يحمل الزحف المذهل الذي حققه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») في شمال العراق وغربه خلال الأسبوع الثاني من حزيران/يونيو، تبعاتٌ عسكرية كبيرة على الحرب في سوريا. فالتزامات هذه الجماعة الجهادية في العراق سبق وأن تركت تأثيراتها السلبية والإيجابية على قواتها وعملياتها في سوريا. ومن المحتمل مستقبلاً أن تستغل الفصائل الثورية السورية حملة تنظيم «داعش» في العراق للتحرك ضد مواقع التنظيم المذكور في سوريا وخاصة في محافظة الرقة. كما أنها قد تتمكن من الاستفادة من انسحاب المقاتلين العراقيين الشيعة الذين كانوا يحاربون لصالح نظام الأسد في السابق. وبالنسبة للنظام، سوف يستدعي الوضع مجهوداً إضافياً من جانب قواته الوطنية وربما من جانب حليفه «حزب الله» أيضاً، الذي قد يضطر إلى إكمال المسيرة التي تركتها العناصر العراقية المغادرة. ومن المحتمل كذلك أن تكون قوات بشار الأسد قد زادت من عملياتها العسكرية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» منذ نشوب الأزمة الأخيرة، الأمر الذي يزيد من الضغط على موارد النظام العسكرية المحدودة والمشتتة.
وإذا استمرت الحرب في العراق لبعض الوقت وعلى مستوياتها الخطيرة - كما يبدو مرجحاً - ستصبح هذه التأثيرات أكثر بروزاً في سوريا. إلا أن تطورات ساحة المعركة في كلا البلدين ستوفر أوضح المؤشرات عن الجهة التي تستفيد من الوضع وتلك التي لا تستفيد منه.
مدى تقدم «داعش» وماذا يعني ذلك
في وقتٍ سابق من هذا الشهر، بدأت قوات «الدولة الإسلامية في العراق والشام» زحفاً سريعاً في شمال العراق فهزمت القوات الحكومية واستحوذت على مدينة الموصل الهامة بشنها هجوم مفاجئ. وبما أن قوات التنظيم لم تواجه أي مقاومة تُذكر، واستفادت من دعم العراقيين السنة المستائين، واصلت «داعش» زحفها نحو الجنوب، واجتاحت في طريقها المرافق العسكرية التابعة للجيش العراقي واكتسحت المزيد من المدن والبلدات حتى بات خطرها يهدد سامراء وبعقوبة، إلى أن وصلت إلى ما يقرب من سبعة وثلاثين ميلاً من بغداد نفسها. وقد تباطأ هذا التقدم مع احتدام التصدي الذي أبدته الحكومة، وهو الأمر بالنسبة لتعبئة الميليشيات والمتطوعين الشيعة فضلاً عن العراقيين العائدين من سوريا، والقوات الإيرانية أيضاً - كما أفادت التقارير. وفي غضون ذلك، ضبطت القوات الكردية أمن مدينة كركوك الشمالية ومنعت دخول تنظيم «داعش» إلى المناطق التي تحت إدارة "حكومة إقليم كردستان".
ومع إرساله قوات يقدّر عددها ببضعة آلاف عنصر، تمكّن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» من إيصال العراق إلى حافة الانهيار، وهزيمة تشكيلات عسكرية رئيسية، والاستيلاء على كميات كبيرة من المعدات العسكرية، ونهب مئات الملايين من الدولارات من المصارف العراقية، والبدء بتكوين نفوذه كسلطة حاكمة على مساحة كبيرة من الأراضي السنية. بيد، أن كل ذلك لم تحرزه «داعش» بمفردها، بل تعاونت مع القوات العشائرية السنية ومع البعثيين السابقين من نظام صدام حسين. وصحيحٌ أن زحف تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» قد تباطأ، إلا أنه لم يتوقف - بل أوجد واقعاً جديداً في العراق وتداعياتٍ تتبلور شيئاً فشيئاً على مختلف الفاعلين في سوريا.
التأثيرات على «داعش» في سوريا
من المرجح أن أن تثبت حملة «داعش» في العراق أنها سيفٌ ذو حدين بالنسبة للتنظيم في سوريا. ويقيناً، إن الآثار الإيجابية على قواته متشعبة ومتعددة، وستزداد قوة التنظيم ككل على المستويين السياسي والنفسي في المستقبل القريب. وسوف يُعتبر ناجحاً في المعارك وقادراً على إحراز إنجازات تنظيمية ولوجستية، ومحنكاً ومرناً في عملياته. وسيتم تعزيز صورة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» باعتبارها قوة لا تقهر، وسوف لا يرى أولئك الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» أملاً يذكر بالتحرر من حكمها.
بالإضافة إلى ذلك، ستستفيد «الدولة الإسلامية في العراق والشام» من الأموال الطائلة التي استولت عليها من المصارف العراقية والتي تقدرها التقارير بما يصل إلى 495 مليون دولار. وستعزز هذه المبالغ من قدرة التنظيم على بناء قواته وتسليحها، وممارسة الحكم وتوفير السلع والخدمات في المناطق الخاضعة لسيطرته.
ولعل الأهم من ذلك هو أن القدرات العسكرية لتنظيم «داعش» قد توطّدت من خلال استحواذه على كميات هائلة من الآليات العسكرية والأسلحة والذخائر التي تعود للجيش العراقي، فضلاً عن استقطاب المجندين الجدد. وعلى أقل تقدير، إن هذه الغنائم ستتيح للجماعة تسليح المزيد من المقاتلين وتجهيزهم، وتسهيل حركتها وزيادة قوتها النارية. وسيَحدث ذلك على افتراض أن «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ستتمكن من إعادة استعمال المعدات التي استولت عليها ودمجها مع ما تملكه والحفاظ عليها. وقد ظهرت أشرطة مصورة جديدة عن عمليات نقل مثل هذه المعدات إلى سوريا، كما وسبق لوحدات «داعش» في العراق أن بدأت باستخدام سيارات "الهامفي" والشاحنات التي استولت عليها؛ وثمة إمكانية بأن تستخدم الدبابات والمدافع المستولى عليها أيضاً. وربما تبدأ أصداء هذه التطورات بالتردد في سوريا قريباً.
بيد أن حملة تنظيم «داعش» في العراق ستخلّف على الأرجح آثاراً سلبية على قوات التنظيم في سوريا. وأول هذه الآثار هو احتمال تشتيت القوات. فمع أن نسبة قوات «داعش» التي تحارب في العراق ليست واضحة، يُعتقد بأنها تعادل نصف عدد القوات الإجمالي البالغ 10 آلاف عنصر، أو ربما أكثر من ذلك. وقد تضطر «داعش» إلى تخصيص قوات أكبر في العراق، مما يضعف مركزها العسكري في سوريا. أما الأثر الثاني فهو أن المساحة الشاسعة من الأراضي العراقية التي فرض عليها التنظيم سيطرته الإسمية على الأقل، قد تستلزم هي أيضاً قوات إضافية من سوريا لمقاومة التدابير المضادة التي تتخذها الحكومة العراقية من جهة، ودعم السيطرة على هذه المناطق من جهة أخرى. ثالثاً، يُقال أن نظام الأسد قد كثّف من عملياته العسكرية ضد «داعش» وربما بالتنسيق مع الحكومة العراقية - ويظهر أن ذلك جاء رداً على قيام التنظيم بنقل المعدات العسكرية التي استولى عليها إلى سوريا. وبين 15 و16 حزيران/يونيو، ضربت قوات النظام السوري الجوية مواقع تابعة لـ «داعش» في محافظتي الرقة والحسكة. وإذا تكررت هذه الضربات بشكل منتظم، فسوف تلقي عبئاً إضافياً على تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وربما تضعف قدرته على القتال في سوريا.
التأثيرات على الثوار السوريين ونظام الأسد
تواجه «الدولة الإسلامية في العراق والشام» اليوم حرباً محتملة على ثلاث جبهات: ضد فصائل الثوار السورية، وضد قوات الحكومة العراقية، وربما ضد نظام الأسد، مع العلم أن هذا الأخير قد تجنّب إلى حد كبير الاشتباك مع التنظيم حتى الآونة الأخيرة. لذلك من المحتمل أن يحول هذا الوضع دون حشد «داعش» لمواردها ضد أعدائها السوريين، ويُفترض أن ذلك سيمنح هؤلاء الأعداء فرصةً للتحرك ضدها. ويبدو أن قدرة التنظيم على الدفاع عن مناطقه في محافظات الرقة وحلب قد ضعفت مؤخراً، الأمر الذي مكّن الثوار من استغلاله بعض الشيء. وفي الوقت نفسه، تباطأ هجوم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في محافظة دير الزور على أقل تقدير، الأمر الذي خفف من العبء عن كاهل خصومها الإسلاميين في المنطقة.
كذلك من المفترض أن يستفيد الثوار من عودة المقاتلين العراقيين من سوريا إلى العراق. فالمقاتلون العراقيون الشيعة شاركوا بشكل مكثف في المعارك حول دمشق وحلب، لذلك أضعف رحيلهم من تحالف القوات الفعال الذي اعتمد عليه النظام لإحراز انتصارات. وقد تشتد حدة هذه الآثار إذا ما تم إرسال [ميليشيات من] «حزب الله» أو قوات إيرانية عاملة في سوريا إلى العراق. وبالفعل، أشار زعيم «حزب الله» حسن نصر الله أن منظمته ستقدم المساعدة [من أجل القتال] في العراق إذا طُلب منها ذلك، مع أنه يُرجح أن تزيد الجماعة من التزامها في سوريا بدلاً من ذلك.
وفي كافة الأحوال، إن رحيل بعض القوى الحليفة سيلقي عبئاً أكبر على قوات النظام الوطنية - النظامية منها وغير النظامية - المشتتة أصلاً في مختلف الاتجاهات وتتكبد خسائر فادحة. وفي حين يُقال إن «حزب الله» يعوّض بالفعل بعضاً من هذا النقص، إلا أن قواته المتواجدة في سوريا لا تزال تتكبد خسائر، بينما يسبب التزامه تجاه الأسد مشكلة سياسية في وطنه لبنان. وعلاوة على ذلك، إذا تواصلت الضربات الجوية المعلنة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في شرق سوريا، فسيتم تحويل طاقة النظام الجوية المحدودة بعيداً عن مهاجمة المعارضة في مناطق ذات أهمية استراتيجية أكبر في أنحاء البلاد، مما سيخفف بعض الضغط من على قوات الثوار والمدنيين.
التوقعات
من المرجح أن يستمر القتال المتفاقم في العراق لبعض الوقت. وحيث تباطأ الآن الزحف الأولي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، فليس لدى الجماعة ولا الحكومة العراقية القدرة على تغيير الوضع في ساحة المعركة بشكل سريع أو جذري. لذا من المحتمل أن يطول القتال دون أن يكون حاسماً، مخلّفاً تأثيرات مشابهة على الوضع في سوريا.
ومع مرور الوقت، من الممكن أن تصب حرب الاستنزاف المستمرة في العراق في مصلحة قوات الثوار في سوريا. ففي حين تعتبر «الدولة الإسلامية في العراق والشام» متقنة التنظيم وقوية في بعض النواحي، إلا أن خوض حرب على جبهتين أو ثلاث جبهات سيستوجب منها تخصيص الموارد ضد عدة تهديدات، واستبدال الخسائر التي تلحق بها في المعارك، فضلاً عن ضمّ المعدات المسروقة إلى عتادها، وإحكام سيطرتها على المناطق الجديدة التي تستحوذ عليها، وتلافي الهجمات العراقية المضادة وزحف أعدائها مغتنمي الفرص في سوريا. وتشكل هذه الأمور تحدياً خطيراً لتنظيم بهذا الحجم.
وفي سوريا، ليس من الواضح إلى أي مدى يستطيع الثوار الاستفادة من هذا الوضع. فقد تسنح لهم الفرص لتحقيق المكاسب ضد «داعش» والنظام، لكن قدرة الثوار على انتهاز هذه الفرص ليست أكيدة. ومن المرجح أن يعني ضعفهم القيادي بأن أي رد من هذا القبيل سيكون مرتجلاً ومستنداً على التحالفات القائمة أو الجديدة لوحدات الثوار. وهذا الأمر قد يضعف من احتمالات إحراز نصر كبير على أعدائهم.
أما بالنسبة لنظام الأسد، فإن الوضع العراقي يشكل تحدياً رئيسياً آخر. فسوف تحتاج دمشق إلى إيجاد وسيلة للتعويض عن خسارة حلفائها المقاتلين العراقيين وربما لتكثيف القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في المناطق التي تعاني فيها قوات النظام من الضعف. وعلاوة على ذلك، فإن أي انتصار تحققه ضد «داعش» قد يساعد فعلاً المعارضة السورية.
ومرةً أخرى، ستحدد الأحداث في ساحة المعركة الآثار الحقيقية للأزمة. فإذا خاضت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» حرب استنزاف مطوّلة في العراق، فقد يضعف مركزها في سوريا بشكل واضح. أما انتصارات الثوار أو خساراتهم في وجه نظام الأسد فستحدد ما إذا استطاعوا استغلال الوضع أم لا. وبالمثل، فإن إحراز النظام للمزيد من الانتصارات على الثوار، وحدوث زيادة في قوات «حزب الله»، قد يشير إلى أن الأسد يتغلب على الآثار السلبية للأزمة. وسيكون هناك الكثير من المزاعم المتضاربة بهذا الشأن، ولكن الحقائق على أرض الواقع ينبغي أن تصبح واضحة.
وأخيراً، بينما زاد تقدم تنظيم «داعش» في العراق من تعقيد الحرب السورية، إلا أنه يمثل أيضاً فرصة أخرى للولايات المتحدة وحلفائها لتحقيق المكاسب بوجه الأسد. فتقديم المساعدات العسكرية لجماعات الثوار المعتدلين في سوريا قد يساعدهم في الاستفادة من الوضع [الحالي] وبالتالي يتيح لهم التحرك بشكل أكثر فعالية ضد «الدولة الإسلامية في العراق والشام» - التي هي عدو الجميع - وضد النظام، الذي هو عدو الأكثرية. ونظراً إلى أن المعدات العسكرية الأمريكية التي صادرتها «داعش» قد تؤثر قريباً على إمكانياتها في سوريا، فقد يحتاج هؤلاء الثوار اليوم إلى مساعدة أمريكية ملموسة أكثر من أي وقتٍ مضى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جيفري وايت هو زميل للشؤون الدفاعية في معهد واشنطن وضابط كبير سابق لشؤون الاستخبارات الدفاعية.