سما / وكالات / أثناء مناوبتي في قسم طب الأمراض الجلدية في مستشفى برزبن الملكي شد نظري كثرة المراجعين الذين يقوم الطبيب المتخصص بفحص جلدهم كاملاً بشكل يدوي من فروة الرأس إلى أخمص القدمين وذلك بغرض التأكد من خلوهم من سرطان الجلد بأنواعه.
هؤلاء الأشخاص – المعرضون أكثر من غيرهم لهذا النوع من السرطان أو من أصيبوا به من قبل – الذين تبلغ أعدادهم عشرات الآلاف، يراجعون أطباء الجلدية كل ٣ إلى ٦ شهور وإن وجد الطبيب بقعة مريبة صغيرة (بعضها بعرض أقل من نصف سنتيمتر) فإنه يفحصها بمكبر يدوي “ديرماتوسكوب” وفي الغالب يطلب خزعة منها لفحصها مخبرياً أو ربما أزال قطعة الجلد كلها من باب الاحتياط قبل فحصها.
نتيجة لذلك تجد الكثير من المرضى المترددين على العيادة تملأ جلودهم ندبات مختلفة الأحجام.
قبل أن نستمر في المقال، دعني أوضح لك باختصار بعض النقاط حول سرطان الجلد.
هناك ثلاثة أنواع رئيسية: سرطان الخلية القاعدية Basal Cell Carcinoma، وهو أكثرها انتشاراً وأقلها خطراً، وسرطان الخلية الحرشفية Squamous Cell Carcinoma، وهو ثانيها من ناحية الانتشار وأخطر قليلاً من سابقه.
أما الثالث فهو الأخطر على الإطلاق وإن كان نادر الحدوث، إنه سرطان الميلانوما Melanoma. هذا النوع يتميز بحجمه الصغير ولونه الغامق الذي يشابه شامة أو وحمة جلدية بريئة، لكنه ينمو داخلياً بشكل سريع وإذا لم يتم استئصاله فإنه ينتقل خلال فترة وجيزة إلى أعضاء أخرى مثل الدماغ مما يؤدي للوفاة خلال شهور فقط!
تجارب جنونية على البشر لمجرمي حرب تحت مسمى أطباء!
خطورة هذا النوع بالتحديد تحتم الحرص على الفحص الدوري المستمر مدى الحياة لذلك تجد جزء كبير من وظيفة طبيب الجلدية – بالذات من يعمل في المناطق المشمسة غالب السنة ويقطنها ذوي البشرة الفاتحة كحال أستراليا – يذهب في هذا الفحص المرهق (والبدائي نوعاً ما).
تخيل لو كانت هناك طريقة أسهل وأسرع وأكثر دقةً وأماناً لتشخيص سرطان الجلد بدون تقطيع جلد المريض الذي لا داعي له! بلا شك سيفضلها كل طبيب جلدية ومريض مراجع، أليس كذلك؟
بعد مشاركتي للطبيب في هذه الفحوصات المملة بدرت في ذهني فكرة ذكية اعتقدت أنها غير مسبوقة !
تسآلت عن إمكانية فحص الجلد عن طريق الضوء وتحديد ما إذا كانت البقعة حميدة أم خبيثة بشكل آني ولحظي بدل تقطيع مناطق من الجلد وفحصها لاحقاً بعد يوم أو اثنين، خاصة وأنه يقابل كل عينة سرطانية تذهب للمختبر، ٢٥ عينة أخرى سليمة استؤصلت من باب الحيطة.
اعترتني النشوة وأنا عائد للبيت ظاناً أن معي فكرة “المليون دولار” التي ستيسر حياة أطباء الجلدية وتنقذ المرضى من تقطيع جلودهم الذي في الغالب يضر ولا ينفع.
بدأت بالقراءة في خصائص السرطان الضوئية ومصادر الضوء المناسبة لكشفه بصرياً بدون الحاجة لفحص مخبري مستعيناً بقواعد البيانات للأبحاث مفتوحة المصدر والتي ساعدت غير المتخصصين أمثالي في الوصول إلى قمة المعرفة البشرية بدون مقابل بل والمشاركة في تنميتها..
ولنا في قصة “جاك أندراكا” ذو الخمسة عشر ربيعاً الذي ابتكر جهازاً تشخيصياً لسرطان البنكرياس أكثر فعالية بمئات المرات وأرخص ثمناً بآلاف المرات بالاستعانة بهذه المصادر المفتوحة للجميع
تشخيص سرطان الجلد ضوئياً .. فكرة المليون دولار !
جاك أندراكا
للأسف – وربما لحسن حظ الأطباء والمرضى – تفاجأت بأن فريقاً من الأطباء والمهندسين بولاية تكساس الأمريكية قد أعلنوا عن اكتشاف مطابق لما كنت أتخيله قبل ٦ شهور فقط.
الجهاز بسيط وخفيف ويطلق ثلاثة أنواع من الإشعاعات كل واحد منها له ميزة على الآخر، وبالتالي يمكن التفريق بين البقع الجلدية بشكل دقيق وسريع جداً !
أصابتني خيبة الأمل في البداية أحسست أنه لا يمكن أن يأتي شخص بفكرة لم تطرأ على بال أحد قبله، خاصة ونحن في عصر المعرفة والتقنية، ثم مالبثت أن فكرت بشكل أعمق في استثنائية الزمان الذي نعيشه فيه الآن.
تاريخ المستشفيات والطب.. بين حضارة الماضي، وقوة اليوم، ودهشة الغد! – تقرير
في كل قارة تجد الآلاف وربما ملايين من الباحثين الذين وظفوا عقولهم وحياتهم بالكامل لابتداع وابتكار حلول جديدة لمشاكل البشر والعمل ليل نهار في تطبيقها وتطويرها. لا يهم ماهي جنسياتهم أو انتماءاتهم الفكرية أو السياسية أوالدينية أوالعرقية.
تجدهم يعملون جنباً إلى جنب لصالح الإنسانية أجمعها ويتعاونون فيما بينهم بلا تعصبات وطنية. فعلاً العلوم وأبحاثها تعطينا درساً قيماً في توظيف قدراتنا وطاقاتنا وأوقاتنا بلا تشتيت ولا إسفاف وذلك للغاية الأسمى التي تتفق عليها أمم الأرض وهي نفع إخواننا وأخواتنا البشر..
بل ويستمر النفع في أحيان كثيرة ليشمل الكائنات الأخرى والأرض التي نعيش عليها. تخيل لو أن نصف شباب أمتنا العربية – أو حتى ربعهم – انشغلوا في المجالات العلمية وانغمسوا في الأبحاث الجادة بدل تضييع الأوقات في برامج الترفيه والعبث والجدال السطحي العقيم، يا ترى كيف سيكون حالنا بين أمم الأرض؟!


