الجانب المظلم
على خلاف الدلالات الإيجابية الشائعة لمفهوم رأس المال الاجتماعي، والتي تستدعي ممارسات مثل بناء العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وشبكات الثقة، وتبادل الثقافة والقيم المشتركة؛ ظهر في الآونة الأخيرة اتجاه مغاير في الأدبيات يُركز على الجوانب المظلمة لرأس المال الاجتماعي التي تعد بمثابة أرصدة قوة للتنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة.
وتبنى هذا الاتجاه الباحثون فيكتور أسال الأستاذ بجامعة ألاباني بنيويورك، وناما نجار الأستاذ بجامعة ولاية فلوريدا، وكارل ريثمير الأستاذ بجامعة ألاباني بنيويورك في دراستهم الإمبريقية بعنوان "بناء الإرهاب من الروابط الاجتماعية: الجانب المظلم لرأس المال الاجتماعي" المنشورة في مجلة "الحروب الأهلية Civil Wars " في عام 2015 .
مكامن قوة الجماعات الإرهابية
تتعدد التحليلات الهادفة لمعرفة عوامل قوة الجماعات الإرهابية، وأسباب قدرتها على التشعب والاستمرار، ما بين رأي يُرجعها إلى مدى اقتناع الأفراد بالأيديولوجية الفكرية للجماعة، ورأي يفترض أن هذا يرجع إلى بعض دعم المالي والمادي المقدم من أفراد لهم مصالح من وجودها، بيد أن هناك اتجاهًا مختلفًا يرى أن عددًا من مكونات رأس المال الاجتماعي التي ينظر إليها في الغالب نظرة إيجابية قد يكون لها تأثيرها السلبي من ناحية أخرى، لعل من أهمها:
1- العلاقات العائلية: يرتبط عادة أعضاء المنظمات الإرهابية بعلاقات عائلية، سواء أكانت علاقات قرابة بشكل ما أو بآخر، أو علاقات نسب ومصاهرة، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي علاقة الأخوة بين أيمن الظواهري الذي تولى رئاسة تنظيم القاعدة خلفًا لأسامة بن لادن، ومحمد الظواهري الذي تم اعتقاله من قبل قوات الأمن المصرية بعد إنشائه تنظيمًا إرهابيًّا يرتبط بالقاعدة.
وكذلك لم يختلف الحال كثيرًا بالنسبة إلى أسامة بن لادن الذي انضم ابنه الأكبر سعد بن لادن إلى تنظيم القاعدة، ويقال إنه يحتل منصبًا بارزًا في قيادة التنظيم في الشرق الأوسط، كما سعى أسامة بن لادن لتوطيد العلاقات بين أعضاء تنظيم القاعدة عن طريق الزواج، فقام بتزويج "سليمان بن غيث" أحد أعضاء التنظيم لإحدى بناته، وقد تمت محاكمته فيما بعد بتهمة الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية، فيما لم يختلف نهج داعش في هذا الأمر عن نهج تنظيم القاعدة؛ حيث تحرص داعش على إقامة علاقات مصاهرة بين أعضاء التنظيم.
2- علاقات الصداقة: تؤدي علاقات الصداقة بين أعضاء التنظيم الواحد إلى زيادة درجة الثقة والتضامن بين الأعضاء، كما تؤدي إلى تقوية الفكر الأيديولوجي المكون للجماعة ومعتقداتها، وتعميق الشعور بالمسئولية تجاه كل فرد من أفراد الجماعات، وقد توصلت الدراسة إلى أن غالبية العمليات الإرهابية التي تحقق أهدافها يكون هناك نسبة توافق بين أعضائها تتراوح بين 80% - 100%.
كما توصلت إلى أنه في بعض الأحيان تصل درجة الصداقة إلى عدم إمكانية رفض طلب لأصدقائهم داخل الجماعة، بما في ذلك الموافقة على العمليات الإرهابية، فعلى سبيل المثال نجحت داعش في استقطاب عدد كبير من الشباب عن طريق أصدقائهم، على الرغم من عدم اقتناع عدد منهم بمبادئ التنظيم وفكره، وهو ما تؤكده أيضًا قوة العلاقة بين زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن وأيمن الظواهري والتي تصل إلى درجة الصداقة.
3- القيم المشتركة: تُسهِّل القيم المشتركة من التفاعل والانخراط داخل التنظيم، وتزيد من احتمالية مشاركة الأعضاء في عملياته، كما أن استمرار الاختلاط بين أعضاء الجماعة يؤدي إلى تراكمها حتى تُكوِّن ما يعرف بـ"رأس المال الاجتماعي المعرفي" والذي يُقصد به القيم والمبادئ والمواقف والمعتقدات التي تُولّد السلوك التعاوني بين إحدى المجموعات.
وعلى الرغم مما يحدث الآن من تحالف بين جماعات تجمعها أيديولوجيات مختلفة، وهو ما يشير إليه البعض بـ"القفز فوق التحالفات الأيديولوجية"، فإن التحالفات بين هذه الجماعات تظل ضعيفة على عكس التحالف الداخلي الذي يقوم على قيم وأيديولوجيا مشتركة.
4- الاستناد إلى قاعدة مجتمعية: تتميز التنظيمات الإرهابية والانفصالية بقدرتها على الاستناد لقواعد شعبية تكفل قدرًا من الشرعية المجتمعية، ومن ثَمَّ تتمكن من حشد الموارد البشرية والمالية، واجتذاب المتطوعين، والاعتماد على المتعاطفين في التخفي من عمليات التعقب والمراقبة والإفلات من محاولات الاغتيال.
وفي هذا الصدد، تكشف استطلاعات الرأي التي أجريت في مناطق نشاط بعض التنظيمات الإرهابية مدى تمتعها بدعم مجتمعي واسع النطاق، ففي استطلاع الرأي الذي أجرته كريستين فير ونيل مالهوترا ، والذي شمل أكثر من 6000 باكستاني أغلبهم في مناطق بيشاور والبشتون وبلوشستان (معاقل تنظيم القاعدة وحركة طالبان)؛ أكد حوالي 47% من المبحوثين أن أنشطة تنظيم القاعدة تستهدف تحقيق العدالة والإنصاف للمسلمين حول العالم، وأشار حوالي 37% إلى أن القاعدة تسعى لتحقيق الديمقراطية، بينما أكد حوالي 47% أن تنظيم القاعدة يحمي المسلمين حول العالم.
في المقابل تضمنت نتائج استطلاع للرأي أجراه "مقياس الرأي العام العربي" Arab Barometer في اليمن تأكيد حوالي 73% من المبحوثين أن التدخل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط يُمثل مبررًا لعمليات تنظيم القاعدة ضد الولايات المتحدة. وهو ما يمكن توضيحه من خلال الشكل التالي الذي يشير إلى دور رأس المال الاجتماعي بمكوناته المختلفة كمحدد لقوة الجماعات الإرهابية:
العوامل الداعمة للانتشار الاجتماعي
لا يقتصر تأثير رأس المال الاجتماعي على نشأة الجماعات الإرهابية، والحفاظ على تماسكها فحسب، بل يمتد ليؤثر أيضًا على درجة نجاح أو فشل العمليات الإرهابية، ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى عدة عوامل رئيسية:
1- شعبية القيادة: حيث إن القائد الذي يستطيع تكوين علاقات قوية بينه وبين الأعضاء، والحصول على تأييدهم، أو بعبارة أخرى قدرته على تكوين رأس مال اجتماعي، فإن هذا يؤدي إلى إمكانية حصوله على كافة المعلومات عما يدور داخل الجماعة، ومن ثم إمكانية معالجة أي خلل قد يؤدي إلى تفكك الجماعة في فترة وجيزة، بالإضافة إلى معرفة كافة المعلومات الجوهرية التي قد يغفل بعض الأعضاء ذكرها له ظنًّا منهم أنها مجرد معلومات ثانوية، وهو ما تؤكده إحدى دراسات "فوكاياما" التي أثبتت أن درجة الثقة تزيد من تدفق المعلومات داخل أي شبكة اجتماعية.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أن التنظيمات الإرهابية عادةً ما تعتمد على العضو صاحب رأس المال الاجتماعي الأكبر لاستقطاب أعضاء جدد؛ حيث يُمثل لهم مصدر ثقة، خاصة من ناحية قدرته على الاختيار، لهذا من المهم أن يسعى رئيس الجماعة إلى القيام بهذا الدور؛ حيث إن الأعضاء الجدد عادةً ما يدينون بالولاء والثقة لعضو الجماعة الذي قام بضمهم، وبهذا يتأكد عدم حصول أي عضو آخر في الجماعة على درجة تأييد أكبر منه، مما قد يُهدد بانقسام داخل الشبكة الإرهابية مستقبلا، كذلك سيضمن سريان كافة أوامره والقواعد التي يضعها على كافة الأعضاء.
2- عدد الأعضاء: كلما زاد عدد الأعضاء القائمين بالعملية الإرهابية، زادت احتمالات نجاحها بشرط أن يكون بين هؤلاء الأفراد رصيد من رأس المال الاجتماعي. فبناءً على دراسة إمبريقية تم إجراؤها على إحدى الجماعات الإرهابية اليهودية وهي "الجماعة السرية اليهودية" اعتمادًا على عدد من المصادر الثانوية، مثل شهادات أعضاء الجماعة، والتقارير الصحفية، والحوارات؛ تبين أن أشهر عمليات التنظيم وأكثرها تحقيقًا لأهدافها قام بها عدد كبير من الأفراد، وقد تراوحت درجة قوة العلاقة بينهم بما يقدر بحوالي 80% - 85%، بل وصلت في بعض الأحيان إلى 100%.
3- البنية التنظيمية: تمكنت بعض التنظيمات الإرهابية من تطوير هيكل بيروقراطي يقوم على التخصص، وتقسيم الوظائف والمهام، وتطوير قواعد وإجراءات تتسم بالحياد. وتحتفظ التنظيمات الإرهابية بوثائق تنظيمية تضم تفصيلات حول الأعضاء، ورتبة كل منهم، والمخصصات المالية الخاصة بهم، وتمويل الأنشطة، وخرائط التنظيم، وخطوط القيادة والسيطرة داخل التنظيم.
4- درجة الديمقراطية: على خلاف الصورة الشائعة التي تفترض أن الجماعات الإرهابية عادةً ما تكون جماعات مغلقة ذات طابع فوقي تسيطر عليها القيادات العليا فقط، ولا يمكن مخالفتهم بأي حال من الأحوال، تطرح هذه الدراسة رؤية جديدة، إذ توصلت إلى أنه في حالة تكون رصيد جيد من رأس المال الاجتماعي، وزيادة شبكات الثقة بين أعضاء الجماعة، من الممكن أن يؤدي هذا إلى وجود درجة من الديمقراطية داخل الجماعة تسمح للأفراد بقبول المشاركة من عدمه في عمليات الجماعة المختلفة، أي أن مشاركتهم قائمة على الإقناع وليس الإجبار، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى نجاح العملية الإرهابية.
وفي المجمل، يُعد رأس المال الاجتماعي وشبكات الثقة داخل الجماعات الإرهابية إحدى الصعوبات التي تُضاف إلى صعوبات الدولة في عملية مكافحة الإرهاب، ومن الممكن أن تقوم الدولة بمحاولة اختراق للشبكات الاجتماعية لهذه الجماعات، إلا أنه في حال فشل هذه الاستراتيجية فقد يؤدي هذا إلى نتيجة عكسية، فلسوف يزداد الشعور بالتهديد لدى أعضائها، ومن ثَمَّ زيادة التعاون والتضامن، فيما تتمثل الاستراتيجية الأكثر ضمانًا في تأسيس رأس مال مجتمعي قوي عابر للطبقات بحيث يضم كافة الأفراد الممكن استقطابهم، ويؤسس لعلاقات تضامنية بين أفراد المجتمع.
أكاديميون في الولايات المتحدة
عرض: هايدي عصمت كارس، مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
المصدر:
Victor Asal, Na'ama Nagar, R. Karl Rethemeyer, Building Terrorism from Social Ties: The Dark Side of Social Capital. Civil Wars, Vol.16,No.4, pp.402-424.