خبر : غزة وسربية سميح القاسم : أنا متأسف ...بقلم: عادل الأسطة

الأحد 31 أغسطس 2014 09:33 ص / بتوقيت القدس +2GMT
غزة وسربية سميح القاسم : أنا متأسف ...بقلم: عادل الأسطة



في أثناء الحرب على غزة استحضرت نصوصاً أدبية قديمة لأدباء كانوا رحلوا عن عالمنا: معين بسيسو ومحمود درويش ويوسف الخطيب.
أدرجت هذه على صفحات الفيسبوك وأنجزت عنها مقالات في الصحف، لم يشهد معين بسيسو (1984) ومحمود درويش (2008) أياً من حروب غزة الثلاث في السنوات الست الأخيرة، وكان يوسف الخطيب كتب قصيدته "رأيت الله في غزة" إبان الانتفاضة الأولى. وفي أثناء الحرب على غزة كان الشاعر سميح القاسم يكابد أوجاع السرطان الذي أخذ يفتك في جسده، وكان سميح قد شهد الحروب الثلاث 2008 ـ 2009/2012/2014، ومع ذلك فلم يلفت نظري أي نص له عن غزة.
ربما أنا الملوم بسبب عدم قراءتي نصوص سميح قدر قراءتي نصوص درويش، لكن أيضاً لا أقرأ نصوص معين قدر قراءتي نصوص درويش، بل إنني قليلاً ما قرأت يوسف الخطيب الذي سرعان ما تذكرت قصيدته الوارد ذكرها. لماذا؟ الآن عنوانها لافت؟ ولماذا تذكرت نصوص درويش ومعين ولم أتذكر نصوص سميح؟ الأن غزة وردت في عناوين بعض كتابات درويش؟ ولأن معين هو ابن غزة؟ ربما.
قصيدة سميح القاسم التي حضرت في الحرب على غزة هي قصيدة "تقدموا، تقدموا"، وقد بثت مغناةً بكثرة، وهي قصيدة كتبها الشاعر في أثناء الانتفاضة الأولى، وذاعت ذيوع قصيدة درويش "عابرون في كلام عابر"، بل إنها غالباً ما درست معها، كما فعل ناقد هو المثنى عطية الذي درس القصيدتين وأصدر دراسته في كتاب ضم أيضاً القصيدتين.
هل كانت حربا غزة 2008 ـ 2009/2012 مرّتا دون أن يكتب عنهما سميح شيئاً، هو الذي ما مر عام عليه، في العقود الأخيرة، إلاّ أصدر ديوان شعر، وكانت الأحداث الكبيرة محفزاً له للكتابة؟ إن عدد دواوين سميح يقول لنا إنه كان يصدر كل سنة، تقريباً، ديواناً: ستون ديواناً في مسيرة شعرية قاربت الـ 56 عاماً.
ومن المؤكد أن الشاعر كتب عن غزة، وخص حروبها بقصائد. سربية "أنا متأسف" (2009) كتب بوحي من حرب غزة الأولى.
في مقابلة أجراها محمد بكري مع سميح، وبثتها الفضائية الفلسطينية مراراً، وآخرها صباح الجمعة 22/8/2014، لمناسبة موت الشاعر، قال سميح إنه كتب هذه السربية، بعد حرب غزة 2008/2009، وأنه تأثر لمناظر القتل ولعدد الإعاقات، وأنه فيها يدحض الفكر الصهيوني الرجعي وينقضه.
دحض الفكر الصهيوني ونقضه بدأ في الأدب الفلسطيني منذ قرأ الفلسطيني نجيب نصار في 1905 مقالة بالإنجليزية عن الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين، واستمر هذا النقض والدحض منذ ذلك التاريخ: سليمان التاجي الفاروقي وأشعار إبراهيم طوقان "في الرد على رئوبين شاعر اليهود" وناصر الدين النشاشيبي "حفنة رمال" (1962) و"حبات البرتقال" (1964) وغسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969) ومحمود درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (1968) و"الكتابة على ضوء بندقية" (1971) وسميح القاسم "إلى الجحيم أيها الليلك" (1977) و"الصورة الأخيرة في الألبوم" (1976) ومن قبل هذين العملين رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) و.. و.. حتى أنني في العقود الثلاثة الأخيرة غدوت أخوض في هذا الموضوع، وفي هذه النصوص، كما لم يخض أحد فيها من قبل.
حقاً لمَ لمْ تبرز هذه السربية إلى وسائل الإعلام في الحرب الأخيرة على غزة؟ لمَ لمْ تنشر منها مقاطع على صفحات الفيسبوك وفي الجرائد؟ ألأنها قصيدة طويلة يصل عدد صفحاتها إلى 146 صفحة؟ أم لأنها قصيدة فكرية بالدرجة الأولى، وكما أقر سميح فإنه أراد منها أن يدحض الفكر الصهيوني؟ أم لأن الكتابة عن غزة فيها كانت قليلة وباهتة، وبالتالي فإنها بدت وكأنها لا تمت إلى غزة بصلة؟ أم لأن الشاعر فيها يكثر من عبارات لا يستسيغها الناس إبان الحرب الوحشية المدمرة؟
ترد العبارات التالية في السربية بكثرة، بخاصة في الصفحات الأخيرة: أنا يا أخي يا عدوي، يا صديقي اللدود، يا صاحبي وعدوي، أخوك أنا يا عدوي اللدود، أخوك فلا تختصرني، يا أخي وعدوي العزيز، يا صاحبي وعدوي اللدود، يا أخي وعدوي الوجيه، فهل كانت هذه العبارات، مثلاً، سبباً مهماً في عدم الالتفات إلى السربية؟ وهل هي السبب الأهم؟ أم يعود السبب إلى أن زمننا ما عاد زمن الشعر؟ أم أن إكثار سميح من الكتابة هو المسؤول عن عدم شيوع أشعاره وحفظها ومتابعتها، وهو ما أشرت إليه في مقال الأحد الماضي؟
في كتابه "ولدت هناك.. ولدت هنا" (2009) يتوقف مريد البرغوثي أمام غزارة الكتابة، فيكتب: "يقولون إن الوجع الدائم يشكل باعثاً على الكتابة، ولا أصدق هذا الهراء. الوجع يشكل عائقاً للكتابة أحياناً. أعد نفسي شاعراً مقلاً في نهاية المطاف وأعجب لأولئك الذين ينشرون أربعين أو خمسين ديواناً بحجة أن معاناتهم "مستمرة".
الوجع التاريخي عبء على القصيدة، لأن تاريخيته تعني أنه مزمن، وكل مزمن ممل، من التهاب الرئة إلى التهاب القوافي...." ويتابع الكتابة عن رأيه في شعر المقاومة: "نحن نعيش "وجعاً مزمناً" و"مقاومة مزمنة" منذ أكثر من قرن. شعراء العالم كتبوا شعراً مقاوماً لسنة أو سنتين ثم عادوا لشعر الحياة العادية. كم سنة يقاوم الناس وكم سنة يكتب شعراؤهم شعراً مقاوماً. المقاومة الفرنسية لم تزد على أربع أو خمس سنوات عاد بعدها آراجون دايلوار، وسواهما إلى تجريبهم الشعري ولعبهم الجمالي على هواهم." (245/246).
رأي مريد رأي فيه نظر، ويمكن أن يساءل، ويمكن أن يؤخذ به جزئياً، ويمكن أن تبدى فيه وجهات نظر مؤيدة ومناقضة".
كل مزمن ممل، من التهاب الرئة إلى التهاب القوافي". ـ ألاحظ هذا حقاً، فحين تزورني أخواتي ونتحدث عن داء السكر المزمن فينا، يمل أولادهم وقد يعقبون ساخرين منا: سكر، سكر، سكر، دائماً الحديث عن السكر ـ ولكن السؤال الذي يُسأل هو: ماذا لو عاشت فرنسا سبعين عاماً تحت الاحتلال النازي، لا أربع أو خمس سنوات فقط؟ هل كان آراجون وآيلوار سيكفان عن كتابة شعر المقاومة؟
وكما ذكرت، فإن الكتابة عن غزة في "أنا متأسف" التي أنجزت في شهرين على أكثر تقدير، (الرامة 21/1/2009 في نهاية الديوان/ السربية) تبدو خجولة، بل إن دال غزة لم يتكرر إلاّ مرات قليلة جداً، وهذا إذا ما قورن بكتابة محمود درويش النثرية "صمت من أجل غزة" (1973، يوميات الحزن العادي) بدا شاحباً وقليلاً. ألتكرار دال غزة في النصين أهمية وباعث على الانتشار والتذكر؟ ربما.
في ص55 يأتي سميح على الحافز الرئيس الذي جعله يكتب: فقدان الشاب الغزي لؤي بصره بسبب الحرب، وبتر ساقي الشابة جميلة، وقصتهما قصة حرب، لا قصة حب مثل قصة قيس وليلى وروميو وجولييت، فماذا يقول الصهيوني؟ يقول سميح: "لقيس وليلى حكاية حب جميلة/ ولروميو وجولييت رواية عشق طويلة/ فماذا تقول لعينيّ "لؤي" وماذا تقول لساقي "جميلة"؟ / أتعرف كيف تقول "أنا متأسف"/ أتعرف؟" (55، 56).
"لماذا تقص الجديلة/ لتجدل مشنقة تتدلّى عليها رقاب الطفولة/ وتسمل عينين حالمتين بنور قليل/ يجوب السماء القليلة/ أتغلب عيناً سملت وتغلب ساقاً بترت/ وتغلب قلباً سحقت ورأساً قطعت/ أتغلب؟ لا أنت تهزم/ وتذوي وتهرم/ وأنت تهون وتسقط.. والله غالب/ هو الله غالب/ فقل متأسف/ أنا متأسف".
سميح القاسم المتكلم في القصيدة يتأسف للإسرائيلي الصهيوني، فولادة سميح هي السبب في قتله، ولو لم يولد لما كان اليهودي الصهيوني قاتلاً. سخرية لا شك، ودال: أنا متأسف هو الأكثر حضوراً في النص الذي يعيد فيه سميح مقولات ظهرت في نثره ومقالاته وهو يدحض الأدب الصهيوني يوم كان شيوعياً وملتزماً. وربما تذكر المرء وهو يقرأ "أنا متأسف" رواية أحمد حرب "الجانب الآخر لأرض المعاد" وما قاله إميل لليهود وهو يحاورهم: فقط اعترفوا بأخطائكم وبما ارتكبتم، ولنعش معاً في دولتين. وآمل ألاّ تكون الذاكرة خانتني.