لم يَنْقَضِ الجدل حول ممارسات العنف والتعذيب والانتهاكات الجسدية التي يرتكبها تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ"داعش" بحق المخالفين، إذ إن الاتجاه الأكثر رواجًا بين المحللين يؤكد أن توظيف العنف أحد أهم تكتيكات التنظيم لاستعراض القوة وترهيب الخصوم عبر صناعة الصورة. إلا أن اتجاهات أخرى مغايرة باتت تفسر حالة التوحش الجنسي لداعش بكونها مجرد إعادة إنتاج لأساليب التعذيب التي تبنتها بعض الدول السلطوية تجاه المعارضين، في إطار الاستناد لمقولات نظرية "العنف يولد مزيدًا من العنف".
في هذا الصدد، يُشير أستاذ العلاقات الدولية بجامعة فيرجينيا في مقاله المعنون "العنف الجنسي ونشأة داعش" الذي نشرته مجلة Survival في 19 مايو 2015، إلى أن تركيز داعش على التعذيب الجسدي للخصوم يعتبر نتاجًا لإرث نظامَيْ صدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سوريا في التعامل مع المعارضة، خاصةً أن عددًا كبيرًا من المنضمين لداعش تعرضوا لهذه الانتهاكات الجسدية على يد السلطات الأمنية في سوريا والعراق.
إرث التعذيب الجسدي:
يُمثل النظام العراقي في عهد صدام حسين والنظام السوري في عهد حافظ الأسد ونجله نموذجًا لما يمكن أن يطلق عليه "الأبوية الجديدة" والتي يقصد بها ضعف وهشاشة المؤسسات الرسمية، في مقابل قوة وغلبة العلاقات غير الرسمية في إدارة شئون الدولة. فعادة ما تكون العلاقة بين الشعب والرئيس في هذه النظم قائمة على العلاقة الأبوية التسلطية وليس على العقد الاجتماعي الديمقراطي؛ حيث يملك الرئيس إدارة كافة أمور الدولة دون تقديم تفسيرات منطقية لسياساته، أو دون أدنى قدر من المحاسبة، ويتم اعتبار أفراد الشعب بمثابة تابعين لشاغلي السلطة العليا.
ولضمان توطيد حكم هذه الأنظمة يلجأ النظام لفرض سيطرته على كل جوانب الحياة الرسمية وغير الرسمية بما فيها الحياة الشخصية للأفراد، مع فرض عقوبات صارمة لمخالفي قواعد الدولة تصل إلى حد الانتهاكات الجنسية، ولعل من أبرز مظاهر الانتهاكات الجنسية التي كانت تستخدم لقمع المعارضين:
1- الانتهاكات الجنسية الطائفية: حيث قامت السلطات العراقية بعد نشوب الثورة الإيرانية في عام 1979 بترحيل ما يزيد عن ألف إيراني من أصل شيعي، مع إيداع الآلاف منهم ومن أسرهم في السجون، والتي تعرضوا فيها للعديد من أنواع التعذيب، بالإضافة إلى اغتصاب العديد من النساء الإيرانيات قبل أن يتم ترحيلهن، وزادت هذه الانتهاكات حدة في فترة الحرب العراقية الإيرانية، وهو ما وصفه أرييل أهارم "التدخل في الحياة الجنسية للأفراد"، حيث تم الإعلان عن مكافأة مالية لكل رجل عراقي يقوم بتطليق زوجته إذا كانت من أصول إيرانية، ومكافأة مماثلة لمن يتزوج من أرامل الجنود العراقيين الذين قتلوا أو فقدوا في الحرب.
كذلك امتدت هذه الانتهاكات والممارسات العنيفة إلى المجتمع ذاته، ففي عام 2007 تم رجم فتاة إيزيدية حتى الموت لمجرد الاشتباه في إقامتها علاقة مع شاب سني، وقد تم تصوير مشهد الرجم الذي تم أمام عدد كبير من الناس، ووضعه على شبكة الإنترنت.
2- الانتهاكات الجنسية العرقية: مع حلول عام 1980 زاد نشاط الجماعات الكردية الانفصالية، وبخاصة في شمال العراق، مما دفع الحكومة العراقية إلى إطلاق حملتها التي أطلقت عليها اسم "الأنفال" لإخلاء العديد من القرى الكردية، واعتقال عدد من العناصر الكردية التي يشتبه في تورطها في التخطيط لانقلاب على الحكومة العراقية.
وقد استخدمت القوات العراقية في هذه العملية الأسلحة الكيماوية، كما قامت بإعداد معتقلات للاغتصاب الجماعي أمام أهالي المعتقلات الكرديات، فيما سعى الجنود العراقيون إلى المحافظة على حياة الأطفال الناتجين عن عمليات الاغتصاب، وهو ما تم وصفه بأنه محاولة للقضاء على الهوية الكردية؛ حيث سينشأ جيل جديد من الأطفال من أصول عربية.
3- الانتهاكات الجنسية ضد المعارضين: على الرغم من أن النظام السوري قد حاول إبعاد شبهة الطائفية والسلطوية عن نفسه بعدد من الوسائل، منها: زواج بشار الأسد المنتمي للطائفة العلوية بامرأة سنية، وإصداره قانونًا يحرم الاتجار بالبشر؛ فإن الواقع يدل على خلاف ذلك، ففي 1982 بعد قيام الإخوان المسلمين بوصف الطائفة العلوية بالكفر، والقيام بتظاهرات ضدها، تم شن حملات للقضاء على المدن المضطربة، ومنها حماة، وتم استخدام أسلحة محرمة دوليًّا في هذه الحملات، واعتقال عدد كبير من المعارضين، والقيام بحملات منظمة لاغتصاب نسائهم، بالإضافة إلى انتهاكات جنسية متعددة ضد المعتقلين.
فيما زادت حدة هذه الانتهاكات بعد اندلاع الثورة السورية في 2011 ضد بشار الأسد؛ حيث ذكر أحد تقارير الأمم المتحدة أن عددًا كبيرًا من المعتقلين كانوا يتعرضون لاعتداء جنسي، بالإضافة إلى الاعتداء على الأطفال القُصَّر أمام ذويهم، وقد ذكر التقرير أنه قيل نصًّا لبعض المسجونين إنه لن يتم إيقاف عمليات التعذيب والاعتداء عليهم وعلى عائلاتهم إلا بعد قيامهم بالاعتداء الجنسي على نساء المعتقلين الآخرين.
4- التشريعات المجحفة: وضع نظامُ صدام حسين بدايةً من عام 1990 عددًا من التشريعات الخاصة بجرائم الشرف، وتوسع في تعريف الجرائم التي يُمكن وضعها ضمن هذا النطاق، كما جاءت العقوبات الخاصة بالنساء مبالغًا في شدتها مقارنة بالعقوبات الخاصة بالرجال، ووصلت تلك العقوبات إلى الإعدام. ففي عام 2000 تم إعدام أعداد كبيرة من النساء لممارستهن أعمالا منافية للآداب.
وقد ذُكر في حيثيات الحكم أن الإعدام قد جاء نتيجة لإساءتهن لشرف العراق، وهو الحكم الذي يُمثل عدم مراعاة السياق، إذ إنه في ذلك الوقت انتشرت حوادث خطف النساء من أجل إجبارهن على ممارسة السخرة الجنسية، فوفقًا لتقديرات إحدى المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال المرأة، يُقدر عدد النساء العراقيات اللاتي تم اختطافهن في هذه الفترة بحوالي 2000 إلى 3500 سيدة، وذلك خلال أربع سنوات فقط.
- أنماط الانتهاكات الجنسية لدى داعش:
لم تكن الممارسات الاستبدادية والتحكمية في حياة الأفراد لتنظيم داعش سوى امتداد ومحاكاة لممارسات النظم السابقة على قيامها، فعلى سبيل المثال يتجه أعضاء تنظيم داعش إلى التعامل مع الأسرى الأمريكيين والبريطانيين بنفس الطريقة التي كانت تحدث في سجن أبو غريب، وتتمثل أهم أنماط الانتهاكات الجنسية لداعش في:
1- الاسترقاق الجنسي: تمثل عمليات الاتجار بالبشر أحد الموارد الرئيسية التي يعتمد عليها التنظيم في تمويل أنشطته، فقد اتجه تنظيم داعش إلى خطف العديد من النساء، والاتجار بهن، بغرض استخدامهن في أعمال منافية للآداب، وقد عثرت القوات الكردية على 600 سيدة مخطوفة من قبل التنظيم بعد استردادهم لسد الموصل في أغسطس 2014، وتم اكتشاف أنهن كُنَّ يتعرضن لكافة أنواع الانتهاكات الجنسية، مع القيام بتأجيرهن للأماكن التي تُمارس أعمالا منافية للآداب.
2- الاعتداء على الأطفال: على الرغم من أن تنظيم داعش يحرم الاعتداء على الأطفال، وإقامة العلاقات الشاذة، مع تطبيق عقوبة قاسية على من يقوم بهذه الأفعال بإلقائه من أعلى المباني المرتفعة، فإن التناقض يتضح بمراجعة ممارساتهم المختلفة، فقد ذكر أحد تقارير الأمم المتحدة قيام أعضاء التنظيم بالاعتداء على العديد من الأطفال بعد قيامهم بمهاجمة مخيمات الإيزيديين في جبل سنجار. كما تم الكشف عن قيام التنظيم بالاعتداء على المنضمين الجدد من الرجال، وتصويرهم، بهدف ابتزازهم ومنعهم من مغادرة التنظيم، كما أن هذه العلاقات الشاذة تستخدم كتوطيد علاقات الأخوة بين أعضاء التنظيم.
3- الزواج القسري: يقوم العديد من الأهالي بإجبار فتياتهم على الزواج من أعضاء التنظيم، فقد ورد في عدد من التقارير أن قيمة ما يدفعه عضو التنظيم الأجنبي لأهل الفتاة يقدر بحوالي مائة ألف دولار، بالإضافة إلى التهديدات التي يمكن أن تلحق بهم في حال رفضهم، في المقابل يوفر هذا الزواج لأهل الفتاة قدرًا كبيرًا من الحماية، كما قام عدد من شيوخ القبائل باستخدام هذا النوع من الزواج من أجل تعزيز التحالف السياسي بينهم وبين داعش، وبعد الزواج قد يحدث تبادل للزوجات بين أعضاء التنظيم.
4- جهاد النكاح: قامت داعش بإنشاء ما يعرف بـ"كتيبة الخنساء" في فبراير 2014، والتي امتدت فروعها في مدينة الرقة وشرق سوريا، لتضم الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 18 إلى 25 عامًا، وقد استخدمت داعش وسائل متعددة لتجنيد هؤلاء الفتيات لعل من أهمها: مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلانات على شبكة الإنترنت عن الحاجة لشغل وظائف كالتمريض والقتال وغيرها.
وتُعد المهمة الأساسية لأفراد كتيبة الخنساء تفقد نقاط التفتيش في أطراف المدن، والتأكد من مطابقة ملابس النساء لمواصفات الزي الإسلامي، كما يُخصص هؤلاء النساء لما يعرف بجهاد النكاح، والذي يتضمن الزواج بشكل شفهي ولساعات محدودة لكل مقاتل، وهو الأمر الذي يمثل خروجًا على تعاليم الشريعة الإسلامية.
أمن الجسد .. ومواجهة داعش:
تختلف الآراء حول الاستراتيجية التي يمكن من خلالها إيقاف تمدد تنظيم داعش، لا سيما بعد اقتطاعه أجزاء كاملة من دول، وإحكام سيطرته عليها في إطار سعيه لإقامة ما أطلق عليه "دولة الخلافة الإسلامية". وتعد إحدى العقبات الرئيسية أمام وقف تمدد التنظيم هو وجود عدد ليس بالقليل من المؤيدين له من أبناء المناطق التي فرض سيطرته عليها، وذلك على الرغم من كافة أنواع العنف والانتهاكات التي يقوم بها التنظيم ضدهم.
وبينما يرى عدد من المحللين أن هذا يعود إلى الإيمان بمشروعهم الفكري، أو الدعاية المضللة لتنظيم داعش، فإن آخرين يبررون ذلك بأن عنف الدولة وممارساتها في كثير من الأحيان تكون أكثر حدة مقارنة بممارسات داعش، ومن ثَمَّ فإن داعش قد تمثل بالنسبة لهم الخيار الأفضل ضمن مجموعة من الخيارات الأسوأ.
من ثَمَّ، فإن الاستراتيجية المناسبة من المفترض أن تبدأ بالعمل على تحسين أحوال المواطن الداخلية، وترسيخ احترام آدميته داخل مؤسسات الدولة المختلفة، بداية من وضع تشريعات دولية واتفاقيات صارمة تسمح بإجراء محاكمات سواء أكانت داخلية أم خارجية في حالة انتهاك حقوق الإنسان، مع فرض عقوبات على الدول التي ترفض الالتزام بهذه القواعد، يتزامن مع هذا ضرورة إجراء تدريبات منتظمة لكيفية إجراء التحقيقات بأساليب احترافية دون اللجوء لوسائل العنف والانتهاك الجسدي.
كما أن إحدى العقبات الرئيسية أمام محاولات الدول لوقف تمدد داعش هي عدم إمكانية عودة الضحايا خاصةً من النساء اللاتي تعرضن لانتهاكات جسدية، حتى في حالة وجود فرصة للعودة، وغالبًا ما يتم استخدامهن لدعم أعمال التنظيم، واستقطاب مزيد من المتطوعات الجدد.
وقد ذكر أحد تقارير الأمم المتحدة أن أعضاء التنظيم بعد اعتدائهم على النساء يسمحون لهن بإجراء اتصال هاتفي يُخبرن فيه ذويهن بما حدث لهن، وهو الأمر الذي يترتب عليه رفض عودتهن أو تهديدهن بالقتل حال عودتهن، خاصةً في المجتمعات القبلية المنغلقة، وبناءً على هذا قامت الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الدولية بتوفير مناطق آمنة لضحايا الانتهاكات الجنسية، إلا أن إمكانية الوصول للضحايا الراغبين في العودة وعدد المناطق لا يزال ضئيلا.
في السياق ذاته، يجب على الدول رصد المهربين والوسطاء الذين يقومون بمساعدة داعش في الاتجار بالبشر والنفط، حيث يعتبر كل منهما أحد أهم مصادر التمويل للتنظيم، والتعرف على الطرق التي يتخذها المهربون، والقيام بإجراءات تأمين إضافية، وقد يتطلب هذا الأمر تعاونًا من الدول التي تقع على حدود سوريا والعراق في تأمين حدود كلا الدولتين.
إجمالا.. يمكن القول إن الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان، والتصدي للانتهاكات الجسدية؛ باتت تُمثل بعدًا مركزيًّا في أي استراتيجية لمواجهة تنظيم داعش، لا سيما وأن ممارسات النظام السلطوية كانت بمثابة البيئة الحاضنة لتمدد وانتشار التنظيمات المسلحة التي توظف العنف المنهجي في مواجهة خصومها، إلا أن تعقيدات الصراعات الأهلية الممتدة ذات الطابع الصفري في سوريا والعراق تعترض إمكانية تحقق هذا السيناريو في ظل استعصائها على التسوية، وتشبث كافة الأطراف باستمرار الصراع حتى القضاء على الخصوم.
الكاتب: أرييل أهارم
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة فيرجينيا
عرض: منى مصطفى محمد، باحثة في العلوم السياسية.
Ariel Ahram, " Sexual Violence and the Making of ISIS", Survival: Global Politics and Strategy, vol. 57, no. 3, May 2015, PP 57-77.