بعيدا عن إدراك تعقيدات الوضع الفلسطيني ، حاول بعض الناطقين والقياديين الفلسطينيين رفع سقف التوقعات من اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية وإعطاء الانطباع بأن المجلس سيحدث تغييرا جوهريا في مجريات الأمور على الساحة الفلسطينية والمواجهة مع الاحتلال .
وحاول البعض القول صراحة بأن المجلس سيقرر وقف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. وكان من الطبيعي أن تؤدي تصريحات هؤلاء إلى استجلاب الضغط الخارجي على الرئيس محمود عباس بالذات باعتباره الرجل رقم واحد في منظمة التحرير وذراعها المجلس المركزي وحركة فتح والسلطة الفلسطينية . وبالفعل فقد مورست عليه ضغوط من اتجاهات عدة عربية ودولية وكان من ضمنها اتصالات هاتفية مباشره تحذر حينا وتهدد حينا آخر ، وتدعو الى عدم التصعيد واتخاذ أي قرار يزيد من تعقيد الأمور أكثر مما هي معقدة على حد زعم هؤلاء.
ومن الواضح أن الذين حاولوا رفع سقف التوقعات من اجتماع المجلس المركزي لم يكونوا قد أعطوا أنفسهم الفرصة للتفكير في بنية وصلاحيات وولاية المجلس المركزي ولا في مجمل الوضع السياسي الذي تمر به منظمة التحرير أو السلطة أو المنطقة ، ولم يُفكروا في التداعيات التي من الممكن أن تحدث لو تم اتخاذ هذا القرار. ولربما أيضا ، أولئك الذين أخذوا هذه التصريحات مأخذ الجد وسارعوا للإتصال أو الضغط على الرئيس عباس للحيلولة دون أخذ مثل ذلك القرار.
فالمجلس المركزي هو الجسم المصغر للمجلس الوطني الذي تضخم عدد أعضائه متجاوزا الثمانمئة والذي لم يحدث أبدا أن تم اختيار أعضائه بالانتخاب المباشر والذي هو تجسيد لكوتات نقابية وجغرافية وفصائلية أغلبها من الشتات ، والذي يضم أعضاء بلغوا من الكبر عتيا إذ عينوا منذ المجلس الأول عام 1965 ، وتوفي الكثير ومرض وعجز الكثير ، فقام الرئيس الراحل ياسر عرفات وبعبقريته المعروفة وانتزع قرارا من المجلس الوطني بتخويل صلاحياته للمجلس المركزي إذا تعذر عقد اجتماع المجلس الوطني فأصبح المجلس المركزي ، وبحكم الأمر الواقع هو المجلس الوطني ولكن بعدد مصغر يمكن دعوته وعقد اجتماعاته كلما كانت هناك حاجة للقيام بمظاهرة قوامها وجوهرها هو .." نحن هنا "! تُعطي هؤلاء الأعضاء شُعورا بالارتياح والرضا عن النفس والاعتقاد بأنهم شركاء في القرار بل يملكونه رغم أن ذلك ليس هو واقع الحال!
وإذا كان المجلس الوطني وفي المراحل الأولى بعد إقامة المنظمة وخاصة بعد هزيمة عام 1967 ودخول الفصائل المسلحة إلى داخل المجلس الوطني واللجنة التنفيذية ثم سيطرتها التامة بقيادة فتح على المنظمة ، قد تحول إلى قوة حقيقية ، فإن دور هذا المجلس بدأ يذوي مع الوقت إلى أن تآكل نتيجة الاندماج الذي تم بحكم الأمر الواقع أيضا بين قيادة المنظمة وحركة فتح لكون الرئيس الراحل ياسر عرفات ظل يقف على رأس هذين الجسمين لعشرات السنين ولأنه أصبح مع الوقت الشخصية الوحيدة التي يُجمع عليها الجميع لتكون القاسم المشترك بينهم ، ولانتفاء وجود أي منافس حقيقي له على زعامة المنظمة أو ترؤس اللجنة التنفيذية.
ولأنه بحكم شخصيته الفذة المتميزة مارس نمطا خاصا من السلطة أدى إلى تمركز القوة والمال بيده واستطاع دائما أن يمرر ما شاء من القرارات لدرجة أدت إلى التهميش الفعلي لأعضاء اللجنة التنفيذية وتحولهم إلى كويكبات تدور في فلك الرئيس الراحل تتجاذب معه ولكنها لا تستطيع أن تعيش خارج مداره! وهكذا فقد أصبح الرئيس عرفات مهيمنا على قرارات المجلس الوطني واللجنة التنفيذية تاركا هامشا للجميع لكي يقولوا ويصرحوا ويهددوا ويتوعدوا ولكنهم في النهاية لا يخرجون عن خطه. وتحول ذلك إلى منهج في العمل الفلسطيني.
ولقد أدى اتفاق أوسلو وتولي الرئيس الراحل ياسر عرفات رئاسة السلطة الوطنية إلى توسيع دائرة نفوذه وإلى مزيد من الخلط أو التداخل بين المجلس الوطني واللجنة التنفيذية والسلطة الفلسطينية ، وبدأت حالة غريبة ملفتة للنظر وهي أن المنظمة التي يُفترض أن تكون المظلة التي تعمل تحتها السلطة الفلسطينية باعتبارها جسما مؤقتا مرتبطا بعملية أوسلو نجحت أو فشلت ، قد أصبحت من الناحية العملية مرتبطة ماديا بالسلطة الفلسطينية مع كل ما لذلك من إضعاف لدور مؤسسات المنظمة التي لا يمكن أن تعمل دون توفير الموارد المالية المستقلة عن السلطة الفلسطينية. وأدى هذا مع الوقت ، إلى تفريغ مؤسسات المنظمة من مضمونها وهيمنة القيادة الفردية على القرار الجماعي.
وعلى هذه الخلفية يمكن فهم مطالبة الفصائل الأخرى بما في ذلك تلك التي لم تكن في يوم من الأيام جزءا من مكونات منظمة التحرير ، بتفعيل مؤسسات المنظمة وإعطائها دورها الحقيقي في تقرير الاستراتيجية المرحلية والمستقبلية للشعب الفلسطيني. ولا يعتقد أحد بأن من الممكن أن يحدث ذلك بسهولة للقناعة بأن من يملك الصلاحيات لا يتنازل عنها طوعا أو بسهولة !
ولا بد من الاقرار بأن المجلس المركزي لا يملك القرار النافذ وبأن القرار الحقيقي بيد القيادة ممثلة اليوم بالرئيس محمود عباس.
ليس هذا فقط بل إننا إذا ناقشنا الموضوع من زاوية قانونية بحتة ، فإن أمامنا حالتين : الاولى هي افتراض أن المجلس المركزي هو سلطة تشريعية منتخبة أي أنه برلمان ، وفي هذه الحالة فإن مهمة البرلمان هي المراقبة والمساءلة والتشريع . أي أن البرلمانات تسن القوانين أما ما تتخذه من قرارات فإنها لا تكون قرارات ملزمة للسلطة التنفيذية ، وقد لاحظنا ذلك مؤخرا عندما قام عدد من البرلمانات الأوروبية بالتصويت بالأكثرية على الاعتراف بالدولة الفلسطينية ولكن حكومات هذه البرلمانات لم تنفذ قرار البرلمان لأنه ليس ملزما لها ، وإنما تكون له الأهمية المعنوية لا غير.
وأما الحالة الثانية وهي الأقرب إلى الحقيقة والواقع فهي أن المجلس المركزي ليس سلطة تشريعية منتخبة وبالتالي فإنه لا يملك أصلا أية صلاحية تشريعية لسن القوانين ، كما أنه لا يملك أية صلاحية ملزمة للرئيس الذي انتخب مباشرة وبالانتخاب الحر المباشر من الشعب – رغم انتهاء مدة ولايته واستمراره في الحكم لضرورات الأمر الواقع والمصلحة الوطنية العليا - ، وبالتالي فإن أحدا لا يستطيع أن يخدع نفسه ويعتقد بأن قرار المجلس المركزي بشأن وقف التنسيق الأمني ملزم للرئيس أو لأي جهة تنفيذية تتلقى تعليماتها من الرئيس باعتباره رأس السلطة التنفيذية بما فيها الحكومة ومؤسسة الرئاسة وما ينبثق عنهما أو يتصل بهما من مؤسسات أو أجهزة .
وثمة كلمة أخيرة قبل أن أنهي هذه العجالة، وهي التساؤل عما إذا إذا كان دُعاة وقف التنسيق الأمني يُدركون التداعيات أو التبعات التي تترتب على هذا القرار. فمن السذاجة الاعتقاد بأنه إذا اتخذت السلطة الفلسطينية قرارا بوقف التنسيق الأمني فإن إسرائيل ستصاب بالذعر وتركع على ركبتيها طالبة إعادة التنسيق الأمني. فالتفكير بشكل واقعي يقود إلى الاعتقاد بأن أي قرار فلسطيني بوقف التنسيق الأمني ستتبعه قرارات إسرائيلية بتشديد الحصار على السلطة الفلسطينية ووقف التنسيق المدني وشل عمل العديد من أجهزة ومؤسسات السلطة بما في ذلك تعطيل سجل السكان وتعطيل عمل دوائر المواصلات والترخيص ووضع العقبات والحواجز الداخلية والمنافذ الخارجية وعلى الجميع .
أي بعبارة أخرى فإن وقف التنسيق الأمني يعني إعلان الحرب على إسرائيل وعلينا أن نفكر جيدا في ذلك ونُعد له العدة بما في ذلك الأخذ بعين الاعتبار بأن هذا القرار سيكون مقدمة لحل السلطة والدخول في متاهة ودوامة من الفوضى ومحاولة طرح البدائل للسلطة أو الانقضاض عليها ، ووقوع مواجهات شعبية شاملة مع الاحتلال لا يمكن ضبطها أو السيطرة على تداعياتها . ويبقى السؤال وهو ما إذا كان الداعون لوقف التنسيق الأمني قد فكروا في هذه السيناريوهات المحتملة وأعدوا لها!


