تلك القطاعات العريضة في عالمنا العربي التي استشرى فيها الفساد. “أنس” ذكي، يملك الخطط المحكمة، ويبني عمله الصحفي على مبادئ واضحة.
ويقود مع الوقت جيشاً من المتعاطفين معه لنشر القصة، وجيشاً آخر لمحاصرة الفساد في المحاكم، وجيشاً آخر لدعم القضية برمتها. وكل ذلك ليس فقط لكشف الفساد، بل لإصلاح المجتمع كهدف أخير أساسي. ولا يهم إن كان “أنس” هذا باسم مستعار أم لا. المهم أن يجيد العمل الاستقصائي، ويخلص النية، لا لمجد أو لشهرة باطلة على حساب الناس.
social-justice
منذ ما قبل عهد “رودلفو والش”، الأب الروحي للصحافة الاستقصائية ( والذي تناولنا قصته الرائعة في مقال سابق ) حتى ما بعد “أنس”، ظلت الصحافة الاستقصائية واحدة من أهم تطبيقات الإعلام المباشرة على حياة الناس. فهي قادرة على أن تنشر الوعي، وتضع المجتمعات في مواجهة مشكلاتها، وتحاصر الفاسدين بأفعالهم.
وأنت عزيزي القارئ.. إن كان لك أن تختار “أنس” عربي قادم، ففي أي قطاع تريد له أن يبدأ عمله؟ وهل تستبشر بعمل صحفي استقضائي مبشر في عالمنا العربي في الفترة القادمة، يساهم في إصلاح المجتمعات، وقتل ذلك الوحش الرابض فوق أنفاسنا، الفساد؟