1 ـ القط العراقي والكلب الفلسطيني:
في رواية أحمد سعداوي الفائزة هذا العام بجائزة بوكر "فرانكشتاين في بغداد" فقرة عن قط العجوز أم دانيال.
وأم دانيال هذه لا تريد أن تغادر بغداد على الرغم من أنه لم يبق لها أحد فيها.
ابنها دانيال استشهد في حرب العراق ـ إيران، ما بين 1980 ـ 1988، وابنتاها هاجرتا وأقامتا في المنافي.
وحين ألحّت الابنتان على الأم أن تترك المدينة المدمّرة وتلتحق بهما في المنفى كانت الأم ترفض، وتصرّ على البقاء في البيت، حتى يعود دانيال، فهي لم تصدق أنه مات ولن يعود.
وستحتال الابنتان على أمهما، فترسلان دانيال الذي سمّي باسم خاله، وكان يشبهه بالتمام والكمال، وهكذا تقرر الأم المغادرة، ولكن ماذا بشأن قطها؟
تبيع أم دانيال البيت وتسلم مفاتيحه وتمسح بنظراتها كل شيء فيه، وستنادي على نابو "لكي تحمله معها" ولكنه "فرّ إلى السلم"، وتصيح عليه وكأنه يعقل ما تقول.
تطلب منه أن يأتي، ولكنه يلتفت إليها ويطلق مواءً متموجاً، "وكأنه يخبرها بأنه ليس جباناً مثلها ولن يغادر هذا البيت، ثم خطا مسرعاً إلى الأعلى واختفى في إدارة السلم" (ص296).
وأنا أقرأ الفقرة السابقة من رواية "فرانكشتاين"، سأجد نفسي أدوّن على الهامش: "مثل كلب توفيق فيّاض سمور.".
توفيق فياض كاتب فلسطيني يقيم في تونس، وكان غادر فلسطين في العام 1974، إثر عملية تبادل أسرى بين مصر وإسرائيل، فقد سجن في بلده بتهمة العمل لصالح مصر.
كتب توفيق القصة القصيرة وأصدر مجموعتين هما "الشارع الأصفر" 1968 و"البهلول" 1978، وفي الأولى قصة عنوانها "الكلب سمور"، وقصة هذا الكلب قصة.
كان بوقاسم ربّى سمور الذي ماتت أمه يوم ولادته، واهتم به اهتماماً لافتاً، حتى غدا واحداً من الأسرة، وقد دافع الكلب عن بوقاسم وأسرته ويوم حاول الجنود الإنجليز الاعتداء على بوقاسم تدخل سمور وهاجم الجندي الإنجليزي الذي اعتبر هذا هجوماً على قامته، فأصدر أمراً باعتقال الكلب، وهكذا أنفق سمور فترة من حياته في السجن، وظل الكلب مع العائلة، وفي العام 1948 لم تتركه هذه، فقد هاجرت واصطحبته معها، وهام في القفار كما هامت، ولكنه لم يقو على الغربة، وذات صباح سار عائداً باتجاه قريته تاركاً صاحبه وأهله مؤثراً العودة إلى الوطن، وحين افتقده بوقاسم في الصباح، وسأل ابنه قاسم عنه، أجاب الابن: "ـ على الأقل، رجع يموت في الدار يابا... مش مثلنا، نموت مهججين من الجوع والعطش، لا بيت ولا مأوى".
القط العراقي ذكرني بالكلب الفلسطيني، فهل الحيوانات أكثر وفاء للبلاد/ الأماكن، منا نحن البشر؟
العجوزان العراقيتان وأم ابراهيم الفلسطينية :
هل تختلف أم دانيال في رواية سعداوي عن الدكتورة العراقية وردية اسكندر في رواية "إنعام كجه جي" "طشاري"؟ وهل تختلف هاتان عن أم ابراهيم في قصة نجوى قعوار فرح "أمر الاختيارين"؟
أم دانيال، رغم قسوة الحياة في بغداد بعد احتلالها، تهاجر وتبيع البيت، ولا يختلف أمر د. وردية. هاجر الأهل وأقاموا في المنافي البعيدة، والأحوال في بغداد تسوء وتسوء: انفجارات وحصار وثمة أجواء كريهة غدت تبرز لم تكن العراق لتعرفها من قبل: الطائفية، ومن سيخدم العواجيز الذين آثروا البقاء في أرض الوطن؟ تفرق العراقيون أيدي سبأ، تفرقوا طشاري وغدوا، مثل أهل فلسطين، ملح الأرض. هل أكتب: غدوا مثل اليهود في القرون السابقة، ومثل الغجر أيضاً؟ وهكذا تهاجر أم دانيال وتهاجر د. وردية، وتتركان منازل الصبا والشباب لفرانكشتاين يقتل بلا هدف، وللأميركان يخربون ويخربون محققين شعارهم: الفوضى الخلاّقة.
أم دانيال ود. وردية ذكرتاني بقصة نجوى قعوار فرح "أمر الاختيارين"، وهي من قصص النكبة التي قرأناها لأدباء 50 و60ق 20، لسميرة عزام وغسان كنفاني وتوفيق فياض ونجاتي صدقي أيضاً.
هل ننسى قصة الأخير "عنبر رقم 5"، وقصة سميرة عزام "فلسطيني" أو قصتها "لأنه يحبهم"؟ وهل ننسى قصص كنفاني العديدة مثل "القميص المسروق"؟ كأن النكبة جرح ما اندمل، على الرغم من مرور 66 عاماً! إنها تتسع وتتسع مثل خرق في ثوب بال، كلما حاولت ترقيعه ازداد تشققاً واتساعاً.
هاجر الفلسطينيون إلى الكويت والعراق وسوريا ولبنان والأردن، وانتظروا العودة عقوداً، ثم ساءت الأحوال، فساحوا في الأرض: فنزويلا وايطاليا والدول الاسكندنافية، وعبرت الروايات عن المنافي الجديدة، ولعل أبرزها رواية سامية عيسى "حليب التين".
في قصة نجوى قعوار فرح التي هي واحدة من نماذج أدب النكبة، يصمد أبو ابراهيم وزوجته ويظلان يحرسان البيت والحقل وأشجار الزيتون، ولكن القلب ينشطر شطرين، يعشق شطر الأرض، ويظل شطر يصبو نحو ابراهيم وإخوته الذين أصبحوا لاجئين.
ويقع ابو ابراهيم في حيرة من أمره، أم ابراهيم لا تقوى على فراق أبنائها، ولما كانوا لا يستطيعون العودة، إذ سيعدون لاجئين، فقد قررت أن تذهب إليهم وتترك الحقل والأرض والشجر، وليس أمامها إلاّ الشكوى أمام الزوج، عله يحن ويعزم أمره ويرحل، وهو أمام خيارين أحلاهما مر.
هكذا يرضخ أبو ابراهيم لزوجته ويلتحقان بأولادهما في المنفى، والمنفى قاسٍ وصعب ومر، والمنفى خيام وبيوت أشبه بالتوابيت، ولا أشجار هناك ولا حقول.
مائة متر فيها خيمة أولاً، وغرفة من طوب لاحقاً، و.. و.. يا إلهي، فقد صرنا لاجئين، ننتظر آخر الشهر لنتسلم كيس طحين وقليلاً من السكر والرز والسمنة و... وسيموت ابراهيم، فالقلب لا يقوى على العيش بعيداً عن الحقل وعن شجرة الزيتون.
بغداد أحمد سعداوي ويافا أنور حامد:
منذ فازت "فرانكشتاين" ببوكر وأنا أتابع ما ينشر عنها، والروابط التي أعادت نشر مقالي، وقد بلغت، حتى مساء الخميس، لحظة كتابة هذا الدفتر، 301 رابط.
والأيام نشرت الثلاثاء 6/5/2014 مقابلة مع مؤلف الرواية أتى فيها على ظروف كتابته التي مر بها، وأشار إلى كتابته عن أماكن محددة ورد ذكرها في الرواية.
"خلال فترة كتابتي الرواية كنت أزور حي البتاويين الذي تدور فيه أحداث الرواية كثيراً، وأتحدث إلى السكان هناك. كنت أتفحص كل شيء، أحصي عدد السلالم وأتفحص الجدران ونسبة رطوبتها، وكأني مهندس معماري لأحاول أن أتصور حجم الدمار الذي سيخلفه تفجير ما في هذا المكان".
رأيه في علاقة الكاتب في المكان راق لي كثيراً، لأنني تجادلت في الموضوع مع الكاتب الفلسطيني حسن حميد صاحب رواية "مدينة الله". كنت تساءلت كيف يكتب كاتب رواية كاملة عن مكان لم يره ولم يزره ولم يقم فيه فترة طويلة، وربما كان كتاب محمد يوسف نجم فن القصة ولد لديّ مثل هذا السؤال، ربما، ففيه يكتب نجم عن البيئة التي يكتب عنها الكاتب، ويقترح على الكتّاب ألاّ يكتبوا عن أماكن لا يعرفونها.
منذ فترة وأنا أفكر في كتابة مقالة عن رواية أنور حامد "يافا تعد قهوة الصباح" (2012) وكانت رشحت لبوكر وحظيت بأن تكون ضمن القائمة الطويلة في العام 2013.
حقاً لم ترق لي الرواية، وهذا رأي شخصي غير ملزم لأحد، ولكنه رأي أجهر به حتى لو خسرت صداقة كتاب.
منذ فترة كتب لي فاروق مواسي معقباً على خربشات أكتبها على الـ فيسبوك: لن تجد لك فيما بعد صديقاً. وذكرني بما قاله له الكاتب الإسرائيلي ساسون سوميخ: فاروق يكسب عشر ليرات ويخسر صديقاً. يقصد المكافأة التي كان ينالها على مقاله.
كل ما أعرفه عن أنور حامد أنه من عنبتا، وأنه زار يافا لمدة أسبوعين، ثم كتب روايته عن المدينة، فكانت الرواية رواية عنوانها يمت إلى يافا بصلة، ولكنها ـ أي المتن الروائي ـ لا تمت إلى يافا بأية صلة.
في ذكرى النكبة الـ 66 أتذكر يافا، يافا مدينتي، مدينة أبي وأجدادي، وقد زرتها مراراً، ولكنني لم أكتب عنها أية قصة، لا أعرف شوارعها وبيوتها ولا أتنفس هواء بحرها ولم أعش في مينائها، ولا أعرف شيئاً عن حياة بحارتها، وعن بيارات برتقالها.
كل ما أعرفه عن يافا هو ما قرأته عنها في الشعر وفي النثر، وما سمعته من أهلي عنها.
وكل هذا لم يكن دافعاً للكتابة عنها، ماذا بقي من يافا في العام 66 للنكبة؟ مات أبي، ومات أعمامي، ومن قبل مات جدّاي وجدّتاي، وحين أسأل: من أي المدن أنت؟ أجيب: من يافا، وأقيم في نابلس، وثمة حنين خفي لتلك المدينة، ليافا... وثمة يافا!!.