بالنظر إلى ما كان يواجهه اتفاق وقف إطلاق النار، استنادا، ليس إلى نص المبادرة المصرية التي أعلنت منذ الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة، فان التوصل لاتفاق وقف النار كان بحد ذاته إنجازا عظيما للإدارة المصرية، وللرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيا، الذي أبدى حزما يبدو أن الرجل يمتاز به، كما أبدى إصرارا وجلدا لا يتمتع به إلا الجنود الأشداء، على أن يحقق الإنجاز، ولم يفت من عضد الرجل وجود قوى إقليمية مؤثرة على أطراف فلسطينية مهمة، في معادلة الحرب والسلم، لا ترغب مطلقا في تسجيل أي إنجاز سياسي ذي طابع إقليمي للرجل، الذي تناصبه العداء منذ أن تدخل بجيشه، حين كان قائدا مباشرا له، إلى جانب الشعب المصري في ثورته الثالثة في 30 يونيو من العام الماضي 2013.
وطوال نحو ستة أو سبعة أسابيع، وغزة " تتقلى " في مقلاة الحرب الضروس، والشعب يتمنى أن تتحقق المعجزة، اليوم قبل الغد، ويتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار، لم تهدأ القاهرة، كما لم يهدأ الرئيس الفلسطيني، في طرق أبواب الصدود في أكثر من عاصمة عربية وإقليمية، لحقن دماء الفلسطينيين، التي باتت أشبه بكرة قدم تتناقلها أقدام هواة السياسة، في عرض أشبه ما يكون ببازار عرض النفوذ لأكثر من طرف وأكثر من جهة، وكان يمكن للقاهرة بكل بساطة _ خاصة بعد عاصفة التصريحات والإعلانات المتباينة، إن لم تكن المتضادة، والتي كانت تصدر تباعا وفي اللحظة ذاتها عن أكثر من شخص ينتمون لنفس الحركة السياسية الواحدة، وذلك ترافقا مع كل جولة تفاوضية _ أن تصاب بالإحباط وان يصيب اليأس القيادة المصرية، فتغلق أبوابها، وتعمل بالمثل " يا دار ما دخلك شر "، لكن قاهرة المعز لدين الله الفاطمي لم تفعل.
ابتدعت القاهرة، التي كانت تعلم منذ البداية صعوبة التفاوض، وشبه استحالة التوصل لاتفاق، اقتراحا ذكيا جدا، وهو " تفنيط " الحل لمرحلتين، أولى _ تتمثل بوقف إطلاق النار، وثانية تأخذ وقتا، وتجري بهدوء ودون ضغط الوقت والدم، وتهدف للتوصل إلى حل دائم.
وحين تعذر هذا أيضا، كان ابتداع الفكرة العبقرية، متمثلة بالهدنة الإنسانية لمدة ثلاثة أيام، تبعتها أخرى، ثم ثالثة، قطعها خرق بإطلاق النار، قبل انتهائها بساعتين، ثم اغتيال لقادة حماس الميدانيين، ثم تحول في مجرى الحرب، استمر أسبوعا تميز باستهداف الأبراج السكنية والمجمعات التجارية، إضافة إلى اغتيال قادة الصف العسكري الأول في القسام.
ورغم أن هذا ربما كان رسالة باستحالة التوصل لوقف النار، إلا أنه أيضا لم يفت في عضد القاهرة، فواصلت جهودها الدؤوبة، حتى كان لها ما أرادت، في نهاية المطاف.
ورغم أن اتفاقا نهائيا لإطلاق النار، لم يتم بعد، حيث أن الاتفاق نفسه يقول بوقفه لمدة شهر، يتم خلالها التوصل لحل، وإلا فإنه يمكن أن يعني عدم التوصل لحل دائم، العودة وان كان ليس فورا، ولا بنفس الشكل أو الطريقة لتبادل إطلاق النار، إلا أن ما تحقق بحد ذاته، يعتبر انجازا، كما انه من الصعب على الطرفين، أو احدهما أن يعاود إطلاق النار بعد أسبوع أو حتى قبل ساعة من انتهاء مدة الشهر المحددة وفق الاتفاق المذكور، دون أن يفكر ألف مرة، في ردة فعل شعبه من جهة، كذلك في تحميله تبعات الحرب لاحقا، من قبل المجتمع الدولي.
أغلب الظن، أن الفصل التفاوضي القادم، سيجري بهدوء أكثر، كما انه سيرضي غرور الطرفين، حين يسألان عن عدم عودتهما بتحقيق كل ما أعلناه من أهداف للدخول في هذه الفصل من المواجهة العسكرية الدامية، كما أنه قد يفضي إلى مفاوضات أعمق تبحث في ملف الاحتلال من كل جوانبه، بما يحقق رغبة إسرائيلية في متابعة التفاوض مع الجانب الفلسطيني، وبما يحقق مطلبا فلسطينيا بتفاوض جدي يضع حدا لاحتلال ولا يكون إشكاليا حين تشارك فيه هذه المرة كل القوى الفلسطينية.
والأهم، هو بالطبع التأكيد على حقيقة مكانة مصر، بغض النظر عن اختلاف طبيعة وجوهر من يجلس في قصر الاتحادية، ودورها المركزي والخاص في رعاية الملف الفلسطيني، في الحرب والسلم، وما يعنيه ذلك من عودة لمكانة مصر باحتلال الموقع القيادي الإقليمي الذي يليق بها، فها هي بعد نجاحها في ليبيا وغزة، تتطلع إلى حل الملف السوري، فإذا ما نجحت، يمكن القول بان السيسي قد ظفر بمكانة عبد الناصر، ليس في قلوب وعقول المصريين وحسب ولكن في قلوب وعقول الفلسطينيين وربما العرب، في لحظة من أصعب لحظات تاريخهم الحديث. فهنيئا لغزة وفلسطين ومصر وألف شكر للرئيس السيسي ولأجناد مصر الذين تابعوا ملف التفاوض بصبر وعزيمة حتى حققوا المعجزة التي بدت للحظة، وكأنها مستحيلة.
Rajab22@hotmail.com
رجب ابو سرية