في العاشر من حزيران الراهن, اجتاح وسائل الإعلام العربية خبر سيطرة تنظيم دولة العراق والشام وثوار العشائر على الموصل, السقوط الذي بدا كأول أحجار الدينامو مع تسارع الأخبار عن تمدد سيطرة الثوار “السنة” على مناطق انسحاب الجيش التابع للحكومة العراقية, حيث خلال أيام من ذلك تمددت هذه السيطرة نحو نينوى وبيجي وأجزاء من الأنبار وامتدت الاشتباكات إلى بعقوبة على حدود بغداد وديالى على حدود إيران ليسقط معبر القائم الحدودي مع سوريا ويقترب تنظيم “دولة العراق والشام” من الحدود الأردنية أيضاً, في حدث يبدو أنه كان مفاجئاً لا للحكومة العراقية وحسب وإنما للمجتمع الدولي نفسه, الذي بدا مرتبكاً في ردود فعله الأولى وخططه للتعامل مع الوضع الجديد, وإن كان الإجماع –في الظاهر- شبه متحقق على تسبب السياسات الطائفية التي اتبعها المالكي المتماهي مع المشروع الإيراني التوسعي, وانسداد الأفق السياسي أمام العرب السنة في العراق, إلى ما آلت إليه الأمور.
ولئن كانت صورة “داعش” قد طغت على وسائل الإعلام وردود الفعل, فإن الوضع ميدانياً أكثر تعقيداً من اختزاله بهذا التنظيم الأكثر إشكالية في التيار الجهادي, ولكنه في الوقت نفسه أقلّ سماحاً بالتهوين من دور التنظيم الكبير في السيطرة على المدن وغنائم السلاح والأموال التي أضافت إلى رصيد القوة لديه.
فمع وضوح مشاركة فصائل جهادية على خصومة مع التنظيم مثل أنصار الإسلام وجيش المجاهدين والجيش الإسلامي في العراق, إضافة إلى المجلس العسكري لثوار العشائر القوة التي تبدو الأكثر عدداً, وانبعاث الجيش العراقي ما قبل الاحتلال في هذه العملية من خلال مشاركة ضباطه في هذا المجلس أو في “جيش رجال الطريقة النقشبندية” أو تنظيم “داعش” نفسه, إذ إن عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي يحمل في بنيته الطائفية عوامل تفجره المتراكمة والتي تضرب لا في الحاضر وحده وإنما في التاريخ القريب والبعيد, إن العصر الجديد الذي بشّر به المحافظون الجدد وطبّقه الحرس الثوري الإيراني كرس التاريخ كمحرّك كامن دوماً تحت الإجابات اللامحسومة للفتن التي لم تنم إلا في خطب المؤتمرات.
الثورة السورية: أقلمة المحلّي
منذ 18 آذار 2011 ابتدأت الثورة السورية كانتفاضة مجتمع محلّي ضد السلطة التي عرّفت كجسد غريب, تمددت الانتفاضة من مدينة درعا إلى بلدات حوران المجاورة بوازع من التضامن العشائري والمحلي, والمظلومية والغضب المتراكم تجاه نظام الأسد, وقامت بشكل مواز انتفاضات للمجتمع المحلي في ريف دمشق والساحل وحمص لم تلبث أن تمددت لتشمل قسماّ كبيراً من المجتمعات المحلية (السنيّة) خارج المدن الكبرى مع حراك مدني ذي سمة “وطنية” في المدن, ولئن حضر الهمّ الإقليمي في أسباب هذه الانتفاضة وتوسعها بسبب سياسات نظام الأسد الطائفية داخليا وخارجيا, والتي تماهت في سنواته الأخيرة مع المشروع الإيراني الإقليمي, ما أدى إلى توسعة إطار الغضب وأسباب اللامشروعية للنظام شعبيّاً, إضافة لموجة الثورات العربية, إلا أن المحلّي كان له الأولوية على ما هو إقليمي أو ايديولوجي أو حتى وطني.
تطور الحراك المسلح في الثورة السورية كامتداد مسلح للمجتمع المحلي قبل أن يتطور لتشكيلات أكثر تنظيماً وأدلجة, ومع نهاية عام 2012م كان الثوار السوريون قد استطاعوا السيطرة على معظم مناطق الحاضنة الشعبية للثورة, في الريف السنّي, أو حتى ضمن المدن الكبرى في حمص أو حلب أو أحياء جنوب دمشق, رغم تضخم حجم الضحايا والدمار والفارق النوعي في موازين القوة, إلا أن التقدم الواضح للثوار وصل إلى تهديد النظام وتطويقه في العاصمة نفسها حين كان الصراع ذا طابع وطني من طرف الثوار أو النظام, مع استثناءات لا تغير الطابع العام بوجود أعداد قليلة من “المهاجرين” المنتمين للتيار السلفي الجهادي في صفوف الثوار, أو ضباط الحرس الثوري الإيراني وقياديي حزب الله في طرف النظام.
لكن هذه الاستثناءات لم تلبث أن حاولت تأسيس قواعدها مع وضوح المدى الطويل للحرب السورية, والإرادة الدولية لتكريس الصراع نحو الديمومة, وشهد عام 2013م الانقلاب الإقليمي على التقدم المحلّي للثوار السوريين, بعدما شعرت إيران أن النظام في تهديد حقيقي فبدأت بضخ قيادات الحرس الثوري الإيراني و الميليشيات الشيعية العراقية واللبنانية للقتال ضد الثوار السوريين, وبعدما شعرت “دولة العراق الإسلامية” أنها أمام فرصة لبناء عمق استراتيجي لها في سوريا, مع ما حمله تدفق المهاجرين وتنامي النزعات السلفية الجهادية الأكثر تطرّفاً من إمكانية لإقامة هذا المشروع.
بدأ طرفا النقيض في الأزمة الطائفية التي عصفت بالعراق منذ ما بعد الاحتلال بتصدير فائض القوة غير المستعملة إلى سوريا, مع هدوء المواجهات في العراق, لأن الميليشيات الشيعية شبه مسيطرة على الحكومة العراقية من ناحية, ولأن دولة العراق الإسلامية خسرت معظم مناطق سيطرتها ومواردها في الناحية المقابلة, ليمارس كلا الفريقين العراقيين توسعة مناطق نفوذه لكن لا على حساب عدوّه العراقي, وإنما على حساب الخصم السوري المشترك المتمثل بالثوار السوريين, الذين كانوا في مواجهة احتمالات ضئيلة بحلّ مشكلتهم ليجدوا أنفسهم من غير إرادة جزءاً من المشكلة العراقية التي تخلّت منذ زمن بعيد عن فكرة “الحلّ”.
شهدت مرحلة ما قبل الأقلمة إذن سيطرة الثوار السوريين على الجزء الأكبر من ريف حلب إدلب ودمشق ودرعا ودير الزور, وسيطرة جزئية ضمن مدن دمشق وحمص ودير الزور ودرعا, وسيطرة كاملة على مدينة الرقة, فما الذي تغيّر بعد ذلك.
بين فكي العراق
أ- الميليشيات الشيعية
غني عن القول إن حضور الحرس الثوري الإيراني في أجهزة الأمن السورية سابق على الثورة السورية, وتضخم مع بدء الثورة ومساعدة الإيرانيين بالخبراء والمدربين لهذه الأجهزة, إلا أن الضخ المنظم المقاتلين الشيعة ضمن جسر إمداد إقليمي نحو سوريا, بدأ مع شعور النظام الإيراني بكون النظام السوري دخل مرحلة التهديد.
ظهرت أول قوة شيعية مختلطة بين سوريين وعراقيين من خلال لواء أبو الفضل العباس في آب 2012م, ولم يلبث أن توسع وتضخم تدفق الميليشيات العراقية نحو سوريا, ليبدأ منذ منتصف 2013م تشكيل ميليشيات عراقية في سوريا باسم الفصائل الأم بشكل معلن, ضمن تدفق مستمر, غطى معظم جبهات القتال من الجنوب حتى الشمال, ليبلغ عدد المقاتلين العراقيين الشيعة في سوريا حوالي 20 ألفاً.
مع هذه القوة المساندة والعقائدية والتي توضع كخط دفاع أول, بالإضافة للدعم النوعي الذي تلقاه بمشاركة حزب الله اللبناني الذي استطاع حسم معركة القصير ويبرود ورنكوس, ويشارك في معظم المعارك كقياديين ومقاتلين, استطاع النظام استعادة أحياء جنوب دمشق وقسماً كبيراً من بلدات ريف دمشق, ضمن اقتحام عسكري أو اتفاقيات هدنة, واستطاع السيطرة على جبال القلمون والقسم الأكبر من الحدود مع لبنان, ليستعيد السيطرة على المنطقة الوسطى بعد أن كانت في معظمها خارج نطاق سيطرته.
ومع حزيران 2013م استطاع النظام استعادة الريف الجنوبي لحلب الذي يمثل طريق الإمداد نحو المدينة, في معركة بلغت مستوى متقدّماً من العنف والغزارة المدفعية, ليصل مع أيار 2014م إلى التهديد بحصار القسم المحرر من مدينة حلب, مركز القوة الأضخم والأهم للثورة السورية.
وتشكل الميليشيات العراقية النسبة الأكبر بين المقاتلين الشيعة غير السوريين, وأدارت في الفترة السابقة مع الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني معظم جبهات القتال, مع تولي النظام التغطية المدفعية والجوية.
ب- دولة العراق والشام
أعلن عن تأسيس “دولة العراق الإسلامية” في 15 تشرين الثاني 2006م بقيادة (أبو حمزة المهاجر) وهو مصري الجنسية كقائد عسكري, و(أبو عمر البغدادي) كأمير للمؤمنين, وقامت القوات الأمريكية باغتيالهما في 19 نيسان 2010م, ليعيّن بعده (أبو بكر البغدادي) الأمير الحالي.
كانت علاقة الدولة بالقاعدة متوترة منذ البداية, لأن الدولة تجاوزت القاعدة ايديولوجيا وتنظيمياً, لكن القاعدة الأم لم تظهر اعتراضاتها على سلوك أبي مصعب الزرقاوي ثم دولة العراق الإسلامية كما ظهرت في مراسلات أبوت أباد, بل أعلنت الوقوف معها في وجه خصومها أكثر من مرة, إلى أن وصل الموقف إلى القطيعة الجذرية مع الثوة السورية, ضمن محطات عدة كان أهمّها مقتل (أبو خالد السوري).
أعلن عن قيام تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في 9 نيسان 2013م, كدمج لدولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة, القرار الذي رفضته الأخيرة, دون أن يمنع ذلك انحياز نسبة كبيرة من المهاجرين إلى الدولة الجديدة, التي بدأت مسيرتها بالسيطرة على مقرات جبهة النصرة ومستودعاتها.
تغلغل التنظيم وتمدد عبر ممارسات سلطوية وقمعية, ومتعمداً على خطاب تكفيري أحادي, وعلى نكوص الفصائل الأخرى عن مواجهته حتى بداية العام الراهن, ليأخذ من الثوار السوريين محافظة الرقة وبلدات منبج وجرابلس والباب, ويتمدد إلى ريف دير الزور في اشتباكات لم تزل قائمة حتى الآن, ويتسبب في اغتيال العشرات من قادة الفصائل الثورية وجبهة النصرة, إضافة لقتل المئات من المقاتلين والنشطاء والمدنيين بفقه الاستباحة المطلقة للآخر المرتدّ وجوباً, وليتسبب عدا عن عزل الجبهة الشمالية عن الجبهة الشرقية, في زعزعة وتفكيك هذه الجبهات نفسها, بتمثيله تهديداً دائماً ومحتملاً, وتسببه بانشقاق الكثير من المقاتلين خوفاً من الدخول في “الفتنة”, وليقدم للنظام الصورة الأكثر نموذجية وتطرّفاً لما يريد أن يروّجه عن البديل لنظامه العلماني حامي الأقليات.
بعد عام من ربيع 2013م إذن اكتمل خريف الثورة السورية التي خسرت سيطرتها على الجبهة الوسطى الاستراتيجية وشاسعة الامتداد عدا عن كونها خط إمداد مهمّاً من لبنان, وتراجعت سيطرتها على الجبهة الشمالية أيضاً, وعلى محافظة الرقة, كما فقدت الجزء الأكبر من الموارد النفطية والمائية والزراعية التي يسيطر عليها تنظيم داعش في الجبهة الشرقية باستمرار ليؤمن اتصالاً جغرافياً واقعيا بين جناحي الدولة الافتراضية.
ثورتان وإقليم واحد: مآلات المعركة
مع تعدد الفصائل المشاركة في قتال نظام المالكي, وعدم اقتصارها على تنظيم الدولة, إلا أن هذا التنسيق المؤقت مع فصائل المقاومة العراقية وثوار العشائر, لا يبدو أنه سيغير استراتيجية التنظيم على المدى الأبعد, خاصة لحرصه على السيطرة على المدن وإعلان التحكم بها منذ البداية, كما فعل في الموصل ونينوى, حيث أصدر وثيقة المدينة في 12 حزيران الراهن والتي نصّت على قتل من يرفع أي راية أو يتبع أي سلطة غير سلطة التنظيم في “ولاية نينوى”, فيما يوحي أن الشراكة المؤقتة مهيّأة للانفجار, خاصة مع حاجة ثوار العشائر والفصائل الأخرى إلى دعم إقليمي لاستكمال مطالبها سيتعذر وجوده مع ارتباطهم بالتنظيم.
ورغم سرعة السيطرة على محافظة الموصل, ومدينة تكريت وبلدات عدة في محافظة صلاح الدين وكركوك, وبدء الهجوم على محافظة ديالى التي تقع على حدود بغداد وإيران, إلا أن وتيرة السيطرة تباطأت مع تجاوز المجاميع الشيعية مرحلة الصدمة وانتقالها إلى تحصين بغداد وإعادة تعبئة وتجييش قواتها داخل العراق (يوم السبت 21 حزيران قام جيش المهدي وعصائب أهل الحق وحزب الله العراق باستعراضات عسكرية ضخمة منفصلة), أو انسحابها إليه من سوريا (ظهر قائد لواء ذو الفقار –وهو ميليشيا عراقية شيعية تشكلت في سوريا أساساً- في العراق بعد أيام من سقوط الموصل, كما بدأت فصائل أخرى انسحابها إلى العراق).
فيما بعد العاشر من حزيران سيطر الثوار السوريون على بلدتي “أم شرشوح” و”الثورة” في حمص, وتقدم الثوار على جبهة “جوبر” في دمشق, وتكبد حزب الله خسارة كبيرة في “عسال الورد” في القلمون, كما سيطروا على 6 بلدات في ريف حلب الجنوبي, والملاحظ في أخبار التقدم هذه غياب القتلى العراقيين (أو قلّتهم عن المعارك السابقة) رغم وجودهم الطاغي في معظم هذه الجبهات, في ريف حلب خاصة, ما يوحي بانسحابات مؤثرة في هذه القطاعات.
إلا أن انسحاب الميليشيات الشيعية هنا وهناك لم يصل بعد إلى تشكيل النسبة الغالبة من هذه الميليشيات, من جهة بسبب عدم استعداد كثير من هذه الفصائل للسفر, خاصة مع تزايد الاعتماد على الطيران بعد سيطرة الثوار و “داعش” على جزء كبير من الخط الحدودي مع العراق, ومن جهة أخرى بسبب عدم وصول المعركة بعد إلى تهديد المناطق والمراقد الشيعية في العراق, وعدم اتضاح القرار الإيراني بخصوص المواجهة, ومع التزايد المستمر لانسحاب الميليشيات الشيعية نحو العراق إلا أن الحدث الذي سيشكل الفارق الأهم هو بدء معركة بغداد, التي يبدو أن الجميع, العراقيين والعرب والإيرانيين والمجتمع الدولي, ينتظرها ليبدأ رسم الخرائط القادمة, بينما تأخر الثوار السوريون في استغلال هذا الضعف في الجبهات نتيجة انسحابات العراقيين حتى الآن.
على الجانب الآخر, فإن تنظيم دولة العراق والشام, لم ينشغل بمعارك العراق عن معاركه في الشام, والتي تمثل له عمقه الاستراتيجي ومركز انطلاقه وتمويله الأهمّ, مع التنويه بالفارق في استراتيجية التنظيم وعلاقته بالأرض بين البلدين, فالتنظيم الذي اعتاد أن يكون مطارداً وملاحقاً في العراق لسبع سنوات, استقرّ وسيطر وحده على مدن بأكملها في سوريا, ووفّرت له الموارد المتمثلة بالنفط والقمح والماء مقوّمات دولة واقعية, تتمدد على مناطق سيطرة الثوار المنفصلة فيما بينها, والمشتتة في فصائلها واستعدادها للمواجهة, ما سمح للتنظيم أن يتمدد منذ آذار الراهن في المنطقة الشرقية, ليبلغ أوج تمدده مع الحملة التي شنّها بداية أيار الراهن ليجتاح ريف دير الزور الغربي وبلدات في الريف الشرقي ويهدد بحصار المدينة, ولم يتوقف هذا التمدد بعد 10 حزيران الحالي, بقدر ما توسع, ففي 21 حزيران الراهن أعلن التنظيم سيطرته على مدينة الموحسن وبلدات البوليل والبوعمر في ريف دير الزور (واستطاع الثوار استعادة الموحسن بعد ذلك), وفي 24 حزيران أعلن أمير جبهة النصرة في البوكمال فراس السلمان والقيادي أبو يوسف المصري بيعتهم للتنظيم, ليتقوى احتمال سيطرة التنظيم على البوكمال, وليقترب أيضاً من الميادين ضمن خطة –تنجح باستمرار- لوصل العراق بالشام والسيطرة على طرق الإمداد, مع سيطرته على معبر القائم الحدودي واقترابه من الحدود الأردنية, دون أن يقتصر توسع التنظيم أثناء احتدام معاركه في العراق على المنطقة الشرقية الحدودية, ففي 22 حزيران شن حملة عنيفة –لم تنجح- على مدرسة المشاة في ريف حلب, ما لا يضع حدوداً للتمدد.
ويبدو أن مستقبل التنظيم في سوريا, مرهون أيضاً بمعركة بغداد, وقرار التنظيم إما خوض المواجهة أو الانسحاب وبدء حرب استنزاف طويلة الأمد, وهو الخيار الأقرب لاستراتيجية التنظيم السنوات السابقة, ما يعززه صعوبة استمرار التحاف المؤقت – أو تحييد الخلاف- مع القوى السنيةالأخرى. ولكن على الحالين فإن ما لا شك فيه أن التنظيم تضاعفت قوته مع غنائم معركة العراق والمقاتلين الجدد الذي ساعد على وجودهم ترميم التنظيم جزءاً من حاضنته الشعبية بسبب سياسات حكومة المالكي الطائفية التي حلّ كبديل عنها, وأن فائض القوة هذا سيتجه للتخزين أو القتال ضد الثورة السورية, التي تمثل الطرف الأضعف والأكثر تشتتاً والأقل دعماً ضمن خصوم التنظيم.
ثمة طرف ثالث هنا لا ينبغي تهميشه, وهو الطرف الكردي الذي يبدو أنه أول من استفاد من الصراع بسيطرته المباشرة والسريعة على مدينة كركوك بحجة حمايتها من هجوم “داعش” بعد انسحاب الجيش الحكومي منها, واقترنت هذه السيطرة باشتباكات مع تنظيم دولة العراق والشام ما زالت مستمرة, ما يضعف من حظوظ “العرب السنة” بالحليف الكردي المعارض والمنافس للمالكي, وما يؤثر إيجاباً على الفصائل الكردية في سوريا, على مستوى المشروعية الميدانية أو الدعم المادي أو العمق الاستراتيجي أو الانهيار الجغرافي الحاصل الذي يسمح بقدر أعلى من التواصل.
العراق ليس هو العراق دوماً, ولا سوريا
لا يمكن بطبيعة الحال اختزال التأثير العراقي على الثورة السورية بتنظيم داعش والميليشيات الشيعية, لأن التجربة الجهادية تداخلت على مستوى الخبرات والقيادات ضمن معظم الفصائل السورية المقربة من التيار الجهادي, حيث قاتل قسم كبير من القادة في العراق وراكموا خبرات عسكرية وتنظيمية هناك, وهذا ظاهر في الجبهة الإسلامية أو جبهة النصرة أو التنظيمات السلفية الجهادية الأصغر, وهذه “الخبرة العراقية” لم تؤثر على مستوى التكتيكات العسكرية المستخدمة فقط, بقدر ما أثرت في توسيع التشكيلات المحلية إلى تحالفات أوسع جغرافيّاً بقدر ما تعتمد على الايديولوجيا والرمزية الجهادية أكثر من الدافع المحلي المحدود للقتال, وهذا الموروث العراقي بالإضافة إلى موروث سجن صيدنايا لدى قيادات المجموعات السلفية السورية ما يفسر أكثر جذور الصراع والقطيعة مع تنظيم دولة العراق والشام.
وهذا التداخل يمتد للفصائل العراقية أيضاً والتي شارك بعضها –بصمت- في معارك ضد النظام السوري, عدا عن كون سوق السلاح السوداء في العراق رافداً مهمّاً للجبهات الشرقية والشمالية, لكن هذه العوامل وجدت نفسها مستدخلة في الإشكالات التي فجّرها الطرفان في سوريا, ميدانياً في مواجهة الميليشيات الشيعية, وأيديولوجيا في مواجهة تنظيم داعش, الذي بقي يمثل الفتنة المنوّمة لدى التيار الجهادي العالمي الذي تأخر عن إدانة التنظيم وإعلان القطيعة معه في العراق, ليجد نفسه مجبراً على ذلك بعد أن أصبح مهدّداً بخسارة شعبيته الصاعدة في سوريا, أو بخسارة حياة ما تبقى من قياداته ومنظريه هناك.
إن الكلام عن تأثير عراقي قد يكون هو نفسه غير دقيق تماماً أيضاً, بحكم أن عراق ما بعد الاحتلال وما قبل الدولة, لم تعد أزماته عراقية صرفاً, بقدر ما أصبح منطقة لنفوذ المشروع الإيراني وسيطرته التي استغلت المظلومية الشيعية المتراكمة هناك, ومنطقة لأخذ تجربة التيار الجهادي العالمي إلى أقصاها مع أبي مصعب الزرقاوي ثم دولة العراق الإسلامية, التي مثلت اتجاه ما بعد القاعدة وما قبل التاريخ في الآن نفسه, في ظل صمت عربي عن إيجاد حل أو حتى منطقة نفوذ ضمن هذا العراق الجديد, لقد كان العراق ضحية السياسات الطائفية والسكوت عن الفتن وانسداد أفق التمثيل السياسي, ليكون ساحة تصفية للصراعات الإقليمية ومحرقة للأزمات الدولية, في حلقة امتدت بشكل عفوي وعضوي إلى سوريا بعده.
يوضح هذا على الجانب السوري ما قاله زعيم حزب الله اللبناني في إحدى كلماته لخصومه في لبنان: من كان لديه مشكلة معنا فليواجهنا في سوريا, قوبلت هذه الكلمة الواثقة من حسن نصرالله باستنكار غاضب من المعارضة السورية, بسبب تعاملها مع سوريا كمكان مستباح بلا ذاكرة أو “مواطنين” أو فضاء خاص , إنها محض ساحة مكرسة للحرب وأخذ الخلافات إلى أقصاها كحقّ عام لا فرق فيه بين عربي وأعجمي إلا بنوع سلاحه, ولكن حسن نصر الله كان أكثر واقعية واتساقاً مع التوجه الدولي لتحويل سوريا إلى محرقة للإرهابيين ومنفى لأزمات المنطقة, وصوت الحرب ما زال أعلى كما قال أحمد سعيد ذات يوم.
خلاصات
تاريخيا, كانت العلاقة بين العراق والشام إشكالية ومتداخلة, ومع طغيان المشروع الإيراني التوسعي وإعادة إنتاج الهويات على أساس طائفي كما حصل العقد السابق, فإن أزمات البلدين تبدو وثيقة الصلة بقدر ما يضاعف ذلك ارتباط البلدين بالمشروع الإيراني التوسعي ومحاولة النظام الإيراني فرض الهيمنة على الحركات الشعبية المعارضة للأنظمة المرتبطة به.
خلال أول سنتين من الثورة السورية, حافظ الصراع على قدر كبير من محلّيّته ووطنيّته, ووصل إلى سيطرة المعارضة على القسم الأكبر من الحواضن الشعبية للثورة, وتشكيل تهديد للنظام, ما ردّ عليه الإيرانيون بضخ الميليشيات الشيعية من العراق ولبنان ما ساهم منذ ربيع 2013م في إعادة النظام السيطرة على الجبهة الوسطى وإضعاف الجبهة الشمالية.
على الطرف الآخر فإن تنظيم دولة العراق والشام وجد انتعاشة قوية له في سوريا التي تمدد فيها, وأعاد تشكيل الخارطة السورية على مستوى التحالفات الميدانية أو الايديولوجية, واكتسب طاقة دفع مهمة بحكم الموارد التي حقّقها والمناطق التي سيطر عليها وتمتع بإقامة آمنة نسبياً دون أن يمثّل مصدر أمن لجيرانه, عدا عن تمثيله أكبر أزمة تعصف بالتيار الجهادي العالمي الذي انتهت رموزه إلى القطيعة الجذرية مع التنظيم, ورغم الحرب مع التنظيم بداية هذا العام إلا أن عدم استمرارية هذه الحرب أدى بالتنظيم إلى السيطرة على محافظة الرقة وقسم من الريف الشرقي لحلب, والتمدد نحو دير الزور ليسيطر على جزء كبير من آبار النفط وييستطيع تأمين طرق الإمداد نحو العراق.
أما في العراق, فقد ساهمت سياسات المالكي الطائفية وتماهيه مع المشروع الإيراني وسد الأفق السياسي أمام العرب السنة, في قيام ثورة العشائر السنية التي تحالفت مع فصائل المقاومة العراقية, وتحالفت مؤقّتاً مع تنظيم الدولة في المعارك الأخيرة, لتسيطر على الموصل وصلاح الدين وقسم كبير من الأنبار وتقترب من بغداد عبر بوابة ديالى.
أثرت الحرب الأخيرة في العراق إيجابيا على تنظيم الدولة, رغم خسارته عدداً من قياداته وأعداداً من عناصره, إلا أنها أثرت إيجابيا على حاضنته الشعبية, وعلى تسليحه وتمويله, والذي يمثل فائض قوة يهدد الثوار السوريين على المدى البعيد فيما لو وجّهت ضربات عسكرية أجبرت التنظيم على الانسحاب من المناطق التي سيطر عليها, ما تشجّع عليه السياسات الدولية فيما لو استمر التنظيم بتصدر الصورة, أو انفكّ إطار التحالف بينه وبين ثوار العشائر وفصائل المقاومة السنية, ما يشجع عليه سلوك التنظيم نفسه الذي يهدد مشروعية هذه الثورة العراقية عالميا, كما يهدد وجودها ميدانياً, رغم فوائد التحالف المؤقت والحذر بين الطرفين.
أدت التطورات في العراق إلى استنفار الميليشيات الشيعية لمقاتليها في العراق وسوريا, والانسحاب المستمر لهذه الميليشيات نحو العراق, الانسحاب الذي سيبلغ مداه الأقصى فيما لو بدأت معركة بغداد, ويؤذن ذلك بضعف النظام وتضعضع سيطرته على قسم كبير من الجبهات التي يملؤها العراقيون, ما سيشكل عبئاً إضافيا على النظام السوري وحزب الله, ويمكن أن يحقق الثوار السوريون تقدّماً مهمّا بسببه.
على الجانب الكردي, فإن سيطرة حكومة إقليم كوردستان على كركوك, ودخولها في الصراع الدائر, قدم لها فوائد اقتصادية وجيوسياسية في العراق, ومزيداً من القدرة على دعم الفصائل الكردية الحليفة لها في سوريا, والتي تدخل في صراع مشابه مع تنظيم دولة العراق والشام في سوريا.
وإيرانيّاً, فإن الإيرانيين تلقوا الضوء الأخضر أمريكياً للتصدي لتقدم ثورة العشائر السنية الأخيرة, ما يضع الإيرانيين أمام احتمالين قد يكون التخلي المؤقت عن الجبهة السورية أحدهما في حال اعتمدت على الميليشيات العراقية فقط في التصدي للحراك الأخير, أو قد تدفع بالتدخل العسكري إلى أقصاه بمضاعفة وجود الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا, ما لا يبدو أن الإيرانيين قادرون على تحمل نتائجه على المدى البعيد, الأمر الذي يرجح وقوفهم مع أي تفاوض ممكن يمكن أن يهدئ الساحة العراقية, الأمر الذي يبدأ من استقالة حكومة المالكي التي يبدو أنها أصبحت في حكم المجمع عليه دوليّاً, رغم مصلحة الأمريكيين في إنهاك الإيرانيين وإدامة أمد الصراع.
وإقليميّاً, رغم مايبدو من رضا عربي محدود عن الثورة العراقية, وما يوحي بتنسيق ودعم خفي لبعض القوى الفاعلة فيها, خاصة مع تصاعد لهجة السعودية وهجومها على سياسات المالكي الطائفية, فإن غياب أو تحجيم أي مشروع إقليمي حاضن للعرب السنة في المشرق العربي, ويتبنى قضية الثورات العربية عامة والثورة السورية خاصة ولا يقطع أي طريق سياسي أمام الإسلاميين, سيؤدي بالضرورة إلى إعادة إنتاج الأزمات في المشرق, ويكرس ديمومة المحرقة السورية, ويعطي مشروعية للمشاريع الأكثر تشدّداً.
ودوليّاً, فإن التخوف من تأثير صعود تنظيم دولة العراق والشام, يقابله رغبة بإنهاك الإيرانيين وسحب أوراقهم التفاوضية في الملف النووي, ما يحول دون نية حسم قريب للمسألة السورية التي تمثل محرقة للإرهابيين ومنفى لأزمات المنطقة, وما يمنع من تأييد مطالب الثوار العراقيين المتحالفين مع تنظيم دولة العراق والشام, التحالف الذي يخشى الثوار العراقيون أن يبدؤوا بنقضه فيؤدي ذلك إلى وقوفهم وحيدين في المعركة, دون ظهور إرادة دولية جدية لتقليص النفوذ الإيراني أو تأييد تمثيل سياسي قوي للعرب السنة في العراق أو في سوريا, مع طغيان أولوية محاربة “الإرهاب” على مستوى السرديات أو السياسات, إن المستقبل بالنسبة للعراق وسوريا قد يحمل انفراجات خفيفة, ولكنه سيبقى غائماً ومغيّباً على المدى البعيد.
خاتمة
إن هدوء العراق يعني تصدير أزماته نحو سوريا, والتي تصب جميعاً ضد الثورة السورية (وضد الثورة العراقية أيضاً), سواء من طرف الميليشيات الشيعية أو من طرف دولة العراق والشام, أما تحرك العراق فيعيد رسم السياسات الإقليمية وأولوياتها تجاه أزمات المنطقة المترابطة, ويقدم فوائد ميدانية للثورة السورية بانسحاب الميليشيات الشيعية ولكنه يهددها بفائض القوة الذي حققه تنظيم دولة العراق والشام.
وانهيار الحدود الجغرافية السياسية كما نعرفها, يسهل من مهمة الكيانات العابرة للحدود مثل تنظيم دولة العراق والشام ودولة كوردستان, ويكرّس قدراً من الفوضى التي تجعل مهمة إعادة الضبط والسيطرة على الواقع من قبل الأنظمة الحاكمة –قديماً- أو النظام العالمي أكثر صعوبة.
إن حل المشكلة السورية المتروكة والمكرّسة دوليّاً كمحرقة للإرهابيين ومنفى لأزمات المنطقة, مرتبط بحل المشكلة العراقية , وكلاهما مرتبط بوجود إرادة إقليمية عربية بتبني قضية الثورات العربية والحق في التمثيل السياسي, والوقوف في مقابل المشروع الإيراني لا في مقابل المشاريع الديمقراطية والتحررية للشعوب.
– كاتب وباحث سوري ـ منتدى العلاقات العربية والدولية ـ